عبارتان لهما رنين خاص فى قاموس الدبلوماسية المعاصرة فالغموض البناء تعبير جرى استخدامه بواسطة بعض الدبلوماسيين الامريكيين فى مطلع السبعينيات والقصد منه أن يكون النص مقبولا فى عمومه مبهما فى بعض تفاصيله ولعل اكبر مثال تاريخى لذلك القرار البريطانى 242 الذى اصدره مجلس الأمن بخصوص مشكلة الشرق الاوسط عام 1967
فلقد جري فيه قصدا حذف أداة التعريف من الأراضي المحتلة حتي يتحقق له قبول لدي كل الأطراف بغض النظر عن دقة المضمون, واذا كان الشيطان يكمن في التفاصيل فإن العموميات تفتح الطريق أمام حالة أمل يمكن ان تمتص حدة الصراع وأن تستهلك قدرا من التصعيد المحتمل, ولقد برعت دبلوماسية هنري كيسنجر في استخدام مفهوم الغموض البناء ويكفي أنه صاحب نظرية إدخال البعد الزمني كعنصر فعال في حل المشكلات علي اعتبار أن مالا يرتضيه الأطراف جميعهم أو بعضهم في مرحلة معينة قد يقبلون به في مرحلة لاحقة وقد يكون الحل الأمثل في مشكلة دولية ـ من وجهة النظر الكيسنجرية ـ أن يغلق ملفها لسنوات تحدث فيها تغيرات وتتطور فيها أمور بصورة تجعل ما كان مستحيلا ممكنا وما كان صعبا ميسورا, أما تعبير التفاؤل الحذر فالقصد به الإشارة إلي بدايات التحرك نحو حل مشكلة معينة أو الاتجاه بها علي طريق إيجابي دون أن تكون موافقات الأطراف قد تمت ربما لأن الصورة غير واضحة أو لأن الغموض يكتنف بعض بنود الاتفاق الذي يجري الإعداد له ولقد وردت العبارتان الدبلوماسيتان علي خاطري واستعادتهما ذاكرتي لمناسبة مايجري في الشرق الأوسط حاليا ودون أن استغرق في التفاؤل حذرا أو غير حذر ودون أن أقع فريسة الغموض البناء أو غير البناء فإنني أري ان القضيتين الأساسيتين في عالمنا العربي تستحوذ كل منهما علي واحد من هذه التعبيرات الدبلوماسية الشهيرة.
الغموض البناء والقضية الفلسطينية
إن المتابعة الدقيقة لمجريات الأمور في الصراع العربي ـ الإسرائيلي والمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية تحديدا توحي بأن شيئا مايجري طبخه علي نار إسرائيلية داخلية غير واضحة المعالم أو محددة الأبعاد إلا أن أمرا مايحدث ونشعر به وإن كانت تفاصيله غير واضحة وملامحه مبهمة وأعني بذلك مسألة الانسحاب الإسرائيلي من غزة مع الإعلان عن تفكيك المستوطنات فيها أحيانا والرجوع في ذلك أحيانا أخري ولكن الأمر المؤكد هو أن إسرائيل قد شعرت بأن غزة المكتظة سكانا والمعقل التاريخي لحركة حماس لم تعد مصدر تأمين لإسرائيل وجبهتها الجنوبية, وأنه قد يكون من الأفضل لها الانسحاب منها وترك أمر حفظ الأمن فيها لترتيبات مصرية إسرائيلية وربما أردنية إسرائيلية أيضا في ظل حوار متصل بين الأطراف المصرية والفلسطيينية في جانب والمصرية ـ الإسرائيلية في جانب آخر والغموض البناء هو واحد من أدق التعبيرات التي تنسحب علي ذلك الظرف الذي تمر به القضية الفلسطينية فهناك إحساس بأن شيئا مايجري الإعداد له والتصريحات تتوالي دون أن تجد قبولا إسرائيليا كاملا لما يدور أو رفضا فلسطينيا قاطعا لما يجري ولكن كل الأطراف تراهن علي صيغة مبهمة بعد أن توارت خارطة الطريق ولم يعد لها وجود فاعل علي ساحة النزاع وقيمة الغموض البناء كتعبير هي أنه يعطي كل طرف قدرا من الأمل الذي يتسم بدرجة عالية من الضبابية وغيبة الشفافية وترك كل طرف يفسر الأمر وفقا لرؤيته ومصالحه علي اعتبار أن الشيطان قادم بعد ذلك في التفاصيل والفرعيات كما يقال دائما ولقد رأينا كيف فشل استفتاء شارون علي خطته, ثم عاد وعدل فيها وطرحها علي مجلس وزرائه بعد إعفاء اثنين من المعارضين لها وهو يفعل ذلك كله دون أن يعبأ بالطرف الفلسطيني مكتفيا بإطلاق بالونات اختبار يحاول أن يحصل بها علي تصور معين لما هو قادم وما يمكن قبوله, والطرف الأمريكي يعطي هو الآخر تطمينات فضفاضة وأكثر إبهاما للطرف الفلسطيني مثلما حدث في لقاء رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع مع كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي الأمريكي في أثناء لقائهما في اوروبا منذ اسابيع لذلك كله فإنني اتصور ان قبول مصر ثم الاردن بالمشاركة في الترتيبات الامنية لمراحل ما بعد الانسحاب من غزة وأجزاء من الضفة هي مؤشرات للجانب البناء من الصفقة الغامضة التي لم يرفضها طرف بشدة ولم يقبلها طرف بحماس, إنه الغموض البناء في ادق معانيه.
التفاؤل الحذر والمسألة العراقية
لاشك ان تشكيل الرئاسة العراقية الجديدة ومجلس وزرائها يعد خطوة تثير التفاؤل برغم استمرار تدهور الأحوال الامنية والمواجهات الدامية فوق الارض العراقية إلا أن تعبير التفاؤل الحذر ينطبق هو الآخر علي الوضع هناك فإن اليوم الذي تتقلص فيه او تختفي منه تماما صلاحيات الحاكم الامريكي بريمر ويصبح للإرادة العراقية القدر الاكبر ثم الاوحد في تقرير مصير بلدهم الكبير فإننا نكون قد قطعنا شوطا كبيرا علي طريق خلاص العراق من الوجود الأجنبي وتحرير إرادته مع الحفاظ علي هويته والتمسك بعروبته واستمرار وحدته الاقليمية دون عبث بها او مساس لها, وحسنا فعلت كثير من الدول العربية في أن أقبلت علي التشكيلة العراقية الجديدة باهتمام لا يخلو من الحماس وتواصل لا تنقصه الايجابية, فالعراق بلد له وزنه الثقيل في الشرق الاوسط عموما والمنطقة العربية خصوصا واستقراره هو مسألة حاكمة في تحقيق التوازن بمنطقة الخليج والمشرق العربي, وفي ظني أن ذلك التفاؤل الحذر يجب ان يستوعب التطورات المحتملة والتغييرات المنتظرة فسوف تسعي الولايات المتحدة الامريكية للحصول علي اكبر عائد من نتائج مغامرتها الكبيرة منذ إسقاط النظام السابق والوجود الكثيف في ارض الرافدين ولن
نندهش كثيرا لو شعرنا بسعي امريكي حثيث لتوقيع اتفاقية سلام بين العراق الجديد واسرائيل لان ذلك جزء من سيناريو الشرق الاوسط واحتمالاته القادمة, فالتفاؤل الحذر الذي نتحدث عنه في العراق هو تفاؤل يرتبط باحتمالات الاستقرار والانضباط الأمني وتوقف حالة التسيب التي يعاني منها ذلك الشعب صاحب الحضارة القديمة, ونحن ندرك ان العراق سوف يدخل في سلسلة من المحاكمات لرموز العهد السابق, ونأمل ان تمر مرحلة الثأر باقل الخسائر علي وحدته الوطنية وسلامته الاقليمية, أما الحذر فيأتي من علمنا بأن الشعب العراقي شعب شديد المراس غير سهل القياد تحكمه تركيبة موزاييك خاصة تجعل له خصوصية ينفرد بها ويتميز بوجودها في ظل ظروف دولية واقليمية معقدة للغاية ويوم يتعافي العراق من محنته ويصبح عنصرا فاعلا في اسرته العربية سوف يكون ايضا عنصرا فاعلا في مسيرة الاصلاح التي تسعي اليها شعوب المنطقة وتطالب بها ولا تنتظر من يوحي لها او يفرض عليها.
... إن هذين التعبيرين الغموض البناء والتفاؤل الحذر يرتبطان بظروف المنطقة العربية حاليا وما يجري علي الساحة الفلسطينية وبلاد النهرين وكلها تطورات مفزعة, ومع ذلك فان الافراط في التشاؤم والاستغراق في الاحباط يؤديان الي مزيد منهما بينما يتعين علينا ان نفتح الابواب والنوافذ امام قنوات سياسية جديدة للخلاص من المأزق والخروج من النفق المظلم حتي لو كان ذلك بمفهوم الغموض البناء او التفاؤل الحذر خصوصا أننا في عام الانتخابات الامريكية ولا ينتظر ان يكون هناك تحرك ايجابي فاعل من جانب الإدارة الحالية في واشنطن ويبقي علي الأطراف الاقليمية أن تدبر أمرها, وأن تسعي لإقلال التدهور فيها وهو تدهور مستمر حتي اننا لا نستطيع ان نميز أحيانا بين عمليات القتل والإبادة التي تجري في فلسطين المحتلة او العراق المضطربة, إنه قدر هذه الامة ان تواجه التحديات الصعبة وان تتعامل مع معطيات معقدة بكل سعة أفق وحكمة تاريخية ونضال صبور.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/6/22/WRIT1.HTM