ندرك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمي الأولي في عالمنا, ولا نجادل في حقها أن تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة في العلاقات الدولية, فالذي يقوإننا د المجتمع العالمي يتعين عليه ان يتحمل مسئوليات ضخمة, وان يسعي نحو توازنات حقيقية, وان يظل قادرا علي أن يكون حكما في الصراعات لاطرفا فيها, لكي يصبح عاملا فاعلا في خدمة السلم والأمن الدوليين, ونحن في هذه المنطقة من العالم لم يكن بيننا وبين الولايات المتحدة مشكلات كبيرة, فقد نظرنا اليها في عصر انتهاء الاستعمار التقليدي كقوة جديدة ترفع شعارات الحرية وتحمي تقاليد الليبرالية وتبشر بالديمقراطية, ولكن الأمر اختلف الآن مع التوغل في العصر الأمريكي وبروز طغيان القوة وغياب الحسابات العادلة, إذ انه رغم اعجاب بعض الأجيال الجديدة بالنمط الأمريكي في الحياة والتطلع اليها باعتبارها أرض الأحلام إلا ان الاحباط يبدو شديدا من سياستها الخارجية, خصوصا في الشرق الأوسط وما حملته في السنوات الأخيرة من أسباب للتوتر واحساس عام بالظلم نتيجة استخدامها لمعايير مزدوجة واتباعها سياسة الكيل بمكيالين في أزمات المنطقة الطارئة ومشكلاتها المزمنة, وبحثا عن الموضوعية والتجرد في مناقشة مانريده من واشنطن فإنني أخوض في النقاط التالية:
أولا: إن هذا هو عام انتخابات الرئاسة الأمريكية, وهو آخر وقت يمكن ان يوجه فيه من يريد رسالة للولايات المتحدة الأمريكية حيث الصراع يدور حول مقعد الرئاسة بين الرئيس الحالي جورج بوش ومنافسه الديمقراطي جون كيري وعندما يأتي الحديث عن الشرق الأوسط, فإنهما معا يتفقان علي إرضاء اسرائيل وتبرير اغتيالها للقيادات وهدمها للمنازل وقتلها للأطفال وهو أمر يقلق المواطن العربي ويثير لديه مشاعر الاحباط والحيرة في آن واحد, ولاشك ان سعي الرئيس بوش لفترة رئاسة أخري هو أمر لايرحب به من يفضلون دائما فترة واحدة لكل رئيس أمريكي, يكون اثناءها متطلعا لفترة أخري, وخاضعا للضغوط ولا يتجاوز حدودا مرسومة.
ثانيا: ان الذي يعنينا بالدرجة الأولي هو أن تعطي الادارة الأمريكية الحالية والقادمة الشرق الأوسط والوضع فيه مايستحقه من اهتمام في ظل ظروفه المعقدة والمتدهورة, وأذكر أنه قد جمعتني الأقمار الصناعية في برنامج تليفزيوني مع السيد دينيس روس مبعوث إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون للشرق الأوسط.
وسألته لماذا لاتلقي الولايات المتحدة بثقلها لوضع حد للمواجهة الدامية الفلسطينية ـ الاسرائيلية وكان ذلك عام2002 فكان رده إن الولايات المتحدة لاتريد التدخل للتسوية إلا إذا هدأت الأوضاع في المنطقة وتساءلت يومها لو أن الأوضاع هادئة ماكانت هناك حاجة لتدخل أمريكي أو غير أمريكي, وبهذه المناسبة فقد سمعنا أخيرا أن المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية جون كيري ينتوي في حالة فوزه بالرئاسة اختيار الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون مبعوثا شخصيا له في الشرق الأوسط.
ثالثا: إننا نريد من الولايات المتحدة الأمريكية ـ في إطار علاقة استراتيجية معها ـ ضرورة الأخذ في الاعتبار بسيكلوجية الشعوب وهويتها القومية, وخصوصياتها القطرية, فدراسة العوامل النفسية في تركيبة الأمم ومزاج الشعوب أمور مهمة للغاية, ولعل نموذج التعامل الأمريكي مع العراق منذ دخول قواتها إليه هو دليل افتقاد الخبرة ونقص الدراية, فالشعب العراقي شديد المراس ويتميز تاريخيا بشيء من العنف والخشونة ويأبي ان تسيطر عليه قوة أجنبية بعد سنوات الحصار المفروض وحكم الفرد الديكتاتوري لعدة عقود وكان الأحري بالولايات المتحدة ان تدرس طبيعته جيدا قبل الإقدام علي حل الجيش والشرطة والمخابرات العراقية لأن واشنطن كان يجب أن تدرك ان كل هذه الأجهزة لم تكن صدامية خالصة ولكنها عراقية بما لها وما عليها, وقد حاولت إصلاح خطئها أخيرا بادماج عناصر بعثية في جهاز الحكم تعزيزا لأهل السنة التي ينتمي اليها معظمهم واستفادة من قدرات تلك العناصر وخبراتها.
رابعا: ان البريطانيين والفرنسيين ـ رغم بعض الصفحات السوداء لتاريخهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ لهم خبرة بالمنطقة ومعرفة بأساليب إدارة الأقاليم أو الدول التي يدخلونها أما المنطق الأمريكي فهو يستعيض عن ذلك بالاستخدام المفرط للقوة أحيانا وبالحسابات غير الدقيقة احيانا أخري ولو ان واشنطن استمعت لنصائح دول المنطقة وفي مقدمتها مصر لتعاملت مع الوضع العراقي بطريقة أفضل, ولكانت الصورة مختلفة تماما عن تلك المواجهة اليومية الدامية هناك ويكفيها جرائم سجن أبو غريب سجلا سوف يبقي في الذاكرة الدولية لسنوات طويلة قادمة.
خامسا: لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية حتي الآن من استبدال لغة القوة واستخدام السلاح بلغة التحديث للطرف الآخر ومساعدته الحقيقية علي القيام بعمليات الإصلاح الذاتي ولا يتحقق ذلك دون إدراك ان المساعدة في مجالات الصحة والتعليم والارتقاء بمستويات المعيشة هي مداخل بديلة للقوة العسكرية والانفاق علي التسليح, فالشرق الأوسط يحتاج ـ في معظمه ـ إلي من يدعم بتجرد كامل مسيرة الاصلاح فيه لا أن يسعي لفرضها عليه فلكل منطقة في العالم تصنيف مختلف وأهل مكة أدري بشعابها كما يقولون.
سادسا: تري المدرسة السياسية الأمريكية ان الارهاب الدولي قد نما واستفحل في ظل البيئة الحاضنة في بعض دول الشرق الأوسط حيث لم تتمكن النظم فيها من مواجهة الفقر والقضاء علي الفساد وتمثيل القوي السياسية الفعلية في الحكم القائم, ونحن نقول أيضا في المقابل إن غياب العدالة الدولية والشعور الإسلامي والعربي بالظلم والاستهداف, واستمرار المأساة الفلسطينية هي كلها أسباب ودوافع للعناصر الارهابية ـ رغم أننا لانوافق علي ماتفعل وندين جرائمها التي عانينا نحن أيضا منها ـ ويكفي ان نتذكر ان القضية الفلسطينية قد جري استخدامها مثل قميص عثمان ارتداه صدام حسين كما ارتداه أسامه بن لادن
سابعا: يجب ان تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أنها قد أحرجت الأنظمة العربية المعتدلة خصوصا في السنوات الأخيرة بل وخذلتها أيضا لأنها لم تدرك جيدا ظروف المنطقة ونبض الشارع العربي واحباطاته ومشاعره بل مضت وراء حسابات مطلقة لاتفكر في ردود الفعل ولا تتصرف وفقا لرؤية متكاملة وعادلة بل انني أظن أنها أعطت التطرف السياسي مبررا قويا لكي يقود المنطقة بدلا من لغة الاعتدال المطلوب والحكمة اللازمة.
ثامنا: لعل فهم السياسة الأمريكية لروح الإسلام وتعاليمه تبدو هي الأخري واحدة من النقاط التي نطالب بمراجعتها وإعادة النظر في جوهرها إذ أن واشنطن التي تحالفت تاريخيا مع بعض التيارات الاسلامية في سنوات المواجهة ضد الحزام الشيوعي كانت دائما ـ كدولة متدينة عموما ـ محل قبول عام في العالم الإسلامي بالمقارنة بالاتحاد السوفيتي السابق ومازالت الذاكرة الاسلامية تحتفظ بصورة افتتاح الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت ايزنهاور للمركز الاسلامي في واشنطن عام1959, ولكن واقع الأمر يختلف عن ذلك حيث لاتبرأ الملفات الأمريكية من الخلط بين الاسلام كدين وفلسفة وفكر, وبين ممارسات بعض المتطرفين المسلمين شأنهم شأن المتطرفين في كل دين وقومية.
تاسعا: الدولة التي تقود العالم ينبغي ان تكون لديها درجة قلق متساوية تجاه وجود أسلحة الدمار الشامل وبنفس الدرجة دون النظر لمن يحوزه, ونحن نقول للولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمي الوحيدة في عالم اليوم ان البرنامج النووي الاسرائيلي مصدر قلق شديد لشعوب المنطقة, ولايعقل أن توقع الدول العربية كلها دون استثناء علي معاهدة منع الانتشار النووي وتبقي اسرائيل وحدها متمتعة بميزة الردع المخيف لترسانة سلاحها النووي الذي لم يعد سرا علي أحد, أما آن الأوان لكي تقول واشنطن كلمة عادلة ومسئولة حول البرنامج النووي الاسرائيلي الذي لايزال خارج المظلة الدولية ولايخضع لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟.
عاشرا: لمصر أحيانا عتاب علي السياسة الأمريكية الاقليمية في الشرق الأوسط عندما نشعر بأن هناك تجاوزا لدورها أو تجاهلا لمكانتها, إن السوفييت دخلوا المنطقة من البوابة المصرية في عهد الرئيس عبدالناصر وخرجوا من المنطقة من البوابة المصرية أيضا في عهد الرئيس السادات والولايات المتحدة الأمريكية دشنت وجودها الحقيقي في الشرق الأوسط بزيارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون لمصر عام1974.
.. هذه ملاحظات عشر تدور حول مايتمناه مواطن عربي مصري من الولايات المتحدة الأمريكية والذي يتلخص في عدالة سياستها الاقليمية في الشرق الأوسط, والتوازن في الصراع العربي ـ الاسرائيلي والسعي للمضي في تنفيذ خريطة الطريق, والتعامل مع المسألة العراقية بشكل مختلف.. إنها آمال نعلقها في رقبة تمثال الحرية الرابض فوق الأرض الأمريكية, لعله يستجيب يوما
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/5/25/WRIT1.HTM