تطورت أمور العراق في الأسابيع الأخيرة مع مضي أكثر من سنة علي الوجود الأجنبي فيه بانتهاء حكم صدام حسين رسميا بسقوط بغداد ـ عاصمة العباسيين ــ في قبضة القوات الأمريكية إيذانا حقيقيا ببدء مرحلة مختلفة من تاريخ الشعب العراقي الذي يمتد لآلاف السنين من حضارة الرافدين التي تعرفها أرض ما بين النهرين, وقد بنت الولايات المتحدة الأمريكية ــ كما نعلم ــ حجتها في شن الحرب ضد العراق علي البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي كان مفترضا أن النظام العراقي السابق يحوزها فضلا عن الرغبة العلنية في إسقاط حكم دكتاتوري يهدد أمن وسلام جيرانه واستقرار منطقة الخليج بل والشرق الأوسط كله, وسوف تظل مسألة وجود أسلحة دمار شامل في العراق أبرز نقطة ضعف في تبرير الحملة العسكرية التي أدت إلي الوجود الأمريكي في تلك الدولة العربية المهمة, لذلك يكون من الأفضل أن نرصد المسألة العراقية بعد عام من سقوط عاصمة الرشيد من خلال عدد من الملاحظات أهمها:
أولا:- إن نظام صدام حسين سوف يبقي في الذاكرة الإنسانية نموذجا للدكتاتورية وسطوة حكم الفرد وسيظل مرتبطا بجرائم التعذيب والاعدامات الفورية والمقابر الجماعية وهو نظام أضر بالعمل العربي المشترك وأصاب الفكر القومي في مقتل ولكن ذلك كله لايبدو مبررا كافيا لما حدث للعراق شعبا وأرضا وحضارة.
ثانيا:- إن الدوافع والأسباب والذرائع التي مهدت لحرب خارج إطار الشرعية الدولية لاتزال مثار جدل كبير بين أطراف كثيرة في المجتمع الدولي, وسوف تظل سابقة الحرب علي العراق حدثا يؤرق ملفات القانون الدولي المعاصر كما ستبقي محورا لنقاش ممتد في المستقبل خصوصا إذا جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في غير مصلحة الإدارة الجمهورية الحالية للرئيس جورج بوش.
ثالثا:- لعل ماجري في العراق هو جزء من تصور أمريكي غربي جديد لمنطقة الشرق الأوسط ككل وامتداد للحملة ضد مايسمونه التطرف الإسلامي الذي أدي إلي العنف تحت مظلة الإرهاب الدولي لذلك فإن ضرب العراق يرتبط بأحداث11 سبتمر( أيلول)2001
حتي إن هناك تسريبات أمريكية أخيرة تؤكد أن وزير الدفاع رامسفيلد كان قد اقترح ضرب العراق غداة حادث نيويورك وواشطن وفي ظني أن سقوط بغداد في التاسع من أبريل( نيسان)2003 كان هو الثأر ــ في العقل الأمريكي ــ لأحداث سبتمبر( أيلول) 2001.
رابعا: إن الأسلوب الأمريكي في إدارة شئون القطر العراقي يعكس هو الآخر جزءا من مخطط طويل المدي يقوم علي منطق التجزئة والتفرقة, تجزئة الأرض وتفرقة السكان من خلال الفيدرالية أولا ثم زرع الحساسيات الطائفية ثانيا, ولست مع القول المطلق بأن مقاومة الاحتلال تتركز في المثلث السني وحده بل إنني أزعم أن من الشيعة من لايقلون رفضا للوجود الأمريكي وضيقا به, وتعتبر حركة مقتدي الصدر وأحداث الفلوجة مؤشرات لتأكيد ذلك وإن كانت رواسب الماضي خصوصا معاناة حكم صدام قد تركت آثارها علي أسلوب البعض في استقبال الوافد الأجنبي باعتباره القادم لخلاص العراقيين من سنوات القهر والهوان.
خامسا:- لعل الأكراد قد بدأوا يدركون أنهم جزء لايتجزأ من النسيج العراقي وأن كرديتهم وسنيتهم لاتبعدانهم عن عروبة الوطن الذي يجب أن يتسع للجميع في ديمقراطية كاملة ومساواة عادلة كما أن الاعتماد علي واشنطن في تحقيق الأهداف القومية تنتقص منه أمور كثيرة منها مواقف دول الجوار التي توجد بها أقليات كردية وفي مقدمتها تركيا, ولقد عرف العراق العربي المتحد عبر تاريخه رؤساء حكومات ووزراء من الأكراد, فالعبرة ليست بالحكم الذاتي بقدر ما هي بالمشاركة الحقيقية في الوطن سياسة وثقافة واقتصادا.
سادسا:- تبدو التعددية في تكوين شخصية العراق القومية نعمة وميزة وليست نقمة علي الوطن أو ضررا للشعب فالمهم هو أن يكون هناك دستور واضح يحدد السلطات ويضمن الحقوق ويكفل المساواة بين المواطنين, كما أن وجود طوائف دينية أو أصول عرقية لايمنع حدوث التجانس فكثير من الدول الأوروبية تشكلت من تركيبة لغوية متعددة وبرغم أن اللغة هي القاموس الثقافي المشترك إلا أن تلك الاختلافات لم تحل دون الانصهار السكاني وتبلور الشخصية الوطنية الواحدة.
سابعا:- لقد كان دور الأمم المتحدة في العراق سلبيا بدرجة كبيرة منذ كانت الحرب مشروعا كبيرا إلي أن وقعت الواقعة وتلك سمة عصرية لانجادل فيها ومؤداها أن دور الدبلوماسية متعددة الأطراف في تناقص مستمر وأن محنة التنظيم الدولي تتجسد في ضعف دور الأمم المتحدة قبل غيرها, بل إن الأمم المتحدة قد أسهمت بدرجة ما في إضفاء الشرعية علي الحرب ونتائجها وعلي الوجود الأمريكي في العراق.
ثامنا:- لا نستطيع أن نشكك في وطنية معظم أعضاء مجلس الحكم أو الوزراء الحاليين في العراق فهناك عناصر منها معروفة بتاريخها الوطني ودورها السياسي ولكن تظل التركيبة مؤقتة والقيادات غير شعبية لأن وجودها يقترن بوجود الاحتلال ويبقي تمهيدا لدستور دائم وحكومة وطنية تختارها سلطة منتخبة.
تاسعا:- يجب ألا نندهش كثيرا إذا جري فتح الستار بعد سنوات قليلة علي مشهد جديد لعراق مختلف في وحدته بل ربما في عروبته أيضا, فالعرب لم يقوموا بدورهم القومي كاملا تجاه العراق بينما هناك وجود أمريكي عسكري مسيطر نسبيا ووجود ديني طائفي لإيران امتداده واضح لدي بعض شيعة العراق مع نشاط كردي ذاتي يطلب في هذه الظروف الاستثنائية ما لم يتحقق له في الظروف الطبيعية.
عاشرا:- لايخفي علي كل من يراقب مستقبل العراق ـ الذي يتحدثون عن ديمقراطيته وحداثته ـ أن تكون العلاقات العراقية الإسرائيلية هي واحدة من سمات ذلك المستقبل وشروطه المطلوبة ولست أشك في أن للدولة العبرية وجودا ما في العراق الحالي تحت مظلة الوجود الأمريكي خصوصا أن إسرائيل لم تكن بعيدة عن قرار الحرب علي العراق كتأمين كامل لظهيرها وتفريغ لمحصلة القوي العربية من أحد أركانها بغض النظر عن خطايا النظام العراقي السابق وطريقة توظيفه للقوة العراقية في العقود الثلاثة الأخيرة.
.. هذه ملاحظات عشر تدور حول أوضاع العراق بعد عام من الاحتلال وهي تعكس العناصر المكونة لمستقبل ذلك القطر العربي الكبير وسوف تظل معاناة الشعب العراقي علامة بارزة في مسار التاريخ العربي الحديث فالمقاومة العراقية ضد الوجود الأجنبي تكبد العراقيين خسائر فادحة فمعظم الضحايا هم من العراقيين أكثر من غيرهم, وإن كنا نرصد في الوقت نفسه بعض الملامح الإيجابية لما يحدث في العراق لعل أبرزها هو الخلاص من الحكم السابق بسلبياته وأخطائه وسطوته كذلك فإن الوحدة الوطنية العراقية مازالت تبشر بالخير فلم تنجح الظروف الصعبة والمعقدة في العراق ـ حتي الآن علي الأقل ـ في دق إسفين بين السنة والشيعة فالتماسك العراقي لايزال أحد الإيجابيات القليلة للأوضاع الراهنة حيث تتعانق مسيرات الكاظمية مع مظاهرات الأعظمية في إحساس مشترك بضرورة الخلاص من سيطرة الوجود الأجنبي وضرورة تملك الشعب قدراته السياسية والاقتصادية واستعادة هويته الثقافية والاجتماعية في أقصر وقت.
... الآن دعنا ننظر إلي المستقبل في محاولة للتعرف علي خريطة العراق الجديد في إطار الشرق الأوسط الكبير الذي كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة حيث يبدو من الحسابات الأمريكية أن العراق كيان مضاف تلقائيا لمسيرة الإصلاح والديمقراطية بحكم ماجري له وما يجري فيه وما ينتظره كأمل في دولة عصرية حديثة تقدم نموذجا لغيرها من دول المنطقة ومثل هذا التصور لا ينبغي أخذه علي علاته بل لابد من إثارة النقاط التالية:-
(1) إن عراق العشائر والأعراق والطوائف ليس كيانا سهلا يمكن تحقيق كل شيء فيه كما هو مخطط له بل إنه واحد من أكثر الشعوب قوة وخشونة كما أن تاريخه يؤكد أنه شعب شديد المراس وليس ممكنا تغيير هويته أو إنهاء مقاومته.
(2) العراق وطن ثري فيه المياه والنفط معا وفيه الأرض الخصبة والكوادر المدربة وهو قادر علي النهوض والبناء بشرط أن يسترد أموره في يده وأن يمارس دوره كما يريد, فالكرامة لدي العراقي قيمة ضخمة برغم سنوات القهر الديكتاتوري والوجود الأجنبي.
(3) لاتزال عروبة العراق قضية حاكمة إذ أن محاولة العبث بها أو النيل منها تمثل أمرا شديد الحساسية فالحداثة لا تتعارض مع العروبة كما أن الديمقراطية ليست نقيضا للانتماء القومي ومن يريدون للعراق أن يكون نموذجا يحتذي به يجب أن يدركوا أهمية عروبته والابتعاد عن المساس بها.
.. هذه خواطر مواطن عربي يتذكر ما حل بالعراق من حكم دكتاتوري إلي وصول القوات الأمريكية لاحتلال واحدة من أعرق العواصم العربية والتي كانت عبر القرون مركزا للإشعاع الحضاري والفكري والثقافي ولست أشك في أن معاناة العراقيين لن تطول حيث نكاد نلمح الضوء في نهاية النفق المظلم الذي دخله العراق منذ سنوات طويلة.
|