مخطئ من يظن أن هناك خلافات سياسية حادة بين الحلفاء علي ضفتي الأطلنطي, وواهم من يعول علي تعارض السياسات الأوروبية ــ الأمريكية لمصلحة طرف ثالث, فالحرب الباردة سياسيا انتهت فعليا يوم سقط حائط برلين وإن كانت هناك حرب باردة فهي حرب اقتصادية هادئة تدور حول المصالح التجارية والتوازنات النقدية بين واشنطن وأوروبا والقوي الاقتصادية الدولية الأخري بدءا من اليابان مرورا بالصين والهند وصولا إلي البرازيل, ولعل درس العراق يسجل سابقة لاتحتاج إلي شرح طويل للقبول الأوروبي بالسياسيات الأمريكية برغم كل التحفظات والملاحظات التي سبقت تدخل واشنطن وبعض حلفائها عسكريا في ذلك القطر العربي الذي عاني من قبضة الديكتاتور الفرد ثم من سطوة الوجود الأجنبي وهو الأمر الذي دفع بالعراق إلي دائرة العنف الذي يحصد من العراقيين أضعاف أضعاف ما ينال من الأمريكيين, ولقد وعي الأوروبيون الرسميون الدرس جيدا فكان تأييدهم مباشرا أو غير مباشر للحرب علي العراق بل لقد بدأ الموقف الأوروبي يتحول عشية العمليات العسكرية عندما أدرك الجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تدخل في مغامرة سياسية وعسكرية كبري في الشرق الأوسط ولو كان ذلك دون غطاء دولي من شرعية الأمم المتحدة أو دعم الحلفاء في أنحاء العالم, وهكذا فعلت واشنطن حتي تلقن عواجيز أوروبا درسا علي حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي حينذاك, ونحن نلفت النظر إلي أن ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية استراتيجي ويقوم علي فلسفة حلف الأطلنطي وقد تكون هناك بعض الخلافات المرحلية أو التفاوت في المواقف التكتيكية أو رفض عدد من التفاصيل الفرعية ولكن يظل التوجه العام هو ذلك الذي يقوم علي التجانس الثقافي والتاريخ الحضاري الذي يربط القارة الأوروبية بالعالم الجديد خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية, وسوف نسعي من خلال النقاط التالية إلي البحث في أعماق تلك العلاقة المركبة بين أوروبا وواشنطن:ـ
أولا:ـ إن الخلاف الاقتصادي بين واشنطن والعواصم الكبري في أوروبا والذي تشهده أحيانا أروقة منظمة التجارة العالمية إنما هو انعكاس لتضارب محدود في المسائل المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والمعاملات التجارية علي الصعيد الدولي ولكنه لا يعكس خلافا سياسيا أو تباينا مذهبيا مثلما كان الوضع في الحرب الباردة علي امتداد عدة عقود.
ثانيا:ـ يعتبر الدور الفرنسي قياديا علي مستوي المواجهة الأوروبية ـ الأمريكية التي تحدث أحيانا وذلك امتدادا للتقاليد التي أرساها الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول بطل التحرير في بلاده وصاحب المواقف الاستقلالية عن الولايات المتحدة الأمريكية في إطار التحالف الغربي وهي محاولة للتوازن الفرنسي مع التأييد شبه المستمر من جانب المملكة المتحدة للسياسات الأمريكية خصوصا في العقدين الأخيرين وذلك لأسباب تاريخية ثقافية واقتصادية أمنية ورغم ذلك فإن الموقف الفرنسي لايمثل اعتراضا مطلقا علي سياسات ومواقف واشنطن ولكنه يمثل تأييدا مؤجلا لها وفقا لاتجاهات كل سياسة وظروف كل موقف.
ثالثا:ـ يكمن التفاوت بين بعض السياسات الأمريكية والمواقف الأوروبية في الأساليب والفرعيات وليس في الرؤي والاستراتيجيات, فالعقلية الغربية متقاربة وتحالف الأطلنطي هو نتاج لتشابه ثقافي وخبرة حربين عالميتين في القرن العشرين فضلا عن أن الحضارة الغربية المسيحية تمثل أرضية تاريخية لذلك, وكل خلاف بين ضفتي الأطلنطي كان عارضا مهما بلغت شدته مثلما حدث قبيل الحرب علي العراق أو هو علي الأقل خلاف لايتجاوز مرحلة الانتقاد الصامت من جانب بعض الدوائر الأوروبية تجاه عدد من السياسات الأمريكية.
رابعا:ـ يدفع توسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه تعزيز التقارب بين القارة والولايات المتحدة الأمريكية فالدول التي تنضم إلي الاتحاد مؤخرا هي في معظمها دول شرق أوروبا بمعاناتها السابقة ولهفتها الشديدة علي الانفتاح والتواصل مع واشنطن لأسباب اقتصادية وأمنية بل إن اندفاع بعضها علي عضوية حلف الأطلنطي كان سابقا علي اتجاهها نحو الاتحاد الأوروبي, إن أوروبا الجديدة لم تعد كما كانت من قبل هي بريطانيا أو فرنساأو المانيا أو حتي إيطاليا وأسبانيا ولكنها أضحت أيضا تلك المجموعة من الدول الجديدة القادمة من شرق أوروبا وجنوبها والتي سيكون تأييدها المتصل للسياسات الأمريكية عنصر توازن في تحديد العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن.
خامسا:ـ لقد كانت الخبرة الاستعمارية لبعض الدول الأوروبية الكبري خصوصا بريطانيا وفرنسا مصدر نصيحة دائمة للولايات المتحدة في بعض الأقاليم الدولية, فالعصر الاستعماري أفرز تاريخيا خصوصية في العلاقة بين لندن وباريس ودول كثيرة في آسيا وأفريقيا كما أن عصر الكشوف الجغرافية قد جعل الوجود الأسباني البرتغالي في أمريكا اللاتينية مصدر تأثير ثقافي تدرك واشنطن أبعاده ومكوناته وهي كلها أمور تضع مفاتيح عدد من المشكلات الإقليمية المعاصرة في أيد أوروبية لاتترك للولايات المتحدة الأمريكية وحدها الانفراد الدائم عند وضع بعض السياسات ولعلنا نتذكر هنا أن الدور البريطاني يلعب تأثير الناصح الأمين للولايات المتحدة كامتداد للتقاليد الأنجلوسكسونية ونتيجة ارتباط الخبرة البريطانية بالقوة الأمريكية في تزاوج واضح جسدت الحرب علي العراق نموذجا عمليا له.
سادسا:ـ إن الذي يعنينا هنا هو تأثير العلاقات الأوروبية الأمريكية علي الشرق الأوسط الذي نعيش فيه ونتأثر بأحداثه خصوصا أنه كلما تحدثنا إلي الأوروبيين عن ضرورة وجود دور أكثر فعالية في الصراع العربي الإسرائيلي عموما والمواجهة الدامية في الأرض المحتلة تحديدا فإن رد فعلهم المتكرر هو الحديث عن انفراد الدور الأمريكي بالقدرة في الضغط علي إسرائيل وأن واشنطن تملك وحدها مفاتيح الحل في الشرق الأوسط وأن حدودهم في المشاركة لاتتجاوز تبني الاتحاد الأوروبي لصيغة الرباعية التي أسهمت في طرحها مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الروسي لتقدم خارطة الطريق التي ماطلت إسرائيل في قبولها ثم خرجت عليها وجمدت بنودها.
.. هذه ملاحظات طرحناها للتدليل علي طبيعة الخلافات الأوروبية الأمريكية في إطار وحدة الأطلنطي إلا أن المواقف بينها تظل غير متطابقة في بعض القضايا ولعل نظرة أوروبا للشرق الأوسط والارتباط الأمني بينهما علي اعتبار أن البحر المتوسط همزة وصل مشتركة تؤكد تفاوت درجة التأثير ونوعية الاختلاف في تقييم المواقف والأحداث في هذه المنطقة القريبة جغرافيا وتاريخيا من أوروبا, والقريبة سياسيا واستراتيجيا من الولايات المتحدة الأمريكية ولقد كان الطرح الأوروبي تجاه قضايا التغيير والإصلاح والديمقراطية في الشرق الأوسط أكثر اقترابا من مزاج المنطقة بينما تعامل المشروع الأمريكي من منطق مختلف لايستوعب التركيبة البشرية في المنطقة والمزاج العام بها, كما أن التفكير الأوروبي قد ربط بين حل الصراع في الشرق الأوسط وبين مسيرة الإصلاح وهو ما تجاهله الطرح الأمريكي تماما ولاشك أن الاستيعاب الأوروبي للشخصية القومية للعالمين العربي والإسلامي له عائده في فهم طبيعة ما يسمونه بالشرق الأوسط الكبير والعوامل النفسية والتراث الثقافي والميراث الفكري في المنطقة وما زلنا نتذكر ان الولايات المتحدة الأمريكية كانت تستمع إلي النصيحة البريطانية حينما كان هنري كيسنجر يقوم بدبلوماسية التنقل لفك الاشتباك المصري ثم السوري ـ الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر1973 ويمر بلندن في طريق الذهاب والعودة من وإلي الشرق الأوسط, ولاشك ان موقف توني بلير الداعم بشدة للسياسات الأمريكية خصوصا في المسألة العراقية يبدو نغمة نشازا علي الساحة الأوروبية بل إن موقفه داخل بلاده يبدو مهتزا في كثير من المناسبات.
.. وقد يكون من المفيد في نهاية هذه السطور أن نؤكد أمرا يمارس تأثيره في العلاقات الأوروبية ــ الأمريكية ونعني به العامل الاقتصادي الذي يحيط بالدولة العظمي الوحيدة والذي يتجسد في تفوقها العسكري والتكنولوجي وانتشار دورها في أنحاء العالم وتدخلها في كافة قضاياه الكبري بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلي كوريا مرورا بالمسألة الأيرلندية, وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع المشكلات الدولية والإقليمية من منطق قيادتها للمجتمع الدولي إلا أن جيوب المقاومة لاتزال تناصب السياسة الأمريكية العداء تحت مسمي جري اختزاله في كلمة( الإرهاب) الذي أصبح شبحا مخيفا يصعب التخلص منه ما لم يطرأ تحول علي السياسة الأمريكية لتقترب من اعتدال بعض السياسات الأوروبية, كما أن العلاقات بينهما لاتزال تتأرجح صعودا وهبوطا ولكنها لا تصل إلي نقطة خلاف جذري في ظل تحالف الأطلنطي الذي لايزال نتاجا لآخر حرب عالمية جرت في القرن الماضي, إنها الحرب التي أدخلت دولة مثل تركيا في دائرة ذلك التحالف رغم رفض قبولها في الاتحاد الأوروبي كما جسدته تصريحات جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي السابق ورئيس لجنة تطوير الاتحاد الذي رأي أن دولة المغرب أقرب إلي الاتحاد الأوروبي من تركيا!! ولاشك أن الموقف الأسباني بعد الانتخابات الأخيرة يشكل هو الآخر تحولا سلبيا في الإطار العام للعلاقات الأوروبية ــ الأمريكية في احدث مراحلها.. إنها علاقات متجانسة في ظاهرها, ولكنها لاتخلو من نقد صامت غالبا وصاخب أحيانا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/4/13/WRIT1.HTM