غريبة هي العلاقات الدولية المعاصرة, وعجيبة هي الخريطة السياسية بما فيها من مصالحات وصراعات ومواءمات وصدامات, إلي الحد الذي اختلطت فيه الأمور وغابت معه الرؤية وأصبحنا أمام وضع لانكاد نعرف له مثيلا من قبل, فالحديث عن شرق أوسط كبير يضم باكستان ويحتوي أفغانستان وإيران وتركيا ويمتد جنوبا حتي القرن الإفريقي, وغربا حتي سواحل الأطلنطي هو أمر لابد أن يثير التساؤل ويدفع الي ضرورة التدقيق فيما جري وماهو قادم, لأن توسيع دائرة الشرق الأوسط ليشمل غرب آسيا وشمال إفريقيا ويمتد من التخوم الجنوبية لأوروبا إلي منابع نهر النيل, إن ذلك أمر يدعو إلي البحث في مغزي الخروج من دائرة المفهوم الاستراتيجي لما كان يسمي بالشرق الأدني ثم الشرق الأوسط والانتقال من ذلك المفهوم إلي مدلول جغرافي واسع يحتوي العالم العربي كله مع رقعة أكبر من العالم الإسلامي علي أن يضم ــ بالطبع ــ في قلبه الدولة العبرية, لقد كنا نتعامل منذ سنوات مع مصطلح الشرق الأوسط بكثير من الشك والريبة ولم يعد هذا الأمر بنفس الحدة لأن ما جري بعد11 سبتمبر2001 قد رفع الحظر قسرا عن هذا المصطلح وجعل تداوله أمرا شائعا خصوصا عندما تم ربطه مرة بالارهاب ومرة أخري بأسلحة الدمار الشامل.
ولعل أغرب ما في الأمر هو أنه في الوقت الذي يدور فيه اخيرا حديث عن المصالحات الثنائية, فالهند وباكستان وكذلك تركيا وسوريا وأيضا مصر وإيران إلي جانب انفراج المواجهة بين شمال السودان وجنوبه والتحول في العلاقات الليبية الأمريكية وهي تطورات تبدو في مجموعها ذات دلالة إيجابية ولكن زحفت عليها من الجانب الآخر عداوات مستمرة ومواجهات دامية في الأرض الفلسطينية المحتلة وعنف يصل إلي حد الحرب الأهلية في العراق وافتقاد الاستقرار في أفغانستان مع ثقة مفقودة بين عدد من الأمم وود غائب بين بعض الشعوب, لذلك فإننا نفصل هنا ما أجملناه من خلال المحاور التالية:
أولا: إن توسيع رقعة الشرق الأوسط تعني تذويب الكيان العربي المحدد في إطار شرق أوسطي كبير حتي إن أي حديث عن نظام إقليمي عربي أصبح الآن مضطرا إلي تجاوز الإطار القومي والخروج إلي فضاء الشرق الأوسط, كله بما في ذلك إيران وتركيا وربما إسرائيل أيضا, بحيث لم تعد القومية العربية هي القومية المسيطرة في الشرق الأوسط بل بدأت تقبل المزاحمة والتفاعل الحتمي مع قوميات أخري من فارسية وتركمانية وكردية وغيرها.
ثانيا: إن الحديث الأخير عن مشروع شرق أوسط جديد هو أمر له دلالته في هذا التوقيت, حيث العرب يستعدون لقمتهم في تونس ويتهيأ العراق نظريا للدخول في مرحلة الحكم الانتقالي الوطني, كما تبدو أيضا مؤشرات لتطور النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ليس أولها مسألة تفكيك بعض مستوطنات غزة وليس آخرها أيضا تلويح الجانبين بحل منفرد أحادي القرار يفرضه أحد الطرفين علي خريطة الأرض المحتلة, كذلك فإننا نرقب الجهود المصرية والتركية لتقريب وجهات النظر بين سوريا وإسرائيل وتمكينهما من الجلوس علي مائدة المفاوضات من جديد وفي ظل كل هذه التطورات الجديدة تطرح الإدارة الأمريكية مشروع الشرق الأوسط الكبير.
ثالثا: إن تشكيل الرؤية الأمريكية لمستقبل الشرق الأوسط دون التشاور مع الحلفاء الأوروبيين بل ودون موافقة أصحاب الشأن في المنطقة العربية, التي تضم اثنتين وعشرين دولة يمكن اعتبارها شرق أوسطية كلها في إطار المفهوم الموسع للإقليم إن مثل هذا التجاهل يسيء إلي السياسة الأمريكية أكثر من أي شيء آخر, إذ إن المتصور أن تكون هناك مؤتمرات دولية واتصالات ثنائية لبلورة رؤية مشتركة تستشرف مستقبل الشرق الأوسط وتتفق علي حدوده الجغرافية ومفاهيمه السياسية بدلا من أن تظل تائهة بين الشكوك والأوهام.
رابعا: إن السعي نحو تعميم النموذج التركي في الشرق الأوسط الكبير هو أمر يستحق الاهتمام, فالإسلام في تركيا إسلام ذو خصائص علمانية قد يصعب الترويج لها أو التبشير بها في ظل تنامي الأصولية الإسلامية, حتي ولو كانت الأصولية كامنة وتبدو وكأنها في حالة بيات شتوي, فالولايات المتحدة الأمريكية تسعي إلي نشر ثقافة جديدة تقوم علي إسلام معتدل من وجهة نظرها, بالإضافة إلي القيام بعملية ترويض كاملة لكل القوي المناوئة في الشرق الأوسط الكبير تحت مظلة الحرب المفتوحة ضد الإرهاب وإخلاء المنطقة ـــ ما عدا إسرائيل بالطبع ــــ من أسلحة الدمار الشامل, إنه تجديد لحلم قديم بدأ مع إدارة الرئيس الأمريكي الراحل إيزنهاور عندما نادي بالمبدأ المسمي باسمه والذي كان يدور حول نظرية الفراغ في الشرق الأوسط ولكن المنطقة تغيرت وشعوبها تحولت وأصبحنا أمام شرق أوسط مختلف.
خامسا: إن الإقلال من تأثير القوي الإقليمية في مواجهة القوي الدولية هو انتقاص لدور الأولي وقدرتها علي التغيير وعنصر الإرادة المتوافر لديها إذ لا يمكن أن نتصور أن دولا بحجم باكستان وإيران وتركيا, ومصر ومعها السعودية وسوريا والعراق الجديد بالإضافة إلي دول الشمال الإفريقي سوف تكون دولا طيعة سهلة القيادة ممكنة التوجيه, فمثل هذا التحليل الذي تقوم عليه فلسفة الشرق الأوسط الكبير هو تحليل مجرد ولايخلو من تفاؤل لكنه يتعامل بتفكير مطلق ولا ينسب الأمور إلي أصولها.
سادسا: إنني ممن يتوقعون أن روح المصالحة سوف تسود في ظل أجواء السياسات الأمريكية الجديدة لأن الدول سوف تكتشف أن من صالحها الاستقرار الإقليمي بديلا للتدخل الأجنبي, فدرس العراق قائم لمن يريد أن يتعلم لذلك جاءت الانفراجة الهندية الباكستانية, وتقوية العلاقات السورية التركية والاتجاه نحو عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران لكي تصب كلها في خانة الإجراءات الاستباقية التي تتجه إليها السياسة الخارجية لعدد من الدول الشرق أوسطية.
سابعا: إن التصور الأمريكي لشرق أوسط كبير يجب ألا يمضي منفردا ولابد أن تكون هناك رؤية عربية في مقابل الرؤية الأمريكية ولا أفترض بذلك أن تكون رؤيتنا رافضة تماما للطرح الأمريكي ولكنها بالضرورة مختلفة إذ يجب أن تستوعب المخزون الحضاري والواقع السياسي والثقافي والاقتصادي للمجتمعات التي تعيش في المنطقة, كما أن إصلاح جامعة الدول العربية بطريقة واقعية ومدروسة سوف يسهم هو الآخر في تشكيل تلك الرؤية العربية ويحتوي دول الجوار الجغرافي كأعضاء مراقبين لإيجاد جسور قوية بين الرؤي القومية والسياسات الإقليمية ولايمكن أن نتصور العرب وهم يقفون مكتوفي الأيدي يتطلعون إلي المشروعات التي تدور حول منطقتهم مكتفين بمتابعة المشاهد والتصفيق عند اللزوم والصفير أحيانا, إن أصحاب الشأن هم أولي من غيرهم بتحديد مستقبلهم وتشكيل ملامح غدهم.
.... إن الحديث عن المشروعات التي تطرحها الإدارة الأمريكية في عام الانتخابات يدعونا إلي المتابعة بل والمراقبة لأن الأفكار الجديدة خصوصا ما اتصل منها بشرق أوسط جديد أصبحت تعبر عن الرؤية الأمريكية لمستقبل شعوب الشرق الأوسط, وهو أمر يفرض علينا ضرورة الوصول إلي صيغة مقبولة بين الحكام والنظم من ناحية والشعوب والمجتمعات من ناحية أخري, بحيث تحسم تلك الصيغة ذلك الخلاف بينهم حول مفهوم الإصلاح ومعني التغيير لأن روشتة الطبيب الأمريكي ليست بالضرورة هي الكافية, كما أننا نلفت النظر بشدة إلي ضرورة وجود حسابات متوازنة بين اتجاه السياسة الأمريكية الإقليمية نحو العدالة وبين مسارات الإصلاح الثقافي والسياسي والاجتماعي في المنطقة, لأن العلاقة بين المؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية لاتحتاج إلي إيضاح, فالصراع العربي الإسرائيلي يجثم علي صدر الشرق الأوسط ويسمح للنظم المستبدة بالاستمرار ويعطل مسيرة الديمقراطية ويوقف برامج الإصلاح, والتغيير والديمقراطية في الشرق الأوسط مرتبطان باعتدال الموقف الأمريكي وتوازنه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي, وتوقف واشنطن عن دعمها المطلق للدولة العبرية والتغطية المستمرة علي جرائمها اليومية في الأرض الفلسطينية المحتلة, ويجب ألا يغيب عن وعينا أن السياسة الإقليمية متحركة ديناميكيا فيها الصراعات والمصالحات, وفيها أيضا برامج الإصلاح وعمليات التغيير, إنه ــ علي مايبدوـــ الاتجاه نحو الشرق الأوسط الكبير.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/3/2/WRIT2.HTM