عندما وصلت الي العاصمة النمساوية في خريف1995 سفيرا لبلادي ومندوبا مقيما لدي المنظمات الدولية فيها وجدت بانتظاري مهمة عاجلة وهي ترشيح مصر لانتخابات مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للحصول علي مقعد مؤقت لأول مرة بعد أكثر من عشرين عاما لاحتلالها المقعد الدائم لدولة جنوب افريقيا التي كانت قد خرجت من الساحة الدولية وهي ترزح تحت الحكم العنصري وسياسة الابارتيد المقيتة, فالذي حدث كان نتيجة للتحولات التي جرت في بريتوريا حتي عام1994 وعودتها مرة أخري بعد سنوات طويلة من العزلة الأفريقية والعقاب الدولي بسبب جرائم الأقلية البيضاء الحاكمة ضد الأغلبية السوداء المقهورة, ومازلت أذكر ان النظام الجديد في جنوب افريقيا قد أوفد لنا مجموعة من كوادره للتدريب في معهد الدراسات الدبلوماسية في القاهرة عندما كنت مديرا له(1993 ـ1995) ليعودوا دبلوماسيين في خارجية جنوب افريقيا وهي تطل علي العالم بوجهها الجديد, أيامها استقبلنا جميعا عودة الابن الضال الي حضن القارة الأم وغفرنا للنظام العنصري خطاياه فقد جسد مانديلا أسطورة رائعة جعلته بحق غاندي افريقيا. ولكن الأمر في النهاية لم يكن لصالح الدور الأفريقي لمصر علي الاطلاق وهو الدور الذي ارتكز علي جهود مصرية نشيطة في الخمسينات والستينات ومابعدها عندما ناصرت مصر حركات التحرر الوطني الأفريقي حتي خرج من الفيلا رقم5 شارع احمد حشمت بالزمالك نصف دستة علي الأقل من قادة حركات التحرير الذين عادوا الي بلادهم حكاما وطنيين تحت رايات الاستقلال مع مطلع الستينات بدعم متواصل من مصر التي أسهمت بقدر كبير في حركة تصفية الاستعمار التقليدي ودعمت شقيقاتها في شرق القارة وغربها وشمالها وجنوبها دعما يرتكز علي محاور تحررية وتنويرية وتنموية الي الحد الذي أزعم معه أن رصيد مصر الأفريقي مازال يساندها حتي الآن في المحافل الدولية والمؤتمرات العالمية.
وإذا كانت جنوب افريقيا قد أطلت علي القارة والعالم بثوبها الجديد إلا انها تظل حبيسة تاريخها المعروف وارتباطها الوثيق بالغرب وانعدام اسهامها في تحرير القارة وتطورها ورفع المعاناة عن شعوبها ولايشفع لها التقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي لكي تصبح منافسا دائما للدولة الرائدة في افريقيا وهي مصر التي تقف عند مدخل البوابة الشمالية الشرقية للقارة همزة وصل بينها وبين نظيرتيها من قارات العالم القديم في آسيا وأوروبا, وإذا كانت جنوب أفريقيا قد اقتحمت كل المحافل والمنتديات وفرضت نفسها طرفا في سياسات القارة الاقليمية والدولية وزاحمت مصر في كل المواقع بدءا من المقاعد الدولية مرورا بالاتحاد الأفريقي وبرلمانه وصولا الي استضافة مونديال2010 إلا أنني أزعم أننا لم نوظف بشكل جيد دورنا الأفريقي في ظل التركيبة الجديدة التي وفدت علي القارة في السنوات العشر الأخيرة, كما أننا لم نستحضر بقوة الدور المصري في الذاكرة الافريقية وقبلنا درجة من درجات التراجع علي صعيد القارة برغم ان رئيس مصر الحالي تولي رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية عدة مرات وحرص علي حضور مؤتمراتها السنوية لأكثر من عقد ونصف من القرن الماضي وأسهم شخصيا في حل نزاعات معقدة مثل تلك التي قامت بين الجزائر والمغرب أو بين السنغال وموريتانيا ونحن لاننسي فضل الدكتور بطرس بطرس غالي في هذا السياق عندما كان وزيرا للدولة للشئون الخارجية, كما ندرك بالمناسبة ان الأدوار الفاعلة في القارة يجب ان تكون ذات طابع اقتصادي بالدرجة الأولي وليست تحت مظلة سياسية بالضرورة فلقد تحررت شعوبها بل وأخذت دول كثيرة منها خصوصا جنوب الصحراء بنظم ديمقراطية علي الطراز الغربي حتي ترك عدد من رموزها مقاعد السلطة طواعية في ظل تحول ديمقراطي من أمثال نيريري وسنجور أو كاوندا وعبده ضيوف وغيرهم ممن سبقوا المنطقة العربية علي طريق الديمقراطية, ولعلي أضع هنا بعض النقاط علي مائدة البحث أمام القارئ العربي:
أولا: ان دولة جنوب افريقيا قد استثمرت الكاريزما التاريخية الهائلة لشخصية المنافضل نلسون مانديلا ووظفتها لخدمة أهدافها وسياساتها إذ يكفي ان يطل ذلك الزعيم الأفريقي العملاق علي أي منتدي دولي أو محفل عالمي حتي تحقق دولته ماتريد رغم انه خارج موقع السلطة ولكن رنين اسمه العالي يظل جواز سفر للدولة العنصرية السابقة الي كل موقع في أي مكان.
ثانيا: ان جنوب أفريقيا قد برعت في اتباع سياسة افريقية ناجحة في منطقة الجنوب الأفريقي وأقامت من المنظمات الاقليمية ماعزز دورها وأكد افريقيتها حتي استطاعت منذ نهاية عصر الفصل العنصري عام1994 الاندماج الكامل في القارة والتغلغل في أعماق سياساتها والمسارعة بمواكبة النظام الدولي الجديد واحتلال مواقع مهمة فيه ولم تعد منافسا لمصر فقط علي المقعد الأفريقي الدائم في وكالة الطاقة الذرية في فيينا ولكنها سوف تكون منافسا أقوي لها علي المقعد الأفريقي الدائم في مجلس الأمن بنيويورك لو تحقق ذلك الحلم.
ثالثا: ـ تعتمد دولة جنوب افريقيا علي قاعدة اقتصادية قوية وموارد طبيعية وبشرية ضخمة حتي ان الاجمالي المحلي للناتج القومي لدولة جنوب افريقيا يبلغ سنويا432 بليون دولار بينما يبلغ نظيره في مصر268 بليون دولار فقط وفقا لاحصاءات2002 وأنا هنا أشير الي أرقام رسمية موثقة, ولاشك ان قدرة جنوب افريقيا الاقتصادية قد مكنت لها من توسيع نطاق حركتها والتحول خلال سنوات قليلة لكي تصبح دولة محورية خصوصا في إطار التعاون الاقتصادي لبعض الجماعات الأفريقية مثل جماعة الجنوب الأفريقي للتنمية سادك كذلك امتدت ذراعها لتقيم حوارا متصلا مع الجماهيرية الليبية في أقصي الشمال للتنسيق أو المنافسة علي مقر برلمان الاتحاد الأفريقي الجديد.
رابعا: إن أخطر ماتمارسه سياسة بريتوريا الجديدة هي ذلك المحور الجديد لحزام الجنوب الذي يشمل البرازيل وجنوب افريقيا والهند تمثيلا للقارات الثلاث أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا, وإذا كان العرب قد عانوا أيضا من خطايا النظام العنصري السابق المتعاون بشدة مع اسرائيل في المجالات الاقتصادية والعسكرية وربما النووية أيضا قبل ان تقبل دولة جنوب افريقيا تصفية ترسانتها النووية في ظل اعلان القارة الأفريقية منطقة خالية من السلاح النووي وهو ذلك الاعلان التاريخي الذي جري توقيعه في القاهرة برعاية من الرئيس مبارك في ابريل1996 والذي نتطلع الآن لأن يحذو الشرق الأوسط حذوها في المستقبل القريب وان كانت اسرائيل هي العقبة الأولي والأخيرة علي ذلك الطريق.
خامسا: تنظر دبلوماسية جنوب افريقيا نظرة دونية للدور المصري في القاهرة الأفريقية وتحاول ان تكون طرفا فاعلا ومدعوما من الولايات المتحدة الأمريكية تدس أنفها في مشكلات القارة وصراعاتها خصوصا جنوب الصحراء مع تفاهم تمارسه مع جميع التنظيمات الأخري في شرق القارة وغربها وجنوبها دون تفريط في خصوصية العلاقات مع كل من نيجيريا وليبيا التي دعمت مبادرة قائدها القذافي في تحويل منظمة الوحدة الأفريقية الي الاتحاد الأفريقي... إن ماأريد ان أصل اليه من هذا المقال هو أن ألفت النظر الي أن الدور الأفريقي لمصر لم يعد بالسهولة واليسر الذي كان عليه منذ عقد مضي, فدولة جنوب افريقيا تتحرك بشراهة كبيرة وطموح واسع لتطويق الدور المصري ومحاصرته, بل انها تقوم بعملية مزايدة عليه عندما تتبني مواقف تبدو في ظاهرها مختلفة مع السياسة الأمريكية والغربية عموما مثل ادانتها القوية للاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق ذلك لأنها تتطلع الي دور قيادي يرث مصر علي الصعيد السياسي دون الاكتفاء بالتميز الاقتصادي والتفوق التكنولوجي.. لقد انتهت تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها مصر هي الدولة الوحيدة تقريبا التي تملك حرية الحركة علي امتداد دول القارة, فلقد تغيرت الأوضاع وشب الصغار علي الطوق وظهرت كيانات افريقية صغيرة ولكنها مؤثرة ثم انضوت في معظمها تحت لواء دولة جنوب افريقيا بما تمثله من ثقل اقتصادي وتقنية عالية تبهر الأفارقة وتشد الأنظار عن مصر المتورطة في مستنقع الشرق الأوسط بمشكلاته الضخمة وقضاياه الملحة, ولعلنا نتذكر اليوم فترة كان فيها التعاون المصري الهندي اليوجوسلافي ركيزة تاريخية لحركة عدم الانحياز بديلا اخلاقيا لمحور جديد بين الهند وجنوب افريقيا والبرازيل, فلكم تغيرت الدنيا وتبدلت السياسات واختلف العالم!!..
.. خلاصة القول اننا نحتاج الي رؤية جديدة للدبلوماسية المصرية في افريقيا تعتمد علي مقومات اقتصادية وتنموية دون الاكتفاء بدور سياسي لم يعد له تأثيره الذي كان, وعلينا ان ندرك ان جنوب افريقيا قد أصبحت هي المنافس الدائم الذي يتعقبنا في المحافل الدولية والمنظمات الأفريقية بل والمنتديات الرياضية.
|