نسجت في مخيلتي صورة للولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر2001 جعلتني أشعر بتردد في زيارتها تحت انطباع شكلته روايات متعددة عن الإجراءات الأمنية المعقدة والمعاملة غير المريحة التي يلقاها بعض الوافدين إلي المطارات الأمريكية, ولكن عندما تلقيت اقتراحا من سفيرنا في واشنطن بالمشاركة في ندوة موسعة عن الديمقراطية في العاصمة الأمريكية بدأت تراودني فكرة السفر إلي الولايات المتحدة واستكشاف الصورة علي حقيقتها لتكوين رؤية مباشرة لما يجري هناك ولكن رئيس مجلس الشعب حسم ترددي بإصداره قرارا يوفدني فيه للمشاركة في الحوار السنوي بين الاتحاد البرلماني الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة, وعندما وصلت إلي نيويورك وجدت أن الإجراءات المتبعة في المطار ليست بالصعوبة التي تصورتها وقد امتدت إقامتي في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة وصلت إلي خمسة وعشرين يوما قطعتها بزيارة يوم واحد فقط لمدينة مونتريال الكندية تلبية لدعوة مؤجلة رأيت أن ألبيها وأنا علي مسافة قريبة منها, وسوف أحاول في هذا المقال الموجز التعرض للمحطات الثلاث التي مرت بها زيارتي وهي مدن نيويورك وواشنطن ومونتريال.
يتفق الجميع علي أن مدينة نيويورك ذات ملامح خاصة وشخصية متميزة ولاشك أن صخب نيويورك أمر يدركه كل من عاش فيها أو مر بها فهي مقر الأمم المتحدة كما أنها تضم أكبر تجمع لليهود في العالم حضورهم فيها قويا وواضحا حتي مسميات الشوارع الكبري لاتخلو من اسماء إسحاق رابين وجولدامائير وإن كنت اعترف أنني قد رأيت أيضا المساجد مضاءة في أوائل شهر رمضان يؤمها الآلاف من المسلمين الأمريكيين والأجانب لأداء صلاة التراويح! ولقد بدأت زيارتي لنيويوركبتلبية دعوة من مجلس العلاقات الخارجية للتحدث علي غداء عمل مع مجموعة من المتخصصين والخبراء في شئون الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي وقد انعقد ذلك اللقاء برئاسة السيد هنري سيجمان, وكان من بين الحاضرين السفير الأمريكي السابق في دمشق ووكيل الخارجية الأمريكية الأسبق لشئون الشرق الأوسط ديك ميرفي وقد دار حديث تبعه حوار حول القيادة الفلسطينية والسياسة الإسرائيلية وما يتردد ظلما عن موجة العداء للسامية في الدول العربية كما شاركت في الحوار مع الوفود البرلمانية في الجمعية العامة خصوصا تلك المناقشات التي امتدت ليوم كامل حول إصلاح الأمم المتحدة ومكافحة الإرهاب وارتباط قضايا الديمقراطية بمتطلبات التنمية, وقد دعا الدكتور كلوفيس مقصود إلي إفطار رمضاني بمناسبة زيارتي ــ وهو المدير السابق لمكاتب الجامعة العربية في نيودلهي ونيويورك وواشنطن والأستاذ الحالي بالجامعة في واشنطن حيث يحتل كرسيا باسمه ـــ ولقد ضم الإفطار عددا من سفراء الدول العربية في الأمم المتحدة إلي جانب نخبة متميزة من القيادات الفكرية للجالية العربية في الولايات المتحدة. وقد اختتمت زيارتي لنيويورك بتلبية دعوة القنصل العام المصري للقاء مع الجالية دار فيه حوار صريح حول هموم الوطن وشئونه وآماله.
غموض واشنطن
رتب لي السفير المصري المرموق في واشنطن أكثر من اثنين وعشرين لقاء في العاصمة الأمريكية ما بين مسئولين في الخارجية من أمثال ويليام بيرنز وكيلها لشئون الشرق الأدني وليزتشيني وكيلتها المساعدة للتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط وعدد كبير من أعضاء الكونجرس ورؤساء اللجان في مجلسي النواب والشيوخ كما كانت لي فرصة اللقاء مع السيد اليوت ابراهامز المسئول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي فضلا عن لقاءات أخري مع وكيلي الخارجية لحقوق الإنسان والشئون التشريعية والبرلمانية, كذلك زرت مركز أبحاث الحزب الديمقراطي الذي تترأسه السيدة مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية السابقة ومركز دراسات الحزب الجمهوري الذي كان يتطلع إلي المشاركة في أعمال المؤتمر السنوي الأخير للحزب الوطني الديمقراطي في القاهرة, كما ذهبت الي حوار مع مركز أبحاث الكونجرس كما قبلت أيضا دعوة لزيارة مقر الجمعية الدولية للبرلمانات وهي ذات علاقة وثيقة بالبرلمان المصري وشاركت معه في ندوة ناجحة في العام الماضي, وكان أهم ما قمت به في العاصمة الأمريكية هو المشاركة بمحاضرة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السنوي لمعهد الشرق الأوسط الذي يترأسه السيد نيد ووكر السفير السابق في القاهرة ووكيل الخارجية الأمريكية الأسبق لشئون الشرق الأوسط, كما تحدثت أمام ندوة الديمقراطية من أجل التغيير والتي كانت هي السبب في بداية التفكير في الزيارة ولقد تركز حديثي فيها حول العلاقة بين الديمقراطية والإسلام مؤكدا أن التحديث لايعني التغريب وقد حضرها عدد من سفراء شرق أوروبا والدول العربية ونخبة من الباحثين وقيادات المجتمع المدني, وقد اختتمت زيارتي لواشنطن بلقاء موسع مع الجالية المصرية والعربية دار فيه حوار صريح للغاية حول أوضاعنا الداخلية والخارجية, كما تفضل سفيرنا المتميز بإقامة حفل غداء دعا إليه عددا من السفراء العرب والأساتذة الأمريكيين يتقدمهم البروفسور مايكل هدسون مدير مركز الدراسات العربية بجامعة جورج تاون وكانت فرصة لحوار ممتد حول السياسة الإسرائيلية وخارطة الطريق والدور المصري في المنطقة.
ترحيب مونتريال
لست أحسب الاهتمام بالجاليات المصرية والعربية في الخارج أمرا هامشيا بل أراه جوهرية يجب العناية بها وفي رأيي أن المغتربين المصريين يحتاجون إلي اهتمام أكبر بكثير مما هو عليه الآن وقد يكون التفكير في وزارة متخصصة أو هيئة منفصلة أمرا واردا في المرحلة القادمة, ولقد كان لقائي بالجالية المصرية والعربية في إقليم كيبيك اتحاد المصريين في الخارج للاستماع لمحاضرة لي وحوار بعدها تعرفت خلالها علي وجوه مشرقة ترتبط بالوطن الأم ولقد عبر مندوب حكومة الإقليم عن رغبة بلاده في توثيق العلاقة مع مصر لأنهم يشعرون أن كندا تستطيع أن تلعب دورا أكبر لصالح قضايا التنمية في المنطقة
.. خلاصة ما أريد أن أذهب إليه من هذا العرض السريع لرؤية مباشرة بعد زيارة غير قصيرة للولايات المتحدة الأمريكية هو الخروج بالنتائج الأربع التالية: ــ
أولا: ـــ إن مصر تشغل حيزا كبيرا في العقل الأمريكي باعتبارها شريكا استراتيجيا في المنطقة العربية حتي أن الإنجازات الكبيرة والاختراقات الحقيقية قد تمت بالتعاون المصري الأمريكي بدءا من مرحلة فك الاشتباك مرورا بمسيرة السلام ثم التحالف من أجل تحرير الكويت وصولا إلي الحرب المفتوحة ضد الإرهاب.
ثانيا: ــ إن سقف توقعاتهم من مصر أعلي بكثير مما هو ممكن كما أن فيه تجاهلا لعنصر الزمن وقفزا فوق كثير من المشكلات القائمة والظروف المحيطة وهم يرددون ــ عن اقتناع حقيقي أو محاولة إغواء طارئة ـــ أن مصر التي قادت المسيرة نحو السلام هي المنوط بها تلقائيا أن تقود المسيرة نحو الإصلاح الشامل والديمقراطية الحقيقية في الشرق الأوسط.
ثالثا: ــ إن دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل قضية معقدة للغاية تتداخل فيها دوافع المصلحة مع عوامل دينية وثقافية ليس أخطر مافيها التفسير التوراتي للعهد الجديد أو ما نطلق عليه أحيانا المسيحية الصهيونية فالأمر يتجاوز ذلك إلي الإحساس بأن الدولة العبرية هي الحارس الموثوق به للمصالح الأمريكية والضامن الوحيد لسلامة الوجود الأمريكي في المنطقة فضلا عن ظهور من نطلق عليهم المحافظون الجدد بفكرهم اليميني وانحيازهم المطلق للدولة اليهودية.
رابعا: ـــ إن الغياب العربي عموما عن الساحة الأمريكية الواسعة هو خطيئة كبري ولا أعني بذلك غياب الوجود السياسي والدبلوماسي ولكن أعني ضرورة التواصل مع الشعب الأمريكي ومراكز صنع القرار فيه من مختلف القنوات الثقافية والأكاديمية والفكرية والعلمية والفنية فضلا عن اللقاءات البرلمانية وعلاقات مؤسسات المجتمع المدني بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية, وفي ظني أن لديهم قبولا عاما لذلك خلافا لما يردده البعض في السنوات الأخيرة.
.....هذه رؤية موجزة تحتاج إلي قراءة متأنية وفحص موضوعي يخلو من الشطط في اتجاه معين أو المغالاة في اتجاه آخر إذ أنه لابد من وضوح الرؤية والابتعاد عن تكرار الأفكار الضبابية أو المقولات المكررة.. إننا نحتاج إلي تبادل معرفي متواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية يقدم الصورة الحقيقية عنا ويتعامل في ذكاء مع رؤيتهم لنا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/12/9/WRIT1.HTM