تتحدد قيمة الأمم ومكانة الشعوب من خلال الرموز التي تعبر عنها وأسلوب تعامل مجتمعاتها مع المناسبات المهمة في حياة أعلامها, فالإسرائيليون احتفلوا بالعيد الثمانين لميلاد سياسي لم يفز مرة واحدة في أي انتخابات عامة علي امتداد نصف قرن كامل وأعني به شيمون بيريز, والمصريون احتفلوا منذ اسابيع بالعيد الثمانين لميلاد قداسة البابا شنودة كما يستأثر عيد ميلاد نجيب محفوظ دائما بحفاوة خاصة حتي قبل حصوله علي نوبل منذ أن بلغ الخمسين حتي الآن ـ أمد الله في عمره الطويل ـ ونحن هنا أمام شخصية قد يختلف الناس معها ولكنهم لا يختلفون عليها إذ أن الأستاذ هيكل الصحفي الكاتب والجورنالجي الجوال هو قيمة فريدة ونموذج متميز يبدو دائما مصدرا للإثارة والجدل في حياتنا العامة متنقلا بين الصحافة والسياسة, متحركا علي المسرح السياسي الاقليمي والدولي أيضا, ولعلي أبادر في البداية فأقرر أن هناك من يتحمسون له وهناك أيضا من يربطون بينه وبين بعض سلبيات فترة حكم الرئيس الراحل عبدالناصر بصورة سطحية تدعو إلي التأمل أحيانا إذ أن هيكل في ذاته هو مشروع فكري ضخم ومؤسسة سياسة مستقلة وطراز صحفي قد لا يتكرر, أنه هو هيكل المرموق منذ أن كان مراسلا عسكريا في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأولي ثم الحرب الكورية إلي أن جلس فوق بركان إيران اثناء أزمة مصدق بعد أول حركة تأميم للنفط يمارسها نظام في الشرق الأوسط مع مطلع خمسينيات القرن الماضي.
وإذا كانت سيرة هيكل الفكرية والسياسية أو الصحافية والثقافية تمثل جدلية دائمة بين من يقدرون قيمته وبين من يتخذون منها موقفا غير ودي إلا أن دراسة تاريخه والاهتمام بقصة حياته امران يحتاجان إلي اهتمام علي المستوي الوطني يمكن بهما تقديم صورته الحقيقية لأجيالنا القادمة بدون رتوش تجميل أو دوافع افتراء أيضا, ولعلي أطرح قيمة هيكل الحقيقية من خلال عدد من المفردات التي تميزت بها تلك الشخصية الاستثنائية وأوجزها في العناصر الخمسة الآتية:
دقـــــة المعلومـــــة
إن من مظاهر القوة في هذا العصر حيازة المعلومة الصحيحة في الوقت المناسب وهيكل هو تجسيد حي للإدراك المبكر لهذه الحقيقة والتعامل معها, وقد كنا نظن في مرحلة معينة أن ما يحوزه من معلومات يعود إلي ميزات ينفرد بها في العصر الناصري ولكن الأمر الذي يدعو إلي الدهشة هو أن حيازة هيكل للمعلومات مازالت علي نفس قوتها ودقتها منذ أن كان رئيسا لتحرير آخر ساعة في أواخر الأربعينات, فهو رجل عاش حياته يلتقط الأخبار ويجمع المعلومات, يرصد ويحلل, يفكر ويكتب حتي اصبح بحق ظاهرة يجب الوقوف عندها طويلا.
قـــــوة الوثيقـــــة
لا يعتمد هيكل في حصوله علي الأخبار والمعلومات ـ والخبر هو تعبير عن المعرفة الجديدة في المدي القصير العاجل بينما المعلومة هي معرفة علي مدي أطول وأكثر استمرارا ـ علي مصادر مشكوك فيها أو ضعيفة المصداقية بل يتميز دائما بالمصادر الرصينة التي ربما تأتي من لقاء عابر مع شخصية دولية أو قراءة فيما وراء السطور في تحليل إخباري أو رصد لظاهرة تكررت أو متابعة طويلة لقضية معينة أو مسألة بذاتها, فمصادره غالبا مؤكدة, وروافد نهر المعرفة لديه تنبع من المنابع الأصلية وتصب في عقلية تحليلية تقف وراء الوثيقة في مصداقية كاملة.
شموليـــــة النظـــــرة
إن الفارق بين هيكل وغيره من معاصريه إنما يتركز في رؤيته الشاملة للأمور وفهمه الدقيق للأحداث فهو لا يعيش داخل الظاهرة ولكنه ينظر إليها من بعيد فتبدو امامه واضحة دون الاستغراق في الجزئيات أو التيه في الفرعيات, ويستطيع بقدرة فائقة أن يمسك أمهات المسائل وأن ينتقل من الكل إلي الجزء تعينه في ذلك ذاكرة حديدية ونظرة فاحصة تجعله يكتشف بسهولة أين مربط الجياد الأصيلة وسط زحام الأخبار وركام المعلومات خصوصا في عصر هو بحق عصر الخبر والمعلومة قبل أن يكون عصر المدفع والدبابة.
الاحكــــام الفكـــــري
يتمتع هيكل بقدرة فريدة علي طرح المقدمات المرتبطة بنتائج محددة فهو يستخلص بعبقرية العلاقة بين السبب والنتيجة وتتميز كتاباته بالإطار النظري القوي, ومازالت أذكر الفصول الأولي لأحد كتبه الحديثة عندما اسهب في سرد العلاقة التاريخية بين الإرهاصات الأولي للحركة الصهيونية وكل من محمد علي ونابليون والامبراطورية العثمانية وغيرهم علي نحو يدعو للاعجاب بل والانبهار فهو كاتب يبدأ من الجذور ولا يكتفي بالنتائج النهائية علي قمة السطح فقط وتتميز كثير من تحليلاته بالصرامة الفكرية والاحكام النظري وكأنها امتداد للصرامة الذاتية والبرنامج المحدد اللذين الزم بهما هيكل نفسه عملا وتوقيتا وطعاما بل ونزهة أيضا لا يختلف الأمر في ذلك أن يكون موجودا في مزرعته ببرقاش علي مشارف أهرام الجيزة أو في قرية الرواد علي ساحل البحر الأبيض أو في الغردقة علي ساحل البحر الأحمر أو في احدي العواصم الأوروبية خصوصا عاصمته المفضلة لندن, فهو في كل الأحوال هيكل المنظم والمبرمج, المتقد ذكاء, المتوهج فكرا, اللامع شخصا.
روعـــــة الأســـــلوب
تميز هيكل منذ بداياته الصحفية كمراسل حربي مرورا بالسنوات الطويلة التي قضاها علي قمة أكبر مؤسسة صحيفة في الشرق الأوسط الأهرام بذلك الأسلوب الذي تختلط فيه نبرة الأدب بمسحة الفن مع عمق التحليل العلمي وبريق الصفاء الذهني فهو يصك العبارة كالجواهرجي الذي يتعامل مع الأحجار الكريمة والفصوص النادرة تشهد بذلك عناوين مقالاته الصحفية وكتبه التحليلية فهو الذي كتب مقالا في ذكري الأربعين لرحيل عبدالناصر كان عنوانه عبدالناصر ليس اسطورة وهو الذي اصدر كتابا تحت عنوان لمصر لا لعبد الناصر وهو أيضا الذي علمنا أن هناك مقالات يابانية كما أن هناك علاقة بين العروش والجيوش وهو الذي وضع القاريء العربي أمام المفهوم المعاصر للخبر الصحفي ومازالت اتذكر انه جعل العنوان الرئيسي لصحيفة الأهرام يوما جملة واحدة وهي( إني اعترض) وذلك بعد مراوغات البعث في مباحثات الوحدة الثلاثية مع عبدالناصر, وهو الذي جعل مانشيت الأهرام( شاستري يموت في طشقند), وكأنه عنوانه لرواية مثيرة بينما لو كتبه صحفي عادي لجعله( وفاة رئيس وزراء الهند في اثناء المباحثات مع جيرانه خلال زيارته للاتحاد السوفيتي) والفارق بين الطريقتين كبير من حيث الحس الصحفي والاثارة الإعلامية والذكاء في التعامل مع الخبر, ولا يتميز اسلوب هيكل فقط بالألفاظ التي ينحتها والعبارات التي يرصع بها كتاباته ولكن الأمر يمتد أكثر من ذلك إلي أسلوب قصصي رائع, فيه من التقديم والتأخير وتحليل الشخصيات وسبر أغوار النفس البشرية ما يتأرجح في تأثيره ما بين البورتوريه والكاريكاتير.
تلك سمات خمس لكتابات ذلك الصحفي الكبير ذو الوزن الدولي الثقيل الذي كانت مقالته الاسبوعية بصراحة في الأهرام هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها جيلنا في الستينيات من القرن الماضي بحثا عن معلومة صحيحة أو استشرافا لمستقبل غامض, وكنا نظن أيامها ـ منذ أن تحدث عن أزمة المثقفين وأهل الثقة وأهل الخبرة ـ أنه يمثل الجناح اليميني للثورة المصرية, حيث لم تكن علاقته بالاتحاد الاشتراكي ودية, كما لم يكن علي وفاق مع اليسار المصري في السلطة أثناء حكم الرئيس عبد الناصر فلقد كان الود مفقودا بينه وبين علي صبري علي سبيل المثال, كما أن ذلك الجناح اليساري كان ينظر إليه دائما بريبة ويري أنه محسوب علي الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا, وكنا نلمح نحن ابناء الجيل الجديد في ذلك الوقت بعض ومضات الليبرالية من بعيد ونبحث عن مساحة أكبر من حرية التعبير ومازالت أتذكر الآن عنوان صحيفة الأهرام الشامت في علي صبري عائدا بطائرة خاصة من موسكو متهما بالتهرب الجمركي في مطار القاهرة, كما أتذكر رده علي تشدد السيد أمين هويدي رئيس المخابرات المصرية بعد النكسة ـ وهو وطني غيور ـ عندما رأي أن أرقام وبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الذي كان يترأسه الفريق جمال عسكر يمكن أن تكون, دون قصد, مادة لمخابرات أجنبية ترصد حجم استعداد مصر لعمل عسكري يزيل آثار العدوان فكانت عناوين أهرام هيكل حينذاك ساخرة للغاية, حيث رأي أن أمن مصر لا يختفي في كمية المعلبات المحفوظة أو إحصاءات السلع المطروحة في الأسواق, أما خريف الغضب برغم روعته من حيث التبويب والصياغة وحجم الاثارة ونوعية التحليل ونتائج الدراسة إلا أن يظل ـ في ظني علي الأقل ـ اقل كتب الأستاذ موضوعية وأكثرها تأثرا بالمعاناة الشخصية والتجربة الذاتية بعد التضييق عليه وتقديمه للمدعي الاشتراكي ثم اعتقاله اثناء عاصفة الغضب في ذلك الخريف المضطرب الذي انتهي بدراما اغتيال رئيس الدولة وسط جنوده في يوم الاحتفال بانتصاره.
.. إننا نقدم لهيكل في يوم عيد ميلاده الثمانين باقة ورد نضع فيها من أزهار الفكر ورحيق الوجدان ما يستحقه ذلك الكاتب الفريد من نوعه والمتميز في قدراته, وإذا كان قد كتب يوما يقول كيسنجر وأنا.. مجموعة أوراق إلا أننا لا نريد أن نقول له هيكل ونحن.. مجموعة ذكريات, بل نتطلع معه إلي مزيد من العطاء الذي يتناسب مع ريادته الصحفية, وقيمته القومية, ومكانته الدولية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/9/23/WRIT1.HTM