هل يمكن فصل الدولة عن المجتمع الذي ينتمي اليها ؟ سؤال يطرح نفسه في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ المنطقة التي نعيش فيها ونعني به سؤالا استنكاريا حيث لاقبول بحالة الانفصال التي قد تحدث احيانا بين جهاز الدولة في جانب واحوال المجتمع في جانب آخر, فالتر بينهما حتمي لانهما يقفان ـ او هكذا يجب ـ علي ارضية واحدة من منطلق ثقافي مشترك, اذ انه لايمكن ان تبحر الدولة في اتجاه وان يسبح المجتمع في اتجاه مختلف, واذا كنا نقرر بداية ان المجتمع المدني يكتسب اهمية متزايدة في العصر الحالي وتتصاعد قيمته علي الساحة الدولية الي الحد الذي صرح فيه كوفي أنان أمين عام الامم المتحدة ان العولمة تعني التقارب والتواصل والتنسيق بين الجمعيات الاهلية والمنظمات غير الحكومية في انحاء العالم لذلك فإن الدولة ـ أي دولة ـ تكتسب اهميتها من نوعية المجتمع القائم وطبيعة العلاقات بين اطرافه والثقافة السائدة فيه, فلايمكن ان تسمح الدولة بالازدواجية بين جهاز الحكم وفكر المجتمع لان التعارض في هذه الحالة يثير اشكاليات بغير حدود, واذا اردنا ان نفصل ما أجملناه وان نوضح الهدف مما نقول فإننا نشير الي العناصر التالية:
أولا: ان القيمة المتزايدة لاهمية المجتمع المدني في العصر الحالي تجعل له تأثيره القوي وحضوره الظاهر في اطار الدولة الحديثة حيث لم تعد الاخيرة هي السياج الحاكم الذي يتسم بالمركزية المطلقة او الشمولية الكاملة, اذ ان مستقبل المجتمع المدني يوضح درجة الاختلاف بين ما كانت عليه بعض المجتمعات في الماضي ومايصل إليه وضعها في ظل الاطروحات الجديدة التي ترتكز علي العدالة والشفافية.
ثانيا: ان ثقافة المجتمع التي تنعكس في النهاية علي سلوك افراده وتقاليد جماعاته تلتزم بقيمه السائدة وافكاره المسيطرة وتمثل في النهاية شخصية المجتمع بأثره, وان كنا قد لاحظنا في السنوات الاخيرة بعض التفاوت بين التوجه العام للدولة في جانب والتيارات السائدة في المجتمع علي الجانب الاخر, وكأن لسان حال الموقف يقول اتركوالنا ادارة الدولة ونترك لكم في المقابل السيطرة علي المجتمع
ثالثا: ان مكونات العقل الجمعي للمجتمع تخضع في النهاية لمؤثرات متعددة يأتي في مقدمتها الرافد الديني فخطبة الجمعة علي سبيل المثال ـ تمثل جزءا كبيرا من خلفية المواطن ودرجة حماسه الذي يؤثر علي حياته اليومية, لذلك فإن الخطاب العام الذي يحيط بالانسان المصري هو الذي يشكل في النهاية ثقافته اليومية وسلوكه تجاه الحكم.
رابعا: ان وسائل الإعلام الحديثة واساليب الاتصال المتطورة قد كسرت الحواجز واسقطت الحدود وحرمت الدولة قدرتها السابقة علي السيطرة الفكرية أو الهيمنة الثقافية فأصبحنا امام تيارات وافدة وافكار متزاوجة تجعل قدرة الدولة محدودة في السيطرة عليها خصوصا بعد ان انتقلنا ـ بمنطق التطور وحركة التاريخ ـ الي مرحلة الإقلال من دور الحكومة والتخفيف من قبضتها الي الحد الذي جعل المجتمع المدني كيانا حرا, من هنا تبرز اهمية الديمقراطية باعتبارها القنطرة القوية بين الدولة والمجتمع حيث يتبادلان عبرها بعض مظاهر التغيير واسباب الاختلاف التي قد لاتبدو الار من خلال الوفاق الوطني الذي تحققه المشاركة السياسية بمعناها الصحيح ووجودها الحقيقي. خامسا:: ان درجة الشفافية ـ التي اصبحت مطلبا ملحا في السياسة كما في الحكم ـ تحدد مستوي العلاقة بين الحكومة والمجتمع اذا اعتبرنا الحكومة هي التعبير الرسمي عن الدولة, والمجتمع هو الكتلة البشرية التي تتعامل معها, فالوضوح وتقديم المعلومات الصحيحة في الوقت المناسب يغلقان الفجوة بين ما يجب ان يكون وما هو قائم بالفعل, وهنا يأتي دور الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وتأثيره في تشكيل عقل المجتمع وتكوين رؤيته والإسهام في صنع وعيه لمواجهة مايجري حوله خارجيا وداخليا.
سادسا: ان المجتمع هو وعاء التقاليد والقيم ووريث التاريخ والتراث, لذلك فهو يجسد ضمير امته ووجدان شعبه, ولايمكن ان يترك ذلك المجتمع فريسة لتأثيرات مريضة او افكار مسمومة, بل لابد له دائما من ان يعيش في مناخ صحي وظروف سوية تجعل المدخلات القادمة اليه قادرة علي تحسين المخرجات التي تنطلق منه
سابعا: ان الدولة ممثلة في حكومتها ـ اذا جاز ان نختزل شخصية الدولة في اداء الحكومة ـ تحتاج الي حشد امكانياتها الحقيقية وتعبئة مواردها الصحيحة لرفع مستوي الحياة والنهوض بالمجتمع من خلال التنمية البشرية والمشاركة السياسية والتوعية الاجتماعية والتأكد علي الجوانب الايجابية في الهوية الثقافية.
إننا اردنا من هذه الملاحظات السبع ان نضع الإطار العام لاهم الركائز للعلاقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع وهنا ننبه الي امر لايخفي علي فطنة القاريء وهو ذلك الذي يتعلق بالعلاقة الطردية بين كل من حسن الاداء الحكومي والنهوض الاجتماعي ولعلي اشير هنا الي عدد من المحاور المتعلقة بشخصية مصر ـ كمثال ـ اذ كان لنا ان ننتقل من العام الي الخاص ونحاول تطبيق ماأجملناه علي تفاصيل الحياة اليومية المصرية:
1 ـ ان جوهر المشكلة المصرية لايكمن في حكومتها وحدها ولكنه يتركز ايضا في المجتمع المصري العجوز الذي يحمل علي كاهله عبء التاريخ الطويل منذ الحضارة القديمة حتي الآن ويرزح تحت ركام ثقيل من القيم والاعراف والتقاليد بصورة تشكلت منها شخصيته وتحددت بها هويته كما اسهمت الاديان ـ خصوصا الإسلام الحنيف ـ في تكوين نظرته للامور وتقويمه لقضايا وحكمه علي المسائل, وهنا يجوز ان نتحدث عن الخصوصية المصرية في العالمين العربي والاسلامي حيث هي نسيج وحدها بل ونموذج يختلف عن سواه.
2 ـ ان التاريخ الزراعي القديم ونظم الري الاولي قد اعطت الادارة المصرية عمقا تاريخيا طويلا وصل بها الي حد الترهل احيانا والاستغراق في الروتين دائما, فأصبح الجهاز الاداري واحدا من مشكلاتها وجزءا من تكوينها الذي يمارس دوره السلبي غالبا في حركة المجتمع ونشاط مؤسساته المدنية وهيئاته الحكومية والاهلية علي السواء3 ـ إننا لو اخذنا المشكلة السكانية المصرية ـ علي سبيل المثال ـ لوجدنا انها افضل مثال علي الفجوة بين الدولة والمجتمع, فالحكومة التي تعبر عن الدولة في مرحلة معينة تدعو منذ بدايات النصف الثاني من القرن الماضي حتي الآن الي مسألة تنظيم الاسرة وضبط النسل وتستعين في ذلك بالبراهين الاقتصادية والنصائح الطبية والمحاذير المستقبلية, بينما المجتمع يسبح في محيط اخر تلعب فيه القيم الدينية دورا اساسيا ويمارس خلاله الاقتصاد غير المسجل ـ خصوصا في الريف ـ دورا اضافيا مستمدا من اهمية العزوة في القري والمدن الصغيرة بغض النظر عن مقومات الحياة التي يجب ان تكون مكفولة للجميع خصوصا في ميادين التعليم والصحة وغيرها.
4 ـ ان المجتمع المصري الذي عرف خمس حروب متتالية علي امتداد ربع قرن فقط وشهد مدا دينيا متطرفا في اعقابها هو ذاته المجتمع الذي انتقل عبر فترة قصيرة نسبيا من دولة العشرين مليونا الي دولة الملايين السبعين, وانا أزعم ان قضية الاعداد الكبيرة والزيادة الكمية الهائلة قد مارست تأثيرها القوي في حياة المصريين خلال العقود الاخيرة, وقد انعكس ذلك علي مستوي الاداء في المجتمع المدني ذاته سواء في الجامعات او النقابات او التقاليد المهنية او التجويد الحرفي, فضلا عن مؤسساته الاخري فانخفض مستوي التعليم عموما والجامعي خصوصا وتدهورت الخدمات الصحية في كثير من قطاعاتها الوقائية او العلاجية او الدوائية واصبحنا امام اوضاع تحتاج الي المراجعة وبناء جسور المصداقية بين الحكم والشعب أو بين الدولة والمجتمع.
5 ـ ان مصر دولة تتميز بالفرادة ويتحدد دورها بقدرتها علي الاصلاح واسهامها في التقدم ولايستقيم لها ذلك ـ او لأي دولة غيرها ـ دون وجود الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة.. بين المجتمع والحكومة, لان كليهما ركيزة اساسية في المسيرة الطويلة نحو عالم افضل ومستقبل اكثر وضوحا وربما اكثراشراقا ايضا.
.. هذه محاولة تتصف بالعمومية حاولت من خلالها اقتحام قضية معقدة تتعلق بتجسير الفجوة بين الدولة والمجتمع في عصر تتزايد فيه قيمة المجتمع المدني وتتعدد معه وسائل الاتصال وتتعقد التقنيات فيه, فلم يعد ممكنا بناء اسوار العزلة بين الشعوب او فرض الوصاية علي المجتمعات, فالسماوات مفتوحة وحجم الأسرار في الحياة اليومية يتضاءل امام الشلال المتدفق من المعلومات والتعليقات, لذلك فإننا نقرر عن يقين ان الدولة العصرية هي التي تتحقق فيها مصالحة راسخة بين اطراف الدولة ومقومات وجودها حتي يصبح المجتمع كيانا سويا في دولة حديثة تقوم العلاقات فيها علي الثقة المتبادلة والشفافية المطلقة والمصداقية الدائمة, دولة ليس فيها من يقول لتيار فكري معين: لنا الحكم ولكم المجتمع!
|