يعاني المناخ السياسي والجهاز الإداري في كثير من الدول خصوصا تلك الآخذة في النمو من ظواهر مقلقة وسلوكيات سلبية أدت إلي نتائج خطيرة إذ تمثلت تلك الظواهر والسلوكيات في عملية الاستئثار بالمواقع والتمسك بالمناصب والقيام بعملية حصار محكم حول المواهب بل وصل الأمر إلي عدم التورع عن المضي في حرق البدائل معنويا عند اللزوم حتي اختفي الصف الثاني في معظم الأجهزة والهيئات والمؤسسات وأصبحنا أمام عملية جمود سياسي وإداري في كثير من دول المنطقة علي نحو يدعو إلي القلق وينذر بالخطر, وإذا أردنا أن نوضح ما نقول فإننا نوجز فهمنا لأبعاد تلك القضية المعقدة من خلال النقاط التالية:
أولا:ـ إن الظاهرة التي نشير إليها ونتحدث عن مخاطرها ليست ظاهرة مصرية أو عربية فحسب ولكنها ظاهرة إنسانية عالمية وإن كان حجمها في المنطقة التي ننتمي إليها من عالم اليوم تبدو أكبر من حجمها في دول العالم الأخري وهي تنطلق أساسا من شعور داخلي بغياب الإحساس بالأمان لدي كثير من قيادات الجهاز الإداري والعمل العام مع نقص الكفاءة الذاتية وضعف الوازع الوطني والرغبة في الاستئثار بالمزايا علي حساب الغير, ونزعم هنا أن هذه الظاهرة تكاد تكون موجودة في كثير من المؤسسات والهيئات والوزارات كما نلاحظ أيضا أن تأثيرها يتزايد وأن وجودها يبدو الآن أكثر من أي وقت مضي ربما بسبب ندرة المتاح وكثرة المطلوب.
ثانيا:ـ إن هذه الظاهرة مقلقة بكل المعايير لأنها لا تعيد إلي الأذهان فقط تاريخ ملوك الفراعنة عندما كانوا يحاولون محو أسلافهم ونسبة كل الانتصارات لهم, هكذا فعل أبناء مع تراث آبائهم وملوك مع إنجازات سابقيهم ولحسن الحظ أن الذي يحتل موقع المسئولية الأولي اليوم من أحفاد مصر الفرعونية ليست لديه تلك النزعة ولا يعاني هذه الظاهرة فقد كرم أسلافه ووضع محمد نجيب و جمال عبدالناصر و أنور السادات بل وكل الزعامات الوطنية من عرابي إلي مصطفي كامل إلي سعد زعلول إلي مصطفي النحاس في مكانهم اللائق وأجري مصالحة تاريخية تبدو خارج السياق الطبيعي للشخصية المصرية المعتادة.
ثالثا:ـ إن الغيرة المهنية وكراهية التفوق ومخاصمة الناجحين هي كلها مفردات ترتبط بالظاهرة التي نتحدث عنها, فالمنافسة مطلوبة ولكن الغيرة القاتلة والأحقاد المدمرة أمور يجب أن نقف أمامها طويلا وأن نحذر منها كثيرا لأنها ليست مجرد أزمة أخلاق ولكنها تتجاوز ذلك إلي عملية قطع الطريق علي الأجيال الجديدة والعناصر المتميزة في الدولة والمجتمع.. نعم إننا نعترف بأن الصراع لصيق بالحياة ولكننا لا نري في الوقت ذاته مبررا لأن يتحول الصراع الطبيعي بين الناس إلي مرحلة محمومة توصد فيها الأبواب وتزرع فيها الأشواك وتحارب فيها القدرات.
رابعا:ـ إن حرق البدائل أصبح سمة شائعة فكل مسئول في موقع معين يبدأ بالتفكير فيمن حوله وتأمل قدراتهم ورصد إمكاناتهم وعندما يكتشف بينه وبين نفسه في لحظة صحوة ضمير أن أحدهم يصلح بديلا ناجحا له فإنه يتفنن في تحطيمه ويوجه إليه ـ تحت الحزام ـ ضربات قاتلة ثم يزداد تمسكه بالمقعد الذي يجلس عليه ويحرق بغير هوادة كل شخصية تتاجسر بالطموح للوصول إليه, إنها محنة إنسان, وأزمة أخلاق, وغيبة ضمير.
خامسا:ـ إن حصار المواهب والمنافسة المحتدمة بين أصحاب المهنة الواحدة قد أدت في النهاية إلي اختفاء الصف الثاني واستحواذ بعض العناصر المحظوظة علي المقاعد الأولي لسنوات طويلة, وهذه هي الأخري خطيئة كبري لأن قيمة المسئول الحقيقة تتحدد في قدرته علي تقديم البدائل ودفع المواهب والتفاخر بأن لديه صفا ثانيا يمكن أن يتقدم به نحو المواقع الأولي في أي وقت, والمسئول الذكي الذي يملك قدرات حقيقية وكفاءات موضوعية لا تستبد به الغيرة أبدا لأنها من خصائص الصغار وليست من صفات الكبار والإنسان الذي يعرف, يكون واثقا من نفسه محترما لذاته لا يفكر في السطو علي حقوق الغير أو انتزاع المزايا أو الانفراد بالمواقع.
.. إن الحديث عن حصار المواهب وحرق البدائل لا ينطلق من أرضية طبيعية أو مناخ صحي إذ إن مثل هذه الظواهر تجد البيئة الحاضنة لها في أجواء التوتر والقلق والغيرة والحسد وغالبا ما لا يكون الإنسان واعيا بقدراته الحقيقية بل يكون مبالغا فيها مستغلا بعض الظروف من أجل تحقيق مكاسب استثنائية لأنه يتصور أنه حالة خاصة غير قابلة للتكرار, وهنا نصبح أمام حالة انحياز شديد للذات وجنوح قوي نحو تصفية قدرات الآخرين وتشويه صورتهم, ولعلنا نعالج هذه الأمور أيضا من زاوية العلاقة بين الأجيال المختلفة لأن الأمر ينسحب في النهاية علي قدرة كل جيل علي متابعة الجيل السابق عليه والبناء فوق ما شيده الجيل الأب, فالذي حدث في كثير من بلاد العالم عموما والبلاد العربية خصوصا أننا أصبحنا أمام خلل حقيقي في التوازن بين الأجيال المختلفة حيث جري افتئات من جيل علي مقدرات الأجيال التالية له بحيث ابتلع ذلك جيل واحد قدرا كبيرا من مستحقات الأجيال التالية عليه, ولعل ظاهرة الجيل المسروق التي كتبنا عنها وناقشناها في مناسبات مختلفة لا تزال مطروحة علي الساحة الوطنية والقومية لأنها تمثل ترجمة مباشرة لجزء كبير من الواقع الذي يحيط بنا, وإذا كنا نتحدث عن الت
واصل بين الأجيال والعلاقة الصحية بين مستويات الأعمار المختلفة ودرجات الكفاءة المتعددة والخبرات المتنوعة فإنه يصبح من الضروري تهيئة المناخ الصحي للتعامل بين شرائح العمر المختلفة في المجتمع الواحد خصوصا في بلد تبلغ نسبة الشباب فيه قرابة ثلثي سكانه وهو ما يعني أن الأجيال الجديدة يجب أن تكون شريكا أساسيا في عملية اتخاذ القرار علي كل مستوياته إذ أن الوصاية عليه أو استبعادهم من جوهر العمل العام هي أمور سوف تؤدي بالضرورة إلي عملية انقطاع حقيقي وفجوة كبيرة قد لا تشعر بها الشعوب ولا تدركها المجتمعات إلا بعد فوات الأوان, لذلك فإن الأمر يحتاج إلي عناية زائدة وشفافية كاملة علي نحو يوجد مصداقية بين الأجيال ولا يعبث بدرجة الاحترام المتبادل بينها ويجب ألا نتصور وهما أن الذين يحتلون مواقع قيادية هم بالضرورة شخصيات استثنائية لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بل ربما قد يصل الوهم والنفاق بالبعض إلي حد الدعوة أيضا لاستنساخها! ويجب أن ندرك هنا أن هناك قواعد إنسانية لطبيعة الحياة والعمر الافتراضي لحيوية النشاط البشري وضعا في الاعتبار أن الخلود لله وحده كما أن الشعوب المتقدمة قد استطاعت أن تقيم تزواجا منسجما بين حماس الشباب
وحكمة الشيوخ لأننا إذا لم نعط الأجيال الجديدة حقها ونضعها في مواقع المسئولية المباشرة ضمن شرائح العمر الوسطي علي الأكثر فإننا لن نكون قادرين علي الاعتماد عليها أو تحميلها مسئولية المستقبل بتبعاته الثقال وتوابعه الضخمة, وكثيرا مانسمع عن من يتباكون ـ في مجال الفن علي سبيل المثال ـ علي أصوات أم كلثوم و عبدالوهاب وغيرهما بينما واقع الأمر أن هناك مواهب جديدة لا تجد فرصتها لأن ظاهرة الأعداد الكبيرة والزحام المتزايد قد حرمت كثيرا من المواهب فرصة الحصول علي استحقاقتها وإظهار قدراتها للاعتبارات سالفة الذكر مضافا إليها ذلك الحصار المضروب حول بعض المواهب والذي يمارسه كل من له ميزة أو تحققت له أسبقية, ثم نعود بعد ذلك لنتساءل أين الكفاءات؟ ولماذا اختفت المواهب؟ ولماذا غابت البدائل؟ بينما الأمر غير ذلك تماما فالأمم لا تعقم والشعوب لا تتوقف عن دفع عناصر واعدة وضخ دماء جديدة وهنا أريد أن أشير إلي بعد سيكولوجي لا نفطن إليه كثيرا, فإذا تخيلنا مؤسسة ما علي قمتها شخصية معينة فإننا نتصور أنه ارتبط بها وأصبح جزءا منها وكأنه زواج الأسقف بالأبرشية في الكنيسة القبطية! ولكن الأمر في الحياة العادية يختلف عن ذلك تماما فكل من يتولي موقعا سوف يرتبط به تلقائيا ويصبح جزءا من شخصيته ولن تحتاج المسألة كما نتصور إلي بريق وتألق منذ البداية لأننا نقع في خطأ كبير عندما نقارن بين المسئول في لحظة تركه للموقع ووراءه رصيد من الأعمال ونصيب من الشهرة وبين المسئول الجديد القادم بغير رصيد أو نصيب منهما معا, مع أن المنصب يضفي علي صاحبه تلقائيا مظاهرة ولو ازمة ويعكس عليه بريقه أيضا, ثم إن طغيان الفرد علي المؤسسة هو تعبير عن ظاهرة سلبية لا تتفق مع الحياة السياسية المعاصرة ولا تتماشي مع أصول علم الإدارة فنحن جميعا نخدم أوطاننا وينبغي أن نوظف المواقع لذلك الهدف دون سواه, أما التفرغ لتلميع الأسماء وحياكة الدسائس وحصار المواهب وحرق البدائل فتلك كلها أمراض وفدت علينا مع طوفان الأعداد الكبيرة وغياب المعايير الموضوعية وزحف العوامل الشخصية, فإذا كنا نسعي نحو الإصلاح الحقيقي فإنه لابد من رفع الحصار عن المواهب وفتح الأبواب أمام البدائل حتي تنضج الزهور اليانعة, وتتفتح البراعم الشابة, ونحيا جميعا في مناخ صحي سليم, وبيئة متوازنة سوية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/7/1/WRIT1.HTM