لا تكاد نعرف دولة يلعب فيها الجزء غير المنظور من الاقتصاد القومي تأثيره في الحياة اليومية مثلما هو الأمر في مصر, لذلك أبادر في البداية فأسجل تحفظي علي كل الأرقام الدولية التي تتحدث عن الأوضاع الاقتصادية في مصر لانها تعكس في ظني ـ وليس كل الظن إثم ـ دلالات حول ماهو مسجل, ولكنها لا تستوعب شرائح عديدة من النشاط الاقتصادي الحر وقطاعات مختلفة من التعاملات خارج المظلة الرسمية للدولة, لذلك تأتي الأرقام الدولية أكثر تشاؤما وأقل تعبيرا عن واقع الحياة الاقتصادية في البلاد وهو أمر فطن إليه معظم الخبراء المعنيين بالاقتصاد المصري الذي يذكرني أمره دائما بتعبير البركة وهو تعبير غيبي, بل وهلامي لانعرف توصيفه ولكننا نشعر بوجوده, كذلك هو يذكرني أيضا بما كان يقوله لنا دبلوماسي كبير رحل عن عالمنا منذ سنوات هو د. أحمد عثمان السفير المرموق والقانوني اللامع, فعندما كانت تتأزم الأمور في قضية الشرق الأوسط قبل1973 بالذات, ونشعر بأن الموقف المصري يواجه مصاعب حادة
كان يقول لنا ونحن دبلوماسيون صغار وقتها رغم علمه الغزير وفكره العميق ـ إن السيدة نفيسة رضي الله عنها وسيدنا الحسين والسيدة زينب وغيرهم من أهل البيت وأحباب مصر سوف يتولون اصلاح الباقي! وبرغم أن حديث الدبلوماسي الراحل كان أقرب إلي الدعابة منه إلي الحقيقة فإنه ينطبق بقدر كبير علي واقع النشاط الاقتصادي في مصر, ويكفي أن أقول إن الثقاة ممن يعرفون دهاليز الاقتصاد المصري ودروبه يرددون في كثير من المناسبات أن30% علي الأقل من النشاط الاقتصادي غير موثق ولاتوجد له بيانات في سجلات الدولة بدءا من تجارة المخدرات بالطبع مرورا بتهريب المجوهرات وصولا إلي الارباح اللامنظورة في التداول غير المسجل لبيع العقارات, فضلا عن التجارة غير المعلنة مثل ما نطلق عليه بازار تحت السلم أو تربية المواشي والدواجن مع غيبة نظام ضريبي محكم أو ضوابط جمركية صارمة, وإذا اردت أن اضع توصيفا أكثر دقة لواقع الحياة الاقتصادية والنشاط التجاري في مصر وتأثيره علي مايسمي بالدخول غير المنظورة للأسرة المصرية, فإنني أوجز ذلك في النقاط التالية:
أولا: إن ثقافة اداء التزامات الدولة ودفع الضرائب بأنواعها ليست راسخة لدينا حتي الآن ففي كل دول العالم يوجد تهرب ضريبي ولكن هنا في مصر لايوجد حتي اقتناع ضريبي! فالمصريون يتحدثون علنا عن كيفية التلاعب عند تحديد وعاء الضريبة والسعي إلي تمرير البضائع دون سداد الرسوم الجمركية المطلوبة أو محاولة تقليص ماهو مطلوب إلي حده الأدني ضريبيا وجمركيا, وتعكس هذه الروح ذلك الشعور المتأصل لدي المصريين ـ أصحاب الدولة المركزية الضاربة في أعماق التاريخ ـ من أن حصولهم علي ماتصل إليه أيديهم صافيا غير منقوص هو أمر طبيعي مرددين دائما انهم ليسوا أغني من الدولة وأن الميري لايحتاج إلي اضافة إليه بل هم في حاجةإلي الأخذ منه, ولاشك أن هذا النوع من الثقافة الشعبية يؤثر علي اقتصاد الوطن بشكل غير مباشر خصوصا علي المدي الطويل مع تراكم الأزمنة وتتابع الأحقاب.
ثانيا: إن غيبة الرقابة أحيانا كذلك صرامتها أيضا تؤديان إلي اجادة المصريين لفنون الهبوط بالرسوم إلي حدها الأدني والمراوغة في دفع مستحقات الدولة أو المماطلة فيها عند اللزوم, وهم يعتبرون أن ذلك أمر مشروع وتقليد طبيعي بينما هو يعكس في الواقع فساد الذمم وأزمة الاخلاق.
ثالثا: إن المصريين مغرمون بالنشاط الذاتي فقد يحيل بعضهم منزله إلي مركز غير رسمي لنشاط تجاري أو خدمي لايقع تحت طائلة القانون ولاترصده وثائق مصلحة الضرائب هذا في المدن المصرية, أما في القري فحدث ولاحرج فالجزء غير المنظور من اقتصاد القرية يبدو كبيرا بالمقارنة بالجزء المسجل منه فهناك اقتصاديات الحقل ومشروعات تربية الحيوان والتي تحقق دخولا مباشرة, وان كانت متواضعة إلا أنها تظل خارج نطاق سجلات الدولة.
رابعا: ان الرباعي الشهير للأنشطة الرابحة بدءا من تجارة المخدرات مرورا بتجارتي المجوهرات والعقارات وصولا إلي تجارة السلاح تمثل في معظمها جانبا ضخما من مدخول عوائد الاقتصاد الوطني برغم أن الجزء الأكبر منها قد لايخضع لضوابط قانونية ولايوجد في سجلات رسمية.
خامسا: ان المصري بطبيعته يتشكك في السلطة وينظر إليها باعتبارها اداة جباية ولايفضل التعامل من خلالها لذلك لايتبع البعض أساليب تتسم بالشفافية والصدق, ولكن يتجهون إلي المراوغة والعبث بالقانون والتلاعب بنصوصه للإفلات من طائلته.
.. لقد أردت من هذه النقاط التي أشرت إليها اعطاء نموذج لبعض الدوافع التي تقف وراء تزايد مساحة الجزء غير المنظور من إجمالي الاقتصاد الوطني كله, فكل الدلالات الرقمية عن الأوضاع في مصر لاتمثل انعكاسا للحقيقة فهي تعبر فقط عن الجزء المنظور من الدخل القومي العام, ولاتشير إلي الدخول الطفيلية وغيرها من المصادر غير المنظورة في العملية الاقتصادية, وذلك بغض النظر عن فلسفة الاقتصاد القومي ـ حرا كان أو موجها ـ فالناس يتحدثون في النهاية عن البركة المستمدة من أضرحة أولياء الله والقديسين, وفي ظني أن هناك عوامل أخري تساعد في استمرار هذه الظاهرة وأهمها عاملان اساسان:
الأول: هو مايشكو منه المجتمع المصري من ازدواجية في نظام التعليم بكل انماطه وانواعه وعلي الثقافة الشعبية بكل روافدها وعلي الإعلام الوطني بكل محدداته وأهدافه, لذلك فان المضي علي طريق الاصلاح سوف يعالج بالضرورة هذه الأمور ويضع نهاية للجانب السلبي فيه.
الثاني: هو ذلك الركام الضخم من القيم الموروثة والتقاليد المرعية من الامتداد الحضاري الثقيل الذي يحدد أمام المواطن في النهاية الفارق بين المعلن وغير المعلن, وبالتالي يشير إلي حجم المنظور واللامنظور في حياتنا اليومية.
.. ان قضية المنظور واللامنظور في الاقتصاد الوطني تحتاج إلي قراءة واعية ونظرة فاحصة ورؤية شاملة لانها تمثل إحدي المسائل التي تعكس الشخصية المصرية حيث تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بل والسياسية أيضا, وأنا هناك لا أشكك في ارتفاع درجة الوعي واتجاه المصريين تدريجيا نحو ادخال الدولة كطرف في معاملاتهم التجارية خصوصا في عمليتي البيع والشراء, كما أن الحرب الناجحة علي المخدرات تسهم هي الأخري في توفير جزء كبير من الدخل القومي يجري الحصول عليه من جانب الذين يتاجرون في صحة الشعب ومستقبل شباب الأمة, كذلك فإنني اعترف بأن هناك تيسيرات كبيرة قد استجدت علي مجموعة الإجراءات المطلوبة عند تحصيل الرسوم العقارية والضرائب المباشرة وغير المباشرة, كما أن ضريبة المبيعات قد سدت هي الأخري ثغرة في التداول وهو أمر أخذت به معظم دول العالم المتقدم, ولست أشك في أن التربية السياسية الصحيحة وبناء جسور الثقة بين الفرد والدولة سوف تتكفل كلها بالتخلص من هذه الظواهر السلبية, وتدخل الجزء الأكبر من الاقتصاد غير المنظور في إطار الاقتصاد المنظور الذي تصبح الدولة رقيبا عليه, وان لم تكن طرفا فيه, ولكنه يدخل في سجلاتها لكي يكون رصيدا حقيقيا للنشاط الوطني في قطاعه الاقتصادي, لذلك كله فإنني واحد من المتشككين بالفعل في دقة الأرقام الدولية حول الاقتصاد المصري خصوصا عندما يتصل الأمر بالدخل السنوي للفرد فأنا أحسب أن مايزيد علي الربع غير مسجل لانه ينضوي تحت مظلة الاقتصاد غير المنظور, أو الدخول الهامشية التي يحصل عليها الفرد دون أن تكون معلنة في سجلات الدولة, فالذين يتحدثون عن البركة في مصر ليسوا واهمين تماما, ولكنهم يقفون علي درجة من درجات التعامل مع الحقيقة الغائبة والتي تجسدها الأنشطة الهاربة من رقابة الدولة, والتي تعيش عليها ألوف الأسر المصرية في الريف وفي الحضر علي السواء.. هذه ملاحظات عامة أردت بها أن أضع تحت الضوء قضية يدركها الاقتصاديون قبل غيرهم, ويعانيها السياسيون بعدهم, ويشاركهم فيها الوطن كله للمضي علي طريق الاصلاح الذي يشمل المرافق الاساسية لضوابط الاقتصاد الوطني أخدا في الاعتبار أن النظام الضريبي والجمركي قد يختلف في طبيعته بين الاقتصاد المركزي والاقتصاد الحر, ولكنه يسعي في ظل النظامين إلي حصول الدولة علي مستحقاتها وخضوع الأنشطة الاقتصادية لاشرافها, وتلك خطوة علي طريق التحول الذي نطلبه, والاصلاح الذي ننشده.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/5/20/WRIT1.HTM