إن المشاهد العبثية من مسرحية بغداد الأخيرة تثير من الهموم والشجون مثلما تثير من أسباب السخرية ودوافع الشك وعلامات الاستفهام وكلها تقفز إلي الذهن مصحوبة بأسئلة لا نعرف إجابة محددة عنها إننا لا ندرك بالضبط لماذا كانت تلك الحرب وكيف مضت أيامها الأولي ثم لماذا حدث هذا الاختفاء الكامل للنظام العراقي ورموزه من ساحة المواجهة البعض تسيطر عليه ثقافة المؤامرة وتحكمه عقدة الغموض ويري إن ما حدث إنما هو نتيجة صفقة جري الترتيب لها بإحكام وتنفيذها في الوقت المناسب بحيث تسقط' بغداد' وغيرها من مدن العراق في قبضة القوات الغازية بأرخص ثمن ومهما كانت التفسيرات والتحليلات والتأويلات إلا أننا في النهاية أمام واقع جديد تتغير معه ملامح المنطقة بالكامل وتتشكل به قسمات مستقبلها القريب والبعيد أيضا لذلك فإننا نضع في البداية ملاحظات ثلاثا رئيسية تدور حول نتائج تلك الحرب التي لم تكتمل فصولها بعد:.
أولا: ـ إن هذه الحرب قد أدت إلي خلل إستراتيجي في موازين القوي بالشرق الأوسط لأن تحطيم القوة العسكرية والبنية الاقتصادية لدولة عربية كبيرة هو بالضرورة خصم تلقائي من القوة العربية عموما بغض النظر عن حقيقة لا نغفلها وهي أن تلك القوة المفقودة قد جري توظيفها دائما لخدمة أهداف فردية والدخول في مغامرات كلفت الأمة العربية ما لا يقل عن نتائج نكسة1967 أو ربما ما يزيد عنها بكثير ولكن يبقي الخصم الذي جري اقتطاعه من الرصيد الإجمالي للأمة العربية مطروحا منها ولو نظريا علي الأقل.
ثانيا: ـ إن ما جري ـ وهو أكثر مما نري ـ يتجه بالمنطقة نحو تغييرات هيكلية تتجاوز المؤسسات والسياسات
إلي المناخ الفكري والثقافي المطلوب وهذه في ظني نقطة خطيرة تدعو إلي القلق وتثير الهواجس لأن المطلوب علي ما يبدو قد يمس الهوية القومية بل وربما التراث الحضاري أيضا!
ثالثا: ـ إن النظام الإقليمي العربي ـ وهو بالمناسبة ليس جامعة الدول العربية وحدها- قد أثبت عدم قدرته ونقص فعاليته في مواجهة التطورات الأخيرة في المنطقة ولا يرجع ذلك إلي ضعف المؤسسة القومية فقط بقدر ما يرجع إلي تضارب السياسات واختلاف الأجندات وغياب عنصر الإرادة لدي معظم الدول العربية في القيام بعمل عربي مشترك يتسم بالمصداقية ويتمتع بالشفافية.
.. فإذا كانت هذه هي أبرز النتائج الإقليمية لتلك الحرب التي لم تكتمل فإنه تبقي أمامنا دول أربع نختارها للبحث في نتائج الحرب عليها بسبب أهميتها الإقليمية والدولية وهذه الدول هي مصر وسوريا والسعودية وإيران وسوف نفرد لمصر ـ بحكم أهميتها فضلا عن الانتماء إليها ـ مقالنا القادم بينما نتطرق في عجالة إلي الدول الثلاث الأخري.
سوريا بعد العاصفة
إنها دولة جوار جغرافي مباشر للعراق وتحكمها شراكة تاريخية كان حزب البعث أبرز ملامحها في العقود الخمسة الماضية ولذلك فإن خسارة سوريا من سقوط نظام صدام حسين هي مسألة لا تحتاج إلي قراءة عميقة فالبعث قد فقد أحد جناحيه برغم تسليمنا بالخلافات الجذرية في الفكر والأسلوب بين بغداد و دمشق ما وصل إلي حد مشاركة سوريا في حرب تحرير الكويت عندما غزاها النظام العراقي السابق ومع ذلك فنحن نري أن ما حدث في الأسابيع الأخيرة هو عنصر ضغط قوي علي سوريا وحصار لسياساتها ومحاولة مباشرة لتغيير خطابها العلني بحيث يتسق مع ما هو مطلوب خصوصا وأن تنسيق بين واشنطنو دمشق لم يكن مفقودا بالكامل في كثير من الأحداث الإقليمية والدولية وفي ظني أن واشنطن قد تحاول من خلال إسرائيل التحرش بسوريا في هذه الظروف الاستثنائية من خلال افتعال معركة مع حزب الله وإرسال إشارات ضاغطة تحاول إشعار سوريا بالعزلة حيث الوجود الأمريكي في شرقها والوجود الإسرائيلي في جنوبها وتركيا ـ غير المضمونة دائما ـ في شمالها ولست أحسب أن الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بعمل عسكري ضد سوريا ولكنها سوف تسعي لتحقيق نتائجه المطلوبة دون القيام به في شكل مواجهة سياسية وإعلامية ضد الحكم في دمشق.
السعودية والحملات الإعلامية
أتوقع أيضا أن تتعرض المملكة العربية السعودية لمزيد من الحملات الإعلامية والانتقادات السياسية في الفترة القادمة لأن لدي الولايات المتحدة الأمريكية رؤية محددة لمنطقة الخليج وهي لن تتوقف عن المضي في تنفيذها بكل الأساليب بدءا من الغزو العسكري كما حدث في العراق أو الضغط السياسي بل والتلويح من بعيد باستخدام القوة وتوجيه الإنذارات المقنعة والمباشرة مثلما يحدث مع سوريا وإيران أو توجيه الملاحظات المستمرة حول الأنظمة المختلفة مثلما يحدث بشكل ملحوظ تجاه المملكة العربية العربية السعودية وبشكل أقل تجاه مصر أيضا فواشنطن في رأيي قد بدأت طريقا تريد أن تمضي فيه رغم أنني أراه مليئا بالمصاعب محفوفا بالمخاطر في وقت تبلغ فيه السياسة الخارجية الأمريكية أدني درجات شعبيتها في العالم كله وليس في الشرق الأوسط وحده ومع ذلك فإن واشنطن تحاول أن تستخدم لغة فيها شئ من الترغيب ولكنها لا تخلو أيضا من الترهيب.
إيران.. المصاعب والمتاعب
يحار المرء أحيانا في فهم السياسة الإقليمية والدولية لإيران( الثورة الإسلامية) فهي أحيانا تتخذ مواقف متشددة تجاه السياسة الأمريكية والممارسات الإسرائيلية وأحيانا أخري نراها قد انصرفت عن الساحة الإقليمية وهادنت الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها وتوقفت عن الحملات الإعلامية ضدها ولا شك أن إيران قد تأثرت كثيرا بالحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب بعد11 سبتمبر2001 وكذلك تأثرت أيضا وبشكل أعمق بالحرب علي العراق برغم تلك الحرب الدامية بين طهران وبغداد والتي استغرقت معظم سنوات عقد الثمانينيات من القرن الماضي حيث دعمت الولايات المتحدة الأمريكية الجانب العراقي في تلك الحرب خصوصا في سنواتها الأخيرة بشكل حسمها لصالح نظام صدام حسين الذي خرج منها مزهوا بنصر زائف مفترسا كل من يقف في طريقه علي النحو الذي أدي إلي غزوه للكويت والذي كان بداية لتلك المأساة الكبري التي يعاني منها العراقيون وجيرانهم وأشقاؤهم معاناة قد تطول كثيرا فإيران لا تشعر بأسي لسقوط نظام صدام حسين لما جره عليها من ويلات ولكن الإيرانيين يشعرون أنهم بين طرفي الكماشة الأمريكية في أفغانستان والعراق وهم يدركون أيضا أن برنامجهم النووي مستهدف وأن مرونة الحركة أمام الاجتهادات السياسية للثورة الإسلامية لم تعد قائمة لذلك فإن الخطاب السياسي الإيراني قد اعتراه قدر كبير من الاعتدال وخفت لهجته المتشددة ولم تعد الولايات المتحدة الأمريكية بالضرورة هي الشيطان الأسود كما كانت تسميها أدبيات الثورة الإسلامية في إيران علي امتداد العقدين الأخيرين.
.. لقد أردت من هذا العرض الموجز للوضع القائم في أهم دول جوار العراق أن أشير إلي تداعيات الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية علي تلك الدولة العربية وهي حرب احتوت من المفاجآت ما لا يعرفه تاريخ الحروب الحديثة إذ سوف تظل الألغاز المحيطة بها مطروحة إلي أن يكشف عنها المستقبل القريب أو البعيد ومع ذلك فإن سقوط بغداد في يد العسكرية الأمريكية لا يقل بكثير عن سقوط حائط برلين لأنهما يؤرخان ـ كل منهما في توقيته وظروفه ـ لعصر جديد وعالم مختلف فلقد أدت الحرب الأخيرة في العراق إلي حالة إحباط قومي أعادت إلي الأذهان أجواء يونيو1967 برغم إدراكنا للفوارق بينهما من حيث الدوافع والنتائج ونوعية القيادة ولكننا لا ننكر أيضا أن صمود الشعب العراقي في الأيام الأولي للحرب كان قد زرع الأمل لدي الجماهير العربية ولو بمنطق العاطفة وحدها بينما كان الاختفاء المفاجئ والانهيار الكامل الذي حدث علي الجانب العراقي بعد ذلك مدعاة للحزن وخيبة الأمل إذ أن تصريحات وزير الإعلام العراقي الصحاف كانت بمثابة كذب جميل تمني الناس لو أنه حقيقة لا رغبة في استمرار نظام صدام حسين أو حزنا علي اختفائه ولكنه الألم الذي يعتري أجيال هذه الأمة بين الحين والآخر كلما جدت علي أرضها نكسة جديدة أو أصابها فشل في إدارة الصراع وتوظيف الموارد والتعامل الواعي مع حقائق العصر وتطورات العالم وتغيرات موازين القوي فيه.
.. إن تلك الحرب الغامضة سوف تحتل موقعا فريدا في تاريخ الحروب الإقليمية لأنها حرب لم تكتمل كما أن تداعياتها أخطر بكثير من الحدث نفسه وأشد تأثيرا من وقائعه اليومية إذ أنه ليس الشعب العراقي هو الذي انهزم كما أنه ليس هو أيضا الذي خرج للسلب والنهب تحت سمع وبصر قوي الاحتلال الأجنبي ولكنه هو ذلك الشعب الذي جري قهره طويلا فانفجر يلتمس الحرية المفقودة ويطلب الحد الأدني من الكرامة الضائعة فإذا بجزء منه يسقط في براثن الفوضي وجزء آخر لايدري ما يفعل فلقد كانت الأحداث أكبر بكثير من قدرة الإنسان العراقي أو غير العراقي علي تفسير ما جري حيث غاب الأمان وتاهت الحقيقة وقد صدق من قال قديما إن فاقد الشئ لا يعطيه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/4/22/WRIT1.HTM