يتردد حديث مستمر في كواليس السياسة الإقليمية يدور حول أهمية الدور المصري في الحاضر والاحتمالات المقبلة أمامه في المستقبل, ويذهب البعض الي حد القول أن ذلك الدور سوف يشهد تراجعا في السنوات المقبلة انطلاقا من نتائج التطورات الإقليمية التي استجدت والأحداث الدولية التي وقعت وقد استقبلت منذ أيام قليلة الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان اثناء زيارته للقاهرة وكان من بين ما قاله لي في حوارنا هو اعتقاده بأن قدرة مصر علي قيادة المنطقة العربية في اتجاه العولمة بجوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية سوف تكون هي المعيار الحاكم في تحديد درجة فعالية الدور المصري, واذا كانت الشهور المقبلة تحمل في طياتها توقعات بغير حدود قد تصل الي حد المساس بالخريطة السياسية لبعض دول المشرق العربي فضلا عن وجود أمريكي مباشرة يخرج من إطار الضيافة الطارئة الي الوجود شبه المستمر, فإن الكل يعرف أن التحولات الدولية والإقليمية تصاحبها تحولات أخري في الأدوار والمواقف وتتواكب معها اتجاهات جديدة في السياسات والغايات.
مستقبل علي ضوء تزايد الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وتأثير ذلك علي دور مصر الإقليمي فإننا نتطرق بالضرورة الي النقاط التالية:
أولا: مرت العلاقات المصرية ـ الأمريكية منذ منتصف الخمسينيات بمراحل انكماش وانتعاش لأسباب تتصل بالسياسات التحريرية التي تبناها الرئيس الراحل عبدالناصر وكانت متعارضة مع التصور الأمريكي للمنطقة فضلا عن غياب التفاعل الكيميائي الإيجابي بين القيادة المصرية وبعض الإدارات الأمريكية والذي تجسد في المواجهة بين عبدالناصر ودالاس عند سحب تمويل السد العالي ثم تأميم قناة السويس, ولكن وصول الرئيس الراحل السادات الي السلطة جعله يتحرك بمنطق جديد مؤداه أن99% من كروت حل النزاع في الشرق الأوسط تقع في يد الولايات المتحدة الأمريكية, ولقد ازدهرت العلاقات المصرية الأمريكية بعد حرب أكتوبر1973 حيث كانت زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام1974 إيذانا بمرحلة جديدة بلغت درجة عالية من التقارب بعد ذلك بزيارة الرئيس الراحل السادات للقدس وتوقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية في29 مارس1979, ثم خضعت العلاقات المصرية الأمريكية لحالات نسبية من الصعود والهبوط في إطار من الصداقة والتعاون حيث حصلت مصر علي معونة أمريكية مستمرة بمقتضي اتفاقية السلام في الوقت الذي استمرت فيه مصر عنصرا للتوازن ومركزا للثقل في الشرق الأوسط.
ثانيا: لعبت السياسة المصرية دورا متجانسا مع السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط محتفظة بهامش اختلاف في مناسبات مختلفة, مثلما حدث في أزمة السفينة اكيلي لاورو عام1986 أو ما كان يتصل بالأزمات الطارئة بين بعض الدول العربية والادارة الأمريكية, ثم بلغت علاقات القاهرة واشنطن مرحلة أخري من التعاون الوثيق في إطار التحالف الدولي لتحرير الكويت عامي90 ـ1991, ومع ذلك ظلت القاهرة محتفظة بدرجة من استقلالية القرار برغم بعض الفتور العابر أو الضغوط غير المباشرة, ولكن بقي الدور المصري دورا رئيسيا في المنطقة تعول عليه الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وانفراد واشنطن بالقرار السياسي الأول في العالم المعاصر.
ثالثا: ظلت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وانحياز واشنطن المتزايد للدولة العبرية في مواجهة الفلسطينيين والعرب السبب الأساسي في الخلاف الرئيسي بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية وهو أمر تشترك فيه معها أيضا كل الدول العربية تقريبا, ولكن الدور المصري الداعم للمسيرة السلمية والنشيط دبلوماسيا علي كل الجبهات الإقليمية والدولية ظل يحظي بمباركة أمريكية ما دام لا يتعارض مع الأهداف والغايات التي حددتها واشنطن لمستقبل المنطقة, وإن كان هناك شعور مكتوم أحيانا لدي بعض الدوائر الأمريكية مؤداه أن القاهرة تدعم الفلسطينيين في التمسك بمواقفهم بل والتشدد أحيانا من وجهة نظر واشنطن وإسرائيل أيضا, وكان يمكن لذلك الدور المصري أن يستمر بقوة الدفع إلا أنه تأثر بعوامل استجدت علي الساحتين الدولية والإقليمية.
رابعا: مثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 تحولا ضخما في شكل العلاقات الدولية مما انعكس علي السياسات الإقليمية حيث يمر العالم بمرحلة استثنائية لا يمكن القياس فيها علي الماضي كما لا يجوز البناء عليها للمستقبل, فقد ظهرت الجفوة واتسعت الفجوة وغابت الثقة وأطلت نظرية صراع الحضارات علي مسرح العلاقات بين الأمم والشعوب, وأصبحت واشنطن تتصرف من منطلقات معقدة وتتخذ قراراتها بغير اعتبار لردود الفعل أو حساب لتأثيرها علي حلفاء الماضي وأصدقاء الأمس, ولا نستطيع أن ندعي أن العلاقات المصرية الأمريكية قد أصبحت حالة فريدة في هذا السياق فالعلاقات لاتزال متميزة خصوصا أن مصر لم تتخلف عن ركب تقديم المعلومات والنصائح المتصلة بدعم الحملة الدولية ضد الإرهاب, صحيح أن مصر لم تشارك عسكريا ولكنها شاركت بقوة سياسيا فضلا عن أن تجربة مصر مع الإرهاب في العقود الأخيرة جعلتها أقدر من غيرها علي إبداء وتقديم النصح للولايات المتحدة أمام الظروف والتداعيات التي جاء بها العمل الإرهابي في خريف عام2001.
خامسا: تأثر الشرق الأوسط كما لم تتأثر منطقة أخري من العالم بنتائج حادث الحادي عشر من سبتمبر حيث ظهرت نظريتان متقابلتان لتفسير الظاهرة الإرهابية عموما, فقد رأت الولايات المتحدة الأمريكية ـ ولاتزال ـ أن الأنظمة في المنطقة تتحمل مسئولية كبيرة فيما جري, وتشير واشنطن تلميحا في تصريحاتها الرسمية, وتصريحا في صحافتها اليومية الي عجز بعض النظم عن مواكبة روح العصر مع غياب الديمقراطية وشيوع الفساد السياسي, وهو ما أوجد البيئة الحاضنة للإرهاب الذي أصبح دوليا, ولم يعد ظاهرة إقليمية, بينما لايزال هناك رأي عربي مختلف في تفسير الظاهرة وهو يري أن الانحياز المطلق من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لسياسات إسرائيل العدوانية والمنطق الأمريكي المزدوج المعايير والذي يكيل بمكيالين هو في مجملة سبب رئيسي للإرهاب بدليل استهدافه للمصالح الأمريكية والإسرائيلية, ولقد عبر الرئيس مبارك عن ذلك في شفافية تستحق التقدير بعد أسابيع قليلة من حادث سبتمبر2001, ومن خلال مؤتمر صحفي في أثناء زيارته للعاصمة الألمانية برلين حيث أعلن إن الإرهاب لن يتوقف ما لم يتحقق حل عادل للقضية الفلسطينية, وهو ذاته رئيس مصر ـ أكبر دولة عربية ـ الذي أعلن في خطابه عند افتتاح دور الانعقاد الجديد لمجلس الشعب المصري في نوفمبر2002 عن مطالبته بتطبيق ذات المعايير التي يجري تطبيقها علي العراق حاليا علي إسرائيل أيضا, حيث يعلم الجميع حيازتها ترسانة من السلاح النووي, والولايات المتحدة الأمريكية مطالبة بذلك ما دامت تتصدي لعملية نزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة.
.. إن استقراء النقاط السابقة يشير الي حقيقة مؤكدة وهي أن هذه المرحلة الاستثنائية في العلاقات الدولية ذات انعكاسات مباشرة علي علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بجميع الأطراف في المنطقة وربما في غيرها أيضا, ولعلنا نعترف بأن كثيرا من الدول تحاول الآن جاهدة توفيق أوضاعها الجديدة وفقا للظروف الطارئة التي شهدها العالم في العام الأخير, وإن كنت أظن أن استجابة الولايات المتحدة الأمريكية لاتبدو متناسبة مع تلك الجهود, فقلد تغيرت واشنطن ولم يعد لديها ثوابت تقف أمامها بل أصبحت أمامها أجندة عمل تسعي لتحقيقها, فحتي العلاقات الأمريكية ـ السعودية التي كانت أحدي الركائز الثابتة في الواقع الإقليمي للشرق الأوسط قد أختلفت الآن عما كانت عليه, ولم تتورع واشنطن عن توجيه اتهام لزوجة السفير السعودي في واشنطن وهي ابنة الملك الراحل فيصل, ورغم أن الاتهام لم يتأكد الا أن مجرد التفكير فيه يحمل دلالة خطيرة وهي أنه لم يعد أمام واشنطن مواقع حصينة أو أنظمة أثيرة في ظل الأوضاع الجديدة, ودعني هنا, ما دمنا نتحدث عن الدور الإقليمي المصري والإدعاء باحتمال تراجعه, أن أشير الي بعض الأزمات العابرة في علاقات القاهرة واشنطن والتي كانت قضية ابن خلدون أحدي محطاتها الأخيرة, حيث كان رد الفعل الأمريكي أكبر مما كان متوقعا, ذلك لأن الظروف قد تغيرت والولايات المتحدة الأمريكية اليوم ليست هي بالضبط التي كنا نعرفها من قبل إذ أن واشنطن التي جعلت فلسفة العزلة أحدي خصائص سياستها الخارجية منذ مبدأ مونرو1823 لاتزال تحتفظ في ذاكرتها بشيء من ذلك, إنها تفكر دائما بعقلية تري الولايات المتحدة الأمريكية في جانب والعالم كله في جانب آخر, ويهمني هنا أن أسجل ثلاث ملاحظات رئيسية حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وعلاقتها بمستقبل الدور الإقليمي لمصر:
(أ) إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد مستعدة لإعطاء ثقتها الكاملة لأي نظام في الشرق الأوسط وربما خارجه أيضا لأن أزمة الثقة المفقودة وعقدة الحادي عشر من سبتمبر لم تترك لدولة معينة( باستثناء إسرائيل) مكانا خاصا لدي الإدارة الأمريكية الحالية, بل إن واشنطن أصبحت مستعدة للقيام بأي تصرف دولي أو إقليمي دون مراعاة لخاطر نظام معين أو مجاملة لدولة بذاتها, فالدنيا تغيرت والصداقات تحولت, وحتي المصالح تبدلت.
(ب) في ظني ـ وأرجو أن أكون مخطئا ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تفكر في دول عربية صديقة أو أنظمة معتدلة, ولكن قررت أن تقوم مباشرة بما كان يمكن أن توكله لها ولعل ذلك يفسر الي حد كبير طبيعة الأجندة الأمريكية تجاه العراق والتي لاتخلو من رغبة ملحة في إيجاد قاعدة أساسية للوجود الأمريكي المباشر في المنطقة دون الحاجة الي وسطاء أو حتي وكلاء, إن واشنطن قد قررت علي مايبدو أن تجعل من العراق ـ بلد النفط والمياه معا ـ ركيزتها الجديدة التي تطل منها علي أواسط آسيا وجنوب أوروبا في جانب كما تبدو تأمينا لإسرائيل ومركزا للسيطرة علي منابع البترول من جانب آخر, ولذلك فإن الدور المصري وغيره من الأدوار في المنطقة سوف يحتاج الي مراجعة علي ضوء الظروف الجديدة وإن كانت تلك المراجعة لا تعني بالضرورة التراجع أو الانكماش.
(ج) إن الدور المصري الإقليمي لن يحافظ علي تأثيره الفعال في السنوات المقبلة اذا كان معاديا علي طول الخط للسياسة الأمريكية, بل هو مطالب بأن يحافظ علي علاقاته الوثيقة مع واشنطن برغم كل الملاحظات والحساسيات بل والمشكلات, وأحسب أن مصر تمضي بالفعل في ذلك الاتجاه الواقعي الذي ينسجم مع مصالحها ويتسق مع استقرار المنطقة خصوصا أن الدنيا كلها تخطب ود الولايات المتحدة الأمريكية بدءا من الصين أضخم دولة في العالم وصولا الي إيران دولة الثورة الإسلامية, ولذلك فإنني أقول صراحة ـ وقد ينتقدني الكثيرون ـ إن الدور المصري الإقليمي لن يكون فاعلا بمعزل عن الحقائق الجديدة التي يطرحها الوجود الأمريكي المباشر في المنطقة, وهو قدر مصر الشقيقة العربية الكبري أن تكون أكثر واقعية من غيرها, لأن الذي يتحمل المسئولية الأكبر لابد أن يتسم بالحكمة الأكبر أيضا.
.. إنني أريد أن أقول إن الدور المصري الإقليمي لن يتراجع ولكنه قد يتغير في أدواته وأساليبه استجابة لظروف طرأت وأمور استجدت.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/1/14/WRIT1.HTM