إن متابعة بعض القضايا المعقدة والمواقف الصعبة التي تعرضت لها العلاقات المصرية الخارجية أخيرا مع بعض القوي الكبري وفي مقدمتها القطب الأوحد الولايات المتحدة الأمريكية تدعونا إلي مراجعة شاملة ونظرة متأنية لأسلوب تعاملنا مع عدد من الأزمات الطارئة والملفات ذات الحساسية, إذ إنه عندما تتداخل أدوار للأمن السياسي والقضاء الوطني انطلاقا من مشاعر الكرامة القومية وتأكيدا لسيادة القانون دون وضع الظروف السياسية في الحساب وبغض النظر عن رؤية شاملة تسيطر علي المواقف, وتعطي بعض اعتبارات المواءمة الصدارة في قرارات ذات تأثير علي المصالح العليا للبلاد فإننا نكون في هذه الحالة أمام وضع صعب يزداد تعقيدا مع الوقت.. نعم إن الأمن المصري يقظ وذكي والقضاء المصري يطاول شموخه عنان السماء, ولكننا يجب أن نعترف ــ بكل أسف ــ بأن الاعتبارات السياسية قد زحفت بالفعل في السنوات الأخيرة علي القانون الدولي المعاصر ذاته فكيف لايكون لها تأثير في قرارات الدولة ذات التأثير الخارجي والتي تسهم في تشكيل صورتها أمام العالم في ظل ظروف بالغة التعقيد شديدة الحساسية؟
إن ما أريد أن أقوله بوضوح هو أن دول العالم المختلفة تضع ضمانات محددة وأطرا ثابتة تخرج من خلالها صورتها النهائية بعد المرور في المطبخ السياسي مهما تكن الظروف والمبررات, ذلك أن الوطن يدفع ضريبة عالية أمام بعض القضايا بينما لم يكن هناك مبرر يدعو إلي ذلك إذ يجب أن تسود دائما حسابات المكسب والخسارة بينما يظل القضاء عاليا فوق منصته السامقة,وتظل لاعتبارات الأمن أولوية لانجادل فيها, ولكن يبقي في النهاية أسلوب الطرح السياسي ونوعية الإخراج الإعلامي, إنني أدرك أن الظروف أحيانا معقدة, كما أن الرؤي متداخلة ولكن من المؤكد أن مصلحة الوطن يجب أن تكون فوق كل اعتبار وهذا يقودنا إلي البحث في المظاهر المختلفة التي تجذب القوي الخارجية لكي تتدخل في الشأن الداخلي, لاانطلاقا من فكر العولمة وحدها والتي أسقطت الحواجز ورفعت الحدود وسمحت بمنطق جديد يقوم علي مفهوم التدخل الخارجي المعتمد علي ما يطلق عليه حاليا القانون الدولي الإنساني, ولكن أيضا بسبب التحولات التي طرأت ــ خصوصا بعد أحداث2001 ــ والتي أدت في مجملها إلي فرض سياسات الكبار, والعبث بالشئون الداخلية للدول حيث المبررات دائما جاهزة والقرارات هي الأخري قابلة للتجه
يز عند اللزوم, لذلك فإننا سوف نستعرض هنا القضايا الرئيسية التي استندت إليها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دوائر غربية أخري للتدخل في شئون بعض دول المنطقة: ــ
أولا: ــ لقد تعرض مفهوم حقوق الإنسان لدرجة عالية من تطويع الاستخدام وفقا للظروف وحسب الطلب, ونحن لاننكر أن الإنسانية ناضلت طويلا من أجل إعلان ميثاق حقوق الإنسان الذي احتفلنا بمضي نصف قرن عليه منذ سنوات, ولكن محصلات القوي وسياسات الدول العظمي والكبري قد قامت بتفصيل ذلك المفهوم وفقا لمصالحها,وربما لأهوائها أيضا, وبالمناسبة فنحن لاندعي أن حقوق الإنسان في الدول العربية تتميز بأفضل أوضاعها. كما أننا لانزعم أنه لاتوجد انتهاكات لحقوق الإنسان في عدد من الأقطار العربية, ولكننا نقول في الوقت ذاته إن التطور المطلوب نحو تحسين أوضاع الإنسان العربي وصيانة حقوقه سوف يتحقق بالتعليم والثقافة وتوسيع مساحة المشاركة السياسية, وسيادة القانون ولن يتحقق بالتدخل الأجنبي, أو التفتيش الخارجي.
ثانيا: إن الحريات العامة والفردية هي ضمانات أساسية لحماية مؤسسات المجتمع المدني. بل وركائز النظام السياسي من حكومة وبرلمان وأحزاب, وهي ترتبط بعملية الإصلاح الدستوري, وإيجاد المناخ الملائم لازدهار الحريات ورسوخ الديمقراطيات, وليست العبرة بالجانب المؤسسي وحده بل إن هناك أيضا الجانب الفلسفي الذي يطرح فكر الدولة, ويخدم أمنها القومي ومصالحها العليا,ولذلك فإن الحرية تنتعش في ظل دولة القانون حيث الضمانات تحمي الحريات والضوابط تحدد مساحتها, والقواعد الملزمة تصون الحقوق وتنظم العلاقات.
ثالثا: إن الديمقراطية هي تعبير عن إرادة الشعب وترجمة لاختيارات جماهيره وهي تأكيد لاحترام النظام السياسي للدستور الذي يؤكد المساواة في المواطنة, ويقرر أن الأمة مصدر السلطات, والولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنهم لا يتعاملون مع الأحداث بمعيار واحد ولا يتصرفون من منطلق يتسم بالعدالة في العلاقات الدولية المعاصرة خصوصا بعد الأحداث المؤسفة عام2001, لذلك فإن هذه القوي الكبري قد دعمت بعض الديكتاتوريات حين كان ذلك يخدم مصالحها, كما أنها لم تتحمس لبعض الديمقراطيات عندما تعارضت مع رغباتها وأهدافها.
رابعا: تستأثر قضية الأقليات في عالم اليوم بنصيب كبير من الاهتمام بل إن كثيرا من المشكلات الدولية المعاصرة قامت في بدايتها علي مسألة الأقليات لأنها تمثل ميراثا إنسانيا ينشأ عن ظروف التنوع, ومصادر التعددية في المجتمعات المختلفة, فالأقليات العرقية والدينية واللغوية هي التي تتفاعل في عالم اليوم, لكي تكون ميزة في كثير من الأحيان إذ إن المجتمعات المتعددة الأصول والأعراق المختلفة الديانات تبدو أحيانا أكثر تقدما ورقيا من مجتمعات النقاء الكامل والصفاء العرقي, لذلك فإن الأقليات في المجتمعات المختلفة هم في رأينا نعمة وليست نقمة وإذا أخذنا المسيحيين المصريين وفي مقدمتهم الأقباط علي أنهم أقلية بالمعني العددي فقط منسوبا إلي مجموع السكان فإننا سوف نكتشف أنهم لايختلفون عن ذويهم من المسلمين لافي الأصول ولا في الثقافة ولا في أسلوب الحياة ولا في طبيعة المعيشة وتستحيل التفرقة بين المسلم والقبطي إلا إذا كان في الأسماء مايشير إلي ديانة معينة ولذلك فإن استخدام ورقة الأقليات لايصلح مبررا للتدخل في الشأن المصري, وقد قال كرومر المعتمد البريطاني في مصر مع مطلع القرن الماضي أنه لم ير مسلمين وأقباطا, ولكنه رأي مصريين يذهب بعضهم إلي المسجد يوم الجمعة ويذهب بعضهم الآخر إلي الكنيسة يوم الأحد, كما أن خليفته المعتمد البريطاني التالي جورست قال ــ بعد جولة في محافظات الصعيد والدلتا ــ عبارة شهيرة وهي إنه علينا نحن البريطانيين أن نترك المسلمين والمسيحيين وشأنهم في مصر لأنه لاتوجد بينهم مشكلات حقيقية, لذلك فإن الاستغلال الصاخب لمسألة الأقباط في مصر من جانب أقلية من المغتربين في الخارج, واستخدام الأجهزة الأجنبية, ودوائر الإعلام لهم هي مسألة لاتقوم علي أساس قوي, كما أنها إحدي أوراق الضغط المكشوفة علي الدولة المصرية من حين لآخر.
خامسا: إن الخصوصية الحضارية أضحت مسألة ذات حساسية بالغة بعد شيوع فكر العولمة وأحداث سبتمبر2001, ذلك أن كثيرا من الأمور التي تسبب أزمات دولية طارئة يرجع سببها في الغالب إلي تجاهل عامل الخصوصية وهو ما يؤدي إلي سوء الفهم المتبادل ولعل قضية ازدراء الأديان والاستهانة بالقيم التي جرت أحداثها أخيرا في مصر تحت مسمي قضية الشواذ وما نجم عنها من ردود فعل غربية واسعة هي نموذج لإنكار الخصوصية, وإسقاط تأثيرها مع فرض فكر الآخر دون فهم للحقائق أو دراية بالتقاليد أو احترام للأخلاق, ومراعاة للنظام العام, فحتي لو لم يكن هناك تجريم قانوني للانحراف الجنسي فإننا نظل أمام التحريم الديني والاستنكار الاجتماعي والإدانة الأدبية, وهو أمر لايدركه الغرب, ولا تتفهمه طبيعته وهو الذي يقود حملة انتقاد واسعة تخرج من إطار هذه القضية إلي قضايا أخري كبيرة, مثل حقوق الإنسان والأقليات والحريات العامة والفردية, ولست أوافق هنا علي الإطلاق علي ردود الفعل الأجنبية تجاه مثل هذا السلوك اللا أخلاقي ولكنني في الوقت ذاته أري أن عنصر المواءمة السياسية وتوقع ردود الفعل الخارجية, لم يكونا واردين في ذهن من تعاملوا مع هذه القضية وسعوا إلي إخراجها إلي حيز الوجود.
... هذه بعض الاعتبارات التي تشكل في مجموعها أبرز القضايا الشائكة التي تعامل الغرب ـــ سياسة وإعلاما ــ معنا من خلالها, وقد يري البعض فيها شأنا داخليا لايجوز للغير أن يدس أنفه فيه ومثل هذا القول كان محتملا منذ سنوات مضت ولكنه لم يعد ممكنا اليوم إذ إن القرية الكونية الواحدة وثورة المعلومات وشيوع ما يسمي مبدأ التدخل الإنساني أصبحت تشكل في معظمها عناصر فاعلة في العلاقات بين الدول, ولقد عانت مصر في السنوات الأخيرة كثيرا, من تلك القضايا ذات التأثير الخارجي ولعل قضية المفكر المصري الأمريكي سعد الدين إبراهيم هي النموذج الأوضح في هذا السياق, وقد تلتها من حيث الضجيج الإعلامي في الغرب قضية الشواذ ولعلنا نلاحظ جميعا أن مصر تدفع ثمنا كبيرا لمثل هذه القضايا برغم أنها تتم في ظل سيادة القانون ولاينظرها إلا القضاء العادي, ومع ذلك فإن الدنيا تقوم ولاتقعد خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية وهو أمر يدعونا إلي البحث في صيغة يتداخل فيها الأمن والقضاء والسياسة أيضا في مثل هذه القضايا, حتي لايتكرر ما حدث ولا نسمح للغير بأن يتطاول علينا مثلما جري, ولابد أن يتم كل ذلك بالطبع في إطار احترام السيادة الوطنية, والارتفاع بالقضاء المصري العريق بعيدا عن ملاحظات الغير, أو انتقاداته, إنه أمر يبدو بالغ الحساسية بل وشديد التعقيد أحيانا وهو ما يلزمنا بشيء من الحذر والدقة في التعامل مع مثل هذه الملفات ولنأخذ من ملف الوحدة الوطنية المصرية نموذجا في ذلك, فلقد قطعت تلك الوحدة أشواطا واسعة إلي الأمام في السنوات الأخيرة وأصبح الشأن القبطي جزءا من قضية عامة يتداولها المصريون بغير حساسية أو إنكار حتي خرجنا تقريبا من إطار الأزمات الطائفية أو المخاوف الدينية وبقي علينا أن نعطي ذات العناية ونفس الاهتمام لملفات أخري, تدور حول حقوق الإنسان والمسائل المتصلة بالحريات العامة والمسيرة الديمقراطية والانتخابات النيابية والإصلاح السياسي والدستوري, أقول ذلك وغايتي الوحيدة مما أكتب هو أن نتجنب مشكلات نستطيع أن نتفاداها وأن نقدم صورتنا أمام الآخر علي حقيقتها, دون تشويه أو غموض, فالتسامح صفة مصرية, والتواصل خصوصية وطنية, والحرية هدف إنساني, وغاية بشرية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/10/8/WRIT1.HTM