عندما تذكرت حديث الطيار الاجنبي الي ركاب طائرته التي تنتمي الي دولة اوروبية وهو يتحدث اليهم عبر جهاز الصوت عن أجمل شواطيء البحر المتوسط ـ علي حد قوله ـ وهو يعبر بطائرته الساحل الشمالي المصري قادما الي القاهرة كلما تذكرت هذه العبارة شعرت بالأسف علي الفرصة الضائعة التي أتمني لو استطعنا اللحاق بشيء منها وتقليل الخسائر التي حلت بنا من جراء السياسات الجزئية التي تعاملت مع ذلك الساحل الرائع الذي كان يمكن ان يضارع بل ويتفوق علي الريفيرا الفرنسية أو الايطالية, ولكننا تسرعنا كالمعتاد وسمحنا باقامة مايمكن تسميته بالعمران العشوائي الذي يخضع لرغبات فئوية بل وتطلعات فردية بينما كان يجب أن تكون هناك خطة شاملة تغطي الساحل من الاسكندرية الي السلوم بحيث تكون أمام سلسلة مترابطة من الامتداد العمراني الذي يخضع لذوق متجانس وتبدو له خصائص متميزة بحيث يستوعب القري السياحية العامة, والفنادق الكبيرة والصغيرة, والمطاعم المتخصصة, والمحلات المتنوعة بالاضافة الي المستشفيات بل والمطارات حتي يكون استغلال ذلك الشاطيء الساحر مستمرا علي امتداد العام كله بدلا من تلك التجمعات الخرسانية التي تمثل اهدارا حقيقيا لثروة قومية وتبديدا لمدخرات الناس.
وكلما انتقلت من قرية سياحية علي الشاطيء الي أخري شعرت بالخسارة الفادحة والمكاسب الضائعة نتيجة لغياب الرؤية الشاملة والتصور الكامل ويكفي أن نتأمل حجم الانفاق الوطني علي ذلك الكم الكبير من القري بل والمدن السياحية لكي ندرك أننا قد اخترنا الطريق الخطأ وأهدرنا فرصة ذهبية لجذب السياحة الاجنبية صيفا بل وربما شتاء أيضا إن جولة علي امتداد ذلك الساحل الطويل مع زيارة لاكبر تجمعات الاصطياف فيه وأقصد به منتجع مارينا سوف توضح حجم التكلفة الباهظة والاموال المجمدةباستخدام لايتجاوز شهرين كل عام! فالطرق المعبدة والبحيرات الصناعية والبذخ في تجميل الفيلات والشاليهات الي مايشبه القصور الصغيرة احيانا انما تعكس في مجملها نوعا من سوء التقدير بل والرغبة في التباهي, بالاضافة الي أنها تعكس نظرة قصيرة المدي من الناحية الاقتصادية حتي علي المستوي الفردي, والآن دعنا نحاول أن نضع تصورا مغايرا للافادة من تلك الثروة القومية الهائلة وذلك بالاشارة الي النقاط التالية:
أولا: أن الموقع الجغرافي الفريد للدولة المصرية منذ نشأتها قد جعل لها امتدادا ساحليا طويلا, حيث شواطئها علي بحرين لكل منهما ميزات معروفة وقيمة كبيرة, مع اختلاف في نمط الطبيعة في كل منهما اذ بينما البحر الاحمر يمثل واحدة من أكبر حدائق العالم تحت الماء ويجذب الاجانب من كل حدب وصوب فإن البحر الابيض هو امتداد للساحل الافريقي المطل علي اوروبا ذي الرمال البيضاء التي تمثل أشجار الزيتون والتين خلفيتها الرائعة مع نوعية مياه فريدة يتأرجح لونها بين الزرقة والخضرة في شفافية رائعة تجعل مياهه نوعا من الفيروز السائل الذي لا نظير له.
ثانيا: يتحدث الكثيرون في مناسبات مختلفة عن اهدار أجزاء كبيرة من شواطئنا الرائعة مع أن مصر بلد مفتوح بالبحار, شبه مغلق بالصحراء, وهو أمر يدعونا الي التساؤل عن تفسير ماحدث والبحث في أسباب هذا التوجه الفئوي لاستغلال الساحل الشمالي بالذات علي اعتبار أن ساحل البحر الاحمر قد نجا من هذه المحنة لانه كان يعرف مدنا قديمة تطورت مثل الغردقة وشرم الشيخ وسفاجا وغيرها, وهو ماحدد منذ البداية شخصية ذلك الساحل وحماه الي حد كبير من العشوائية ووضعه خريطة السياحة الدولية بشكل ملحوظ, فالشعب الالماني يهوي الغردقة والشعب الايطالي يهوي شرم الشيخ, وكل شعوب العالم تستمتع برياضة الغطس في الشاطيء المصري للبحر الاحمر, أما الساحل الشمالي فأمره مختلف لأن الهجمة علي أجزائه كلها بدأت في وقت واحد تقريبا عبر العقود الثلاث الاخيرة انطلاقا من امتدادات الاسكندرية والزحف غربا نحو مشارف مرسي مطروح.
ثالثا: ان الثروة القومية جزء لايتجزأ من وزن الدولة ومعيار لتحديد مكانتها العالمية وتوظيف دورها الاقليمي, ولذلك لايتصور البعض أن الحديث عن الساحل الشمالي هو لغو لامبرر له أو أنه ترف في ظل ظروف معقدة وأجواء ملبدة بغيوم التوتر الدولي والقلق القومي, بل ان الامر لايبتعد كثيرا في ظني عن جوهر مانريده من تعظيم لمكانتنا وتأكيد لدورنا لأن التقدم الاقتصادي والتفوق السكاني وارتقاء مستوي المعيشة واعادة النظر في التوزيع الديموغرافي للمصريين واستغلال المنحة الالهية التي حبا بها الله الارض المصرية هي أمور يجب النظر اليها باهتمام والحرص عليها في عناية, والشواطيء المصرية تحوي كنوزا غالية من الثروة الظاهرة او المغمورة لذلك فإن تبديدها خطيئة في حق الوطن, كما أن إهدار قيمتها أمر يحتاج الي المراجعة والحساب.
رابعا: ان شواطيء البحار والانهار حق عام يجب أن يكون متاحا للجميع ولذلك فان المباني التي تحتكر أجزاء من شواطيء البحر أو ضفاف النيل انما تمثل عدوانا حقيقيا علي الملكية العامة, مهما تكن المسميات التي تختفي وراءها, أو اللافتات التي ترفعها, ولعل الذين زاروا مدينة جنيف علي سبيل المثال ـ يتذكرون كيف أن شاطيء بحيرتها الشهيرة مفتوح أمام الناس بغير تفرقة رغم وجود من يملكون الفيلات والقصور حولها ولقد سمعت من السيد رئيس الوزراء الحالي كلاما علميا طيبا في هذا الاتجاه, اذ أنه يري أن شواطيء البحار وضفاف النهر يجب ألا يترك أي منها للتصرف العشوائي أو المبادرة الفئوية بل لابد من التعامل معهما من خلال رؤية شاملة تقوم علي خطة قومية يمكن أن تمثل مصدرا ضخما ومستمرا من مصادر ميزانية الدولة المصرية.
خامسا: اننا لانحاكم الظروف التي جري فيها استغلال تلك الشواطيء, وندرك ان جزءا منها كان حماسا فرديا او فئويا بل وأيضا حكوميا للخروج من الوادي الضيق والدلتا المحصورة نحو صيف الشمال وربما كانت الدوافع ـ كل الدوافع ـ حسنة النية طيبة المقصد ولكنها افتقدت تماما الخطة الشاملة وافتقرت الي التصور الكامل وبدت في معظمها جهودا متناثرة عطلت جزءا ضخما من الثروة القومية وشوهت بغير وعي واحدا من أجمل شواطيء البحر المتوسط علي الاطلاق, ولقد عرفت أن وجهات النظر المختلفة كانت تتحاور منذ سنوات طويلة حول امكانية استغلال ذلك الساحل الشمالي وكان لدي البعض رؤية أفضل بما في ذلك عدد من المسئولين ولكن ضغوط الجمعيات الفئوية والقطاعات الوظيفية كانت علي مايبدو أقوي منهم!..ان المقصود مما نكتبه الآن ليس هو التعريض بحكومات سابقة او انتقاد سياسات بعيدة ولكن الهدف هو تدارك الامر بالنسبة لهذا الساحل الطويل الرائع, ولقد اسعدني ان علمت أنه قد جري ايقاف اقامة أي منشآت جديدة أو قري سياحية في المسافة بين مرسي مطروح والسلوم لكي تخضع تلك المسافة لعملية تخطيط شامل وفقا لرؤية متكاملة خصوصا أن ذلك الامتداد الساحلي مليء بالخلجان الرائعة وتتميز شواط
ئه بالتدرج والسلاسة وتعتبر مثالية بالمفهوم السياحي الذي يجذب القادمين من أنحاء مصر والوطن العربي وكل اصقاع الدنيا بحيث لايقتصر استخدام ذلك الجزء الباقي من الساحل الشمالي علي فصل الصيف وحده بل يمتد الاستخدام علي مدار العام كله خصوصا وأنني أعرف من الزملاء والاصدقاء من يقضون فصل الشتاء بالكامل في بيوت المصيف علي امتداد الساحل الشمالي وهم لايعانون الا اياما قليلة أثناء النوات الشتوية وهي معاناة محتملة بالمقارنة بالحياة الباردة لذلك الفصل القاسي في بعض الدول الاوروبية, واذا كانت القاعدة الفكرية العامة تقضي بأن مالايدرك كله لايترك جله فانها تقودنا في هذه الحالة الي نوع من الدراسة الشاملة التي قد تتيح نجاح محاولة اصلاح بعض السياسات السابقة ومعالجة مانجم عنها من اضرار تمثلت في مكاسب ضائعة وبرامج معطلة وفوائد كان يمكن أن تعود علي السياحة الداخلية والخارجية والاقتصاد الوطني بما هو أفضل من ذلك الذي تحقق.
ان مصر خاضت في السنوات الاخيرة معارك ضارية في مجالات التنمية المختلفة وحققت انجازات مشهودة علي الصعيد العمراني والانمائي في وقت واحد, لذلك فإن اعطاء الساحل الشمالي المصري نظرة جديدة هو أمر يرتبط بالاستثمار السياحي الذي تحققت فيه طفرة واضحة في السنوات الاخيرة, كما أن مانسعي اليه هو أيضا محاولة لتوظيف ماأطلق عليه مؤرخ الجغرافيا الراحل جمال حمدان ـ عبقرية المكان ـ لأن موقع مصر ليس حاكما من الناحية الاستراتيجية وحدها ولكنه موقع متميز باعتباره يمثل ملتقي بين القارات ونقطة التقاء بين الثقافات لذلك سعت اليه الهجرات البشرية من الشرق والجنوب والغرب وتفاعلت بشكل متجانس خرجت منه الشخصية المصرية المعاصرة وعلي الجانب الآخر التكوين الطبيعي للخريطة المصرية سخيا بغير حدود نهر يجدد الحياة ويشق طريقه في قلب واديه ودلتاه, وسواحل ممتدة يفتح أحدها بوابة التلاحم مع آسيا والعرب ويفتح الثاني بوابة التواصل مع أوروبا والغرب لذلك كله فإن سحر مصر كان ولايزال وسوف يبقي منحة إلهية لاتزول ومركز جاذبية يصعب مقاومتها, ومازلت أتذكر حماس الاجانب خصوصا المثقفين منهم لزيارة مصر والسياحة فوق ارضها وفي ذهنهم دائما نيلها الخالد وأهرامها الش
امخة ومعابدها الباقية وأيضا مناظرها الساحرة وشواطئها الرائعة بل وصحرائها الفاتنة, فلابد اذا والامر كذلك من تعظيم الافادة من كل هذه المعطيات الخالدة, فمصر التي تجذب الاجانب ليست هي مصر القديمة وحدها ولكن مصر الحديثة ومشروعاتها العمرانية ومنشآتها السياحية هي عنصر مكمل من عناصر ذلك الجذب البشري فالسياحة ثقافة ومعرفة وصناعة وترفيه في ذات الوقت.
وسوف نظل نتطلع الي يوم تتزاحم فيه الطائرات القادمة بآلاف السياح الذين يقصدون مصايف مصر ومنتجعاتها الشتوية علي امتداد سواحلها الشرقية والشمالية ايضا طوال السنة بغير انقطاع ويومها سوف يكون الساحل الشمالي قد حقق واحدا من احلامنا وفقا لتصور مختلف.
|