عندما ترتفع درجة الحرارة وتشتد رطوبة الجو ويتجه الناس الي السواحل تحلو ثرثرة الصيف وأحاديث المساء, ولقد فرضت علي ظروف صحية عارضة البقاء في إحدي قري الساحل الشمالي وسط رفاق العمر وزملاء المهنة من الدبلوماسيين المصريين وأسرهم مع خليط آخر من الشخصيات العامة وبعض المسئولين ورجال الأعمال, وقد تركزت الأحاديث في معظمها حول الهموم الوطنية والمشكلات الإقليمية والاحتمالات المتوقعة مع خريف قادم بعد صيف ساخن, وقد خرجت من ذلك كله بحصيلة من الخواطر الذاتية أجملها في ثلاثة:ـ
الأحكام القضائية والمواءمة السياسية
القضاء المصري قلعة شامخة وحصن حصين له تاريخ عريق وحاضر مشهود, اتسم دائما بالمحافظة علي التقاليد الأصيلة, ورعاية الحقوق العادلة, ورفض الضغوط الخارجية, ولقد سمعت مرة من وزير العدل الحالي قصة عن وزير سابق للعدل في العهد الملكي ذهب يترافع في إحدي القضايا ـ بعد أن ترك منصبه الوزاري ـ وعندما رآه القضاة وكانوا من تلاميذة أعطوا القضية التي جاء يترافع فيها أسبقية في الدور علي غيرها مجاملة له وتوقيرا لشخصه, وبعد انتهاء مرافعته وعودته إلي العاصمة اتصل بزميله وزير العدل المسئول في ذلك الوقت مقترحا نقل القضاة من موقعهم عقابا لهم علي مجاملته حتي ولو كانت شكلية وعلي محاباته حتي ولو كانت دوافعها أخلاقية لاتمس العدالة!..... ويذكر تاريخ القضاء المصري أيضا أن رئيس محكمة النقض استدعي يوما أحد القضاة وأبدي له ملاحظة بسيطة تتصل بمناسبة اجتماعية حضرها فلم يبرر القاضي لرئيس الهيئة القضائية موقفه واكتفي بالصمت ثم خرج من عنده وترك استقالته لدي مدير مكتبه في الحال! فالقضاء المصري صرح شامخ عرفته المنطقة كلها واستعانت به معظم الدول العربية والإسلامية لسنوات طويلة ولحسن حظنا فإن الرئيس الحالي لمصر يعرف للقضاء قدرا غير مسبوق ويضعه في مكانة رفيعة لانه في سنوات صباه الباكرة كان يرتاد مجالس شيخ قضاة مصر عبد العزيز باشا فهمي ابن بلدته والذي يمت له بصلة قرابة فاستقر في يقينه توقير شديد للقضاء واحترام لرجاله بغير حدود, ويبقي السؤال المطروح دائما في مصروفي غيرها من الدول وهو المتصل بفلسفة الأحكام القضائية وهل من الضروري أن تراعي تلك الأحكام أحيانا بعض الاعتبارات السياسية العامة المتصلة بالمصلحة الوطنية العليا سواء كانت دولية أو محلية أو حتي إنسانية؟ والرد الطبيعي هنا هو أن القاضي يحكم بضميره منعزلا تماما عن كافة الظروف والاعتبارات فهو يتخذ قراره وفقا لصحيح الأوراق ولايتأثر بالرأي العام وهو عاطفي غالبا أو بالضغوط السياسية وهي مؤقتة دائما, وكثيرا ماتأتي أحكام القضاء غير مواتية لظروف سياسية معينة وهنا لايجب الخوض في التأويل والتعليق لأن أحكام القضاء هي انعكاس لمصداقيته ونزاهته بل وشرفه وعفته, ولقد لاحظت مؤخرا ان بعض الأحكام القضائية النزيهة جاءت علي غير هوي بعض التيارات السياسية العامة أو المواقف الدولية الراهنة ويبقي الأمر منوطا بالجانب الأخلاقي والقيمي للقضاء المصري الذي لايقبل تعليقا عليه أو مساسا به أو تدخلا خارجيا في شئونه, وهذه ليست مسألة مصرية ولكنها ظـاهرة عامة تتصل بالقضاء في كل مكان إذ كثيرا مايجزع الناس من بعض الأحكام القضائية ويصفونها بالتوغل في القسوة أو المبالغة في الرحمة, وكلاهما قد لايستند إلي أساس صحيح فنحن لانعيش القضية بكل أبعادها ولانطلع علي كافة أوراقها ولاندرك مختلف ظروفها, وقد يقول قائل إن القضاة في النهاية بشر ينفعلون بما يسمعون ويمثلون شريحة من الرأي العام وهذا صحيح كما أن العصمة للأنبياء وحدهم ولكن تبقي الحكمة للبشر بعد ذلك, ومازلت أذكر عندما كنت نائبا للقنصل في لندن منذ أكثر من ثلاثين عاما أن اتهم البوليس البريطاني شابا مصريا جاء إلي بريطانيا زائرا بالسرقة من أحد المحلات الكبري في شارع أوكسفورد الشهير, وكان ذلك الاتهام شائعا في مطلع السبعينيات, إذ دأبت السلطات البريطانية علي توجيهه لأعداد كبيرة من الأجانب والأجنبيات,وقد أوفدني القنصل العام وقتها لحضور جلسة محاكمة الشاب المصري المتهم وكانت المحكمة تصر علي اعتراف المتهمين الأجانب بأنهم مذنبون شرطا لإطلاق سراحهم حتي يعودوا إلي بلادهم ويتحاشوا عقوبة السجن رغم جهل معظم المتهمين ببعض الأجراءات الجديدة لأنظمة الدفع بين أقسام المحلات بينما الكاميرات المثبتة في كل مكان تتولي مهمة متابعتهم, وكانت الغرامة المعتادة هي خمسين جنيها إسترلينيا وكان ذلك مبلغا كبيرا بمقاييس ذلك الزمان, وفور أن أصدر القاضي حكمة بتلك الغرامة لم يتوقف عند هذا الحد ولكنه بدأ في إلقاء بيان لاداعي له بعد النطق بالحكم لأنه يخرج برجل القضاء من مرحلة تطبيق القانون إلي ساحة إبداء الرأي فقد قال القاضي يومها موجها حديثه إلي الشاب المتهم عندما تعود إلي بلدك قل للمصريين والمصريات الذين يأتون الي هذا البلد أن السرقة من المحلات العامة أمر تجرمة القوانين البريطانية!! وعندئد طلبت السماح لي بالحديث فورا ممثلا لقنصلية مصر العامة في لندن معتبرا أن القاضي قد تجاوز حدوده ووجه سبا مباشرا يمس كرامة بلدي وشرفها, وعندما سمح لي بالكلام قلت له ياسيدي, القاضي.. إنك قد أصدرت الحكم وليس من حقنا التعقيب عليه ولكن ليس من حقك أيضا أن تقول ماذكرته عن مواطني دولة هي من أعرق دول الأرض وأقدمها حضارة, وهنا لاحظت حالة الارتباك التي حدثت في المحكمة فإذا القاضي يوجه اعتذارا شجاعا من المنصة ويعلن سحبه لكل ماقاله مبررا مافعله بأن هذه العبارات إنما يكررها كنوع من التحذير للأجانب من الدول المختلفة الذين يتعرضون لمثل هذه التهمه, وخلاصة ماأريد قوله من ذلك هو أن منطوق القضاء مقدس أمام الملاحظات التي تليه أو التعليقات التي تتبعه فهي آراء قد تفتح بابا للجدل غير المطلوب أو المناقشة التي لا تليق بمن يعتلون المنصة العالية وينطقون باسم العدالة الدائمة.
العمل الحزبي في مصر
بدأ الحزب الوطني بنفسه وقام بعملية مراجعة شاملة لتنظيماته وكوادره وهو أمر كان لابد منه لأن الحياة الحزبية في مصر عموما تحتاج إلي تجديد للدماء والدفع بعناصر فاعلة تحميها من الترهل, فالعمل العام رسالة وليست وظيفة, كما أننا يجب أن نعترف أن لدينا نقصا في الكوادر السياسية نتيجة توقف معظم الأحزاب عن عملية التربية الحزبية وهو أمر ضروري لأن الأحزاب في الأصل هي مدارس لتربية الكوادر, وأنا ممن يظنون ـ وليس كل الظن أثما ـ أن الحياة الحزبية في مصر لم تكن علي امتداد القرن الماضي كله ذات تأثير كبير بأستثناء حزب الوفد في الفترة مابين الثورتين(1919 ـ1952) لأنه كان يمثل في تلك المرحلة الثوب الفضفاض للحركة الوطنية والوعاء الكبير للتيار المصري العام, فالمواطن المصري عموما يبدو شديد الميل إلي دعم السلطة المركزية والتعلق بحزب الحكومة لأنه ورث عن إجداده مفهوم مسايرة الحكم والتعايش مهما تكن طبيعتها إنه جزء من تراث الفلاح الفصيح منذ زمان سحيق! ولو أجرينا المعايير العلمية الدقيقة لمفهوم الحزب السياسي كما يراه أساتذة القانون الدستوري الكبار وفي مقدمتهم الفرنسي موريس ديفرجية فسوف نجد أن الأحزاب في الدول النامية مازالت دون تطلعات شعوبها فهي في أغلبها أحزاب أشخاص وليست أحزاب برامج, فضلا عن أنها لاتمثل قواعد شعبية محددة بل تتشابه أفكارها ولاتخرج عن أطر تقليدية مكررة, بينما الحزب السياسي تعبير عن مجموعة من الأفراد يشتركون في رؤية واحد تقوم علي تقييم مشترك للماضي وفهم واضح للحاضر وتصور كامل للمستقبل وهم يتطلعون بالضرورة لحيازة الحكم لأن العمل الحزبي الحقيقي يقوم علي مبدأ تداول السلطة ودوران النخبة وتجديد الدماء بل وتغيير الوجوه أحيانا والدفع بالمبادرات والأفكار علي الساحة السياسية لأن ذلك من شأنه أن يعطي الحيوية للنظام السياسي وأن يدفع به دائما إلي الأمام ويحول دون شيخوخته كما يعطيه مصداقية تشد إليه العناصر القادرة وتجذب نحوه القيادات الواعية.
المجتمع المدني وحقوق الإنسان
عرفت مصر الجمعيات الأهلية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما قامت جمعية التوفيق القبطية والجمعية الخيرية الاسلامية وغيرهما من الجمعيات العاملة في حقل العمل الإنساني والنشاط الخيري والجهد التطوعي, وهي التي رصعت بجهودها المعروفة وأنشطتها المؤثرة سماء الوطن في عصر زاهر كانت فيه الوحدة الوطنية تراثانحافظ عليه وكانت العلاقات الإنسانية قيمة عالية نتمسك بها فعندما أعفي خديوي مصرالشيخ البشري من منصب شيخ جامع الأزهر كان من أول من هرعوا إلي الامام الأكبر مؤيدين له ومعترضين علي قرار الإعفاء بطرس باشا غالي رئيس جمعية التوفيق القبطية وهكذا كان العمل الخيري جزءا لايتجزأ من روح الوطن وشخصيته التاريخية, لذلك فإنه تستفزني كثيرا تلك الانتقادات التي توجه الي المجتمع المدني المصري وحقوق الإنسان لأنني أعتقد أن بيدنا وبقرارات سهلة ورؤية عصرية أن نرد علي هذه الانتقادات وأن نعفي مصر من تلك الاتهامات فنحن بلد يملك كل مقومات المجتمع المدني القومي...وفرة في العقول وطاقات بشرية متميزة وتراث اجتماعي راسخ وتقاليد إنسانية ثابتة.. ومع ذلك لم نتمكن من توظيف هذه المقومات لتحقيق الصورة المطلوبة عن المجتمع المدني المعاصر من الناحيتين التشريعية والاجتماعية لأسباب ليس هنا مجال الخوض فيها, ولكن الأمر المؤكد هو أن مسألة حقوق الأنسان في مصر ليست بالسوء الذي تصوره بها الدعايات الأجنبية أحيانا, ولقد ترأست لفترة قصيرة في الشهور الأخيرة من عملي في وزارة الخارجية المصرية لجنة متخصصة للرد علي الاتهامات الموجهة إلي مصر فيما يختص بحقوق الإنسان والوحدة الوطنية وغيرها من الافتراءات التي تظهر كموجات متتالية في الإعلام الغربي من حين لآخر, واكتشفت كذب معظم تلك الادعاءات وضعف الحجج ووهن المنطلقات التي تخرج عنها إذ لاتعدو أن تكون توظيفا سياسيا واستغلالا لظروف دولية معينة, لذلك فإنني أتطلع مع غيري ـ من المصريين والمصريات ـ الي يوم تتحول فيه وزارة الشئون الاجتماعية إلي وزارة للمجتمع المدني وحقوق الإنسان علي اعتبار أن قطاع التأمينات أقرب إلي المجموعة الاقتصادية منه إلي الشئون الاجتماعية, وأنا لا أتصور شخصيا أن تنشأ في بعض دول المغرب العربي وزارات لحقوق الأنسان أو حتي لجان قومية للرد علي الادعاءات الخارجية والداخلية بينما مصر وهي صاحبة مجتمع مدني قديم لاتمضي في هذا الطريق وتظل تتعرض لحملات ظالمة وافتراءات كاذبة دون أن تكون لديها آلية جاهزة للرد عند اللزوم, وللإيضاح عندما يقتضي الأمر.
.... تلك بعض خواطر الصيف الساخن وعندما يخلو الذهن من شواغله وتتقلص ضغوط العمل, ويصفو العقل للتفكير والتأمل في مساحة أوسع من الحرية المطلوبة, والموضوعية اللازمة والرؤية الشاملة....
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/8/27/WRIT1.HTM