لم تشهد الفوارق الثقافية والاختلافات الحضارية مثل تلك الأهمية التي تشهدها الآن حتي أن العامل الثقافي أصبح بعدا أساسيا في العلاقات الدولية المعاصرة ولذلك أسبابه التي تبدأ من العولمة ولا تنتهي بصراع الحضارات! فقد يكون هذان عاملينن رئيسيين في هذا الشأن ولكن التطورات الدولية بعد الحادي عشر من سبتمبر2001 تضيف هي الأخري بعدا جديدا لأهمية هذا العامل حيث جرت محاولات لإلصاق ثقافة معينة بالظاهرة الإرهابية وهو أمر يضيف هو الآخر أهمية للعامل الثقافي في العلاقات الدولية فلقد اكتشفنا أخيرا أنه لاتوجد فقط أزمة ثقة معنا ولكن أيضا أزمة معرفة تجاهنا, وذلك يدعونا إلي تفصيل ما أجملناه بالحديث عن العناصر التي دفعت بالبعد الثقافي لكي يكون عاملا رئيسيا في تحديد السياسات العالمية وتشكيل العلاقات الدولية.
أولا: إن العولمة بأجنحتها الثلاثة السياسية والاقتصادية والثقافية تمثل في النهاية أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلي تزايد قيمة العامل الثقافي في العلاقات الدولية, فإذا كان الجناح السياسي لها يتعرض لمبدأ سيادة الدولة ويسمح لدولة عظمي أو مجموعة من الدول تحت مظلة الأمم المتحدة وبقرار من مجلس الأمن فيها بل وأيضا بقرار من حلف دولي تقوده الدولة الأعظم أن تتدخل في الشئون الداخلية لدول أخري بدعوي حماية حقوق الإنسان أو الدفاع عن الديمقراطية أو رعاية الأقليات أو حتي الاهتمام بالبيئة, وهذا الجناح بالذات يعبر عما يمكن تسميته بالحق الذي يراد به باطل فالشعارات براقة والأهداف معلنة ولكن الغايات الحقيقية الخبيثة قد تستتر وراء ذلك, أما الجناح الاقتصادي لها فهو الذي يدعو إلي انسياب حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات والأفكار ولكنه يقف دون حرية انتقال الافراد وهذا الجناح بالذات يؤكد أن هناك ما يمكن تسميته بالعولمة التفصيل التي اختار منها منظموها ما يتوافق مع مصالحهم واستبعدوا منها ما لا يروق لهم, أما الجناح الثقافي وهو الذي يعنينا بالدرجة الأولي في هذا المقام فهو الذي يتصل بمسألة الهوية ويستهدف الخصوصية القومية والسعي ل
إذابتها بالحديث عن المواطن العالمي الذي ينتمي إلي الكيان الدولي الأكبر بغض النظر عن انتمائه لكيانات أصغر, أليس هو عالم اليوم الذي أصبح يسمح للمواطن العادي في دولة معينة بأن يرفع دعوي في المحاكم الدولية ضد حكومته معتمدا علي المفهوم المعاصر لحقوق الإنسان والحريات العامة؟! من هنا فإن العولمة بجناحها الثقافي هي تعبير واضح عن أحد الأسباب الرئيسية لتزايد أهمية العامل الثقافي في العلاقات الدولية.
ثانيا: إن من أغرب المفارقات أن الفكر الغربي المعاصر الذي صدر لنا فلسفة العولمة القائمة علي سقوط الحواجز واختفاء الحدود ووحدة المجتمع البشري في قرية كونية واحدة هو نفسه أيضا الغرب الذي صدر لنا نظرية صراع الحضارات بكل ما تحمله من رؤية تكاد تتناقض مع العولمة وتصطدم بالفكر السياسي الذي قامت عليه, إذ أن نظرية صراع الحضارات التي اقترن ظهورها بنهاية فترة الحرب الباردة واختفاء الخطر الشيوعي بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق قد حاولت أن تصطنع أطرافا جديدة للصراع الدولي القادم فكان تصنيف الحضارات مبررا لإبراز أسباب الاختلاف وإظهار عوامل التفرقة بين الثقافات المختلفة ولا شك أن نظرية صراع الحضارات قد حظيت باهتمام أكبر مما تستحق وأصبح الكل يتحدث فيها سواء من قرأ كتاب صامويل هنتنجتون أو من لم يقرأه حتي أن الأمر تحول في النهاية إلي مجموعة من التصورات الانطباعية وليست المعلومات المحددة, كما أن مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ تبدو هي الأخري أقرب إلي الوهم منها إلي الحقيقة فهي لا تحمل تبشيرا بالمستقبل بقدر ما تحمل من استياء تجاه الماضي يدفعها إلي محاكمة الحاضر, إن الأمر الذي يدعو إلي الدهشة أن الجدل الذي أحاط بنظرية صراع
الحضارات لم يعتمد في الأساس علي فكر العولمة الذي يتناقض تماما معها وقد يقول قائل إن العولمة تبحث في علاقات دول بينما نظرية هنتنجتون تتحدث عن صراع بين الحضارات وهنا يبدو الأمر مثيرا للدهشة فالدول في النهاية هي كيان وهوية ولا يمكن الفصل بين الهيكل السياسي لها والإطار الحضاري المحيط بها.
ثالثا: لقد سئمنا الإشارة إلي الحادي عشر من سبتمبر2001 ولكننا مضطرون إلي ذلك فإن آثار ذلك اليوم تتزايد مع مرور الوقت ولا تتضاءل كلما ابتعدنا عنها فلقد فتح ذلك الحدث الضخم وتداعياته ملف الإرهاب الدولي والحملة التي مازالت تقودها الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء عليه, وقد تواكب ذلك مع حملة أخري ضد الإسلام تلقي عليه مسئولية ما جري وتدخل بنا في دروب جديدة كنا نتصور أننا قد خرجنا منها منذ العصور الوسطي, إذ أن تلوين الثقافات واتهام الحضارات هي أمور لم تكن في الحسبان, فالتعميم يتنافي مع روح العصر, والتصنيف لا يتماشي مع طبيعة الأمور, ولقد اكتشفنا فجأة أن الذين كانوا يبشرون بالعولمة ويطلقون البخور للعالم الجديد هم أنفسهم الذين بدأوا الحملات القائمة علي التعميم والمحاولات المستندة إلي التصنيف, نعم.. إن هناك إرهابيين ينتمون إلي الإسلام كما ان هناك إرهابيين أيضا ينتمون إلي اليهودية والمسيحية والهندوكية والبوذية وغيرها من ديانات السماء والأرض ثم كانت النتيجة هي أن العلاقات الدولية تأثرت بهذه المفاهيم بشكل واضح ولم يعد ممكنا تجاهل أزمة الثقة المفقودة وظهرت في الأفق سحب وتجمعت في السماء غيوم نخشي أن يتحول م
طرها إلي سيول تجرف أمامها روح التسامح البشري ومفهوم التعايش الإنساني.
.. إن مصر وهي دولة عريقة تحمل علي كاهلها حضارات متعاقبة وثقافات متراكمة هي أبرز نموزج لدور العامل الثقافي في العلاقات الدولية المعاصرة إذ إنها تعبر عن حضارة قبل أن تكون دولة, وإذا ذكرت كلمة مصر فإنها تستدعي بالضرورة ذلك التاريخ المجيد والهوية المتميزة بتعدديتها المعروفة وأبعادها المختلفة, ولقد أتاحت لي فرصة عملي الدبلوماسي في الخارج لسنوات طويلة أن أكتشف أن مكانة مصر أكبر مما يراها المصريون وأن حجمها السياسي ووزنها الدولي يجسدان إلي حد كبير أهمية العامل الثقافي في سياستها الخارجية, فالعروبة والإسلام والإفريقية والبحر متوسطية والشرق أوسطية كلها روافد ثقافية ولكن لها ترجمة سياسية في ذات الوقت بصورة تضع مصر في مكانها اللائق وأمام دورها المطلوب, إننا نعترف أن العولمة في جانب وصراع الحضارات في جانب آخر قد دعما وجود العامل الثقافي في العلاقات الدولية كل من زاويته, كما أن الحادي عشر من سبتمبر2001 قد جاء ليضع الأمر برمته أمام اختبار جديد مازالت تداعياته تتوالي كما أن نتائجه لم تتضح بعد, ذلك أن ما جري أعمق مما نري, فالرواية لم تتم فصولا كما أن كل الاحتمالات قائمة في ظل حرب مفتوحة ضاعت فيها الحقوق وغا
بت الرؤي وتزايدت أسباب التوتر وعوامل القلق, ولعله من الموضوعية أن نقرر هنا أن دور العامل الثقافي في العلاقات الدولية لم يبدأ بالحادي عشر من سبتمبر ولكنه سابق علي ذلك كله بعقود طويلة, فلقد اكتشف المجتمع الدولي مبكرا أن العامل الثقافي مثل العامل الاقتصادي كلاهما له أهميته في علاقات الدول والمنظمات العالمية, فظهرت منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونيسكو والتي اتخذت من باريس عاصمة الثقافة الأوروبية مقرا لها, حيث توافد علي منصب أمينها العام ممثلون للحضارات المختلفة حتي وصل إلي منصب الأمين العام الحالي ياباني كان سابقه إسباني وسابقهما إفريقي مسلم, بحيث تبرز شخصية المنظمة ذات الخصوصية معني الانتساب الكامل لحضارات العالم بغير استثناء, ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت منها كما انسحبت من غيرها من المنظمات ذات الدور المتعددة الأطراف والمتصل بالدول النامية مثل منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية اليونيدو, إلا أن ذلك لم يقلل من فاعلية المنظمة ودورها المهم والبارز لأنها معنية بحفظ التراث وحمايةالآثار والتعريف بالثقافات والتواصل بين الحضارات ولم يقف الأمر عند التنظيم الثقافي العالمي وحده بل جاوزه إلي التنظيم الثقافي الإقليمي أيضا, فظهرت علي المستوي العربي منظمةمثلية اتخذت من تونســ عاصمة الزيتون ـ مقرا لها تمارس, منها دورها في دعم الثقافة العربية وترسيخ وجودها الدولي, ولعل من واجب الأمانةأن نؤكد هنا أن النموذج الفرنسي هو أوضح مثال في التاريخ المعاصر لإعطاء الثقافة وزنها الطبيعي ودورها الطليعي في علاقات الدولة بالعالم, فالمكاتب الثقافية الفرنسية تغطي كل القارات ومعظم العواصم, إيمانا من فرنسا بدور الثقافة وتعظيمها لتأثيرها في العلاقات بين الأمم والشعوب, ولن ننسي أن فرنسا هي أول دولة تعلن عن استئناف مدرسة الليسيه لنشاطها الدراسي واستعادة برنامجها التعليمي فور سقوط حركة طالبان بعد العملية العسكرية الأمريكية علي أرض أفغانستان بعد الحادي عشر من سبتمبر2001, ولماذا نذهب بعيدا إن حملة نابليون علي مصر برغم مظهرها العسكري وهدفها التوسعي إلا أنها كانت رسالة ثقافية بالدرجة الأولي حتي إن البعض يوقت بها لميلاد عصر النهضة المصرية وانطلاق الدولة الحديثة التي شيد دعائمها محمد علي بعد ذلك بسنوات, بل إن حل لغز الحضارة الفرعونية القديمة واكتشاف أبعادها الرائعة إنما تحقق بفعل ثقافي وافد علي يد
شامبليون الفرنسي الذي تمكن من فك طلاسم حجر رشيد في الربع الأول من القرن التاسع عشر, فالعامل الثقافي لعب دوره التاريخي في العلاقات بين الدول المختلفة فالحضارة العربية الإسلامية ربطت بين الفتوح الإسلامية والثقافة العربية علي نحو تحقق في أرجاء العالم العربي وإن وقف علي حدود فارس شرقا و الأناضول شمالا و منابع النيل جنوبا و الأطلسي غربا, ولعل عودة تزايد دور العامل الثقافي في السنوات الأخيرة رغم تسليمنا بارتباطها السياسي بأفكار العولمة ومفهوم صراع الحضارات ونتائج الحادي عشر من سبتمبرــ إلا أنها سوف تظل مرتبطة بشخصية كل دولة وأعماقها التاريخية وأبعادها الثقافية, فلو عدنا إلي النموذج المصري لوجدنا أن مكونات هويته مستمدة من المصادر الثقافية بالدرجة الأولي بحيث تركت كل حقبة من احقاب تاريخه الطويل بصمة انعكست علي توجه سياسي معين, كما أن مصر أحد النماذج التي يؤثر فيها التراث الحضاري والشخصية الثقافية علي سياستها الدولية والإقليمية وصورتها أمام الآخر.. إن دور العامل الثقافي في العلاقات الدولية في تزايد مستمر وتأثير متصاعد هيأت له ذلك أسباب مضت, ودفعت به عوامل ظهرت, وساعدت عليه ظروف استجدت.
|