كتبت مقالا منذ عدة أسابيع تحت عنوان ماجري أكبر مما نري مشيرا الي ان تداعيات مابعد الحادي عشر من سبتمبر2001 قد أدت الي ترتيبات خطيرة ذات تأثير مباشر علي الخريطة السياسية والمناخ الإقليمي في الشرق الأوسط, ومنذ ذلك الوقت وانا ازداد يقينا بأن هناك دراسات تجري وتحليلات تتم وأفكارا تتوالي من أجل تشكيل رؤية جديدة لهذه المنطقة المهمة من العالم, ولعلي لا أضيف جديدا عندما أقرر ان هناك من يرتب لنا ويخطط لمنطقتنا ويرسم صورة المستقبل القريب والبعيد أمامنا, بينما نقف نحن موقف المراقب الذي يكتفي بردود الفعل وتكرار الحديث عن المؤامرة الكبري, وانني أظن ـ وليس كل ظن إثما ـ أن دوائر صنع القرار الغربي عموما والأمريكي خصوصا وبتنسيق مع الدولة العبرية تعكف علي وضع تصورات مختلفة للشرق الأوسط في ظل سيناريوهات متعددة اخذا في الاعتبار الملفات الثلاثة المطروحة علي الساحة.
وهي الحرب ضد الإرهاب, ومسألة العراق, ثم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني, ولعلنا لانختلف في أن واشنطن توظف العلاقة بين الملفات الثلاثة لخدمة حساباتها العلوية ومصالحها الدولية والإقليمية, وهي مستعدة في كل المراحل ان تقوم بعمليات مقايضة بين هذه الملفات وتحريك أحدها خدمة للآخر وان كانت أولوياتها تمضي من حيث الأهمية وفقا للترتيب الذي ذكرناه.
.. ان كل الشواهد توحي بأن الرؤية الأمريكية للمنطقة قد اكتملت ولكن الخطة طويلة المدي تحتاج الي عدد من السنوات وان كان العمل بها قد بدأ يدخل مرحلة التنفيذ, ولقد كنت اعتقد ولفترة قريبة ان الولايات المتحدة الأمريكية بخلاف بريطانيا وفرنسا لاتملك الرؤية السليمة لفهم المزاج العام للشرق الأوسط وشمال افريقيا, لأنها مهما قيل حديثة العهد بالمنطقة ولم تنفتح شهيتها لها إلا سعيا وراء النفط أو وراثة للوجود البريطاني الفرنسي فيها, وهو ماأعلنته واشنطن صراحة في منتصف الخمسينيات عندما بدأت تتحدث عن نظرية الفراغ بعد رحيل القوات البريطانية والفرنسية, عندما ظهر مبدأ ايزنهاور الذي يعبر عن محاولة امريكية لربط المنطقة بسياساتها والرغبة في ادخالها ضمن دائرة الأحلاف الموالية, ويهمني هنا أن أسجل ثلاث ملاحظات مبدئية:
الأولي: ان الولايات المتحدة الأمريكية لم تتفاعل مع الشرق الأوسط بأسلوب نظرية الاقتراب من الظاهرة, كما درسناها في العلوم السلوكية, كذلك فانها اكتفت دائما بالرصد البعيد للمنطقة مع استقبال تدفق مستمر للمعلومات منها, بينما كان الأسلوب البريطاني مختلفا حيث قام علي الاهتمام بظاهرة الرأي العام واحتواء الأنظمة والتعايش مع الجماعات وتفهم العقلية السائدة, بحيث تصبح القرارات في النهاية مرتبطة بالواقع متفهمة للروح الوطنية في كل قطر من الشرق الأوسط.
الثانية: ان الأمريكيين لم يعرفوا عبر تاريخهم الطويل ظاهرة الاستشراق ولم يتذوقوا بعمق ثقافات المنطقة واكتفوا بالدراسات المستحدثة والتحليلات الجزئية للسياسات والمواقف, بينما يلعب الجانب الثقافي ـ حاليا وربما اكثر من أي وقت مضي ـ دورا مهما في وضع الشعوب داخل اطارها الصحيح أمام القوي الكبري, فالفرنسيون علي سبيل المثال حكموا الشعوب التي احتلوا ارضها من خلال سياسة الاستيعاب أو الاندماج الثقافي حتي أنهم عندما رحلوا عن تلك الدول تركوا وراءهم رابطة ثقافية لاتنتهي, ولكن الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية يبدو مختلفا فهي تري ان القوة عامل حاسم يعفيها من المجاملات أو المواءمات ويجعلها قادرة دائما علي تنفيذ قراراتها بغض النظر عن ردود الفعل, ولعل ذلك احد الأسباب الرئيسية في انخفاض شعبية سياساتها الخارجية في بعض المناطق خلال العقود الأخيرة.
الثالثة: ان الذي يدعو للقلق هو ان الرؤية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط تجري صياغتها في ظروف استثنائية محكومة بعقدة الإرهاب الدولي, لذلك فهي لاتفكر بكامل لياقتها السياسية أو وفقا لتوجهاتها التقليدية, وهو امر سوف ينعكس بالضرورة علي المنطقة, كما ان العقل الأمريكي مشغول بفكرة الثأر خصوصا عندما يكتشف يوما بعد الآخر ان تنظيم القاعدة اكبر مما كان يتصور, وان الارهاب في حالة كمون أشبه بالبيات الشتوي, ولكنه قد لايلبث طويلا حتي يعاود نشاطه في ظل ظروف محمومة واحتقان دولي لايخفي علي أحد.
.. لقد اردت من هذه الملاحظات الثلاث ان أؤكد ان الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ليست هي تماما التي كنا نعرفها من قبل, كما ان شواغل اهتمامها قد تعددت, كذلك فان مصالحها تشابكت, وهنا يقتضينا الأمر ان نبحث في الخطوط العريضة التي نتصور انها موضع اهتمام امريكي في السنوات المقبلة ويمكن ان نجملها في محاور خمسة هي:
أولا: محور سياسي يقوم علي إدانة صامتة لمعظم النظم السياسية في المنطقة العربية وهو يحملها مسئولية ماوصل اليه الإرهاب في السنوات الأخيرة, ولابد ان اعترف بأن الحيرة تتملكني كثيرا عندما احاول الاجابة علي سؤال مؤداه هل واشنطن جادة حقا في السعي نحو توسيع دائرة المشاركة السياسية وتأصيل الديمقراطية في النظم العربية المعاصرة؟
انني احسب ان المسافة بين الشعوب وواشنطن اكبر من المسافة بين الحكام والسياسات الأمريكية, كما ان امريكا قد دعمت من قبل انظمة غير ديمقراطية مادامت مصالحها مرعية وسياساتها نافذة, لذلك فإن الحديث عن إصلاح نظم الحكم في بعض الدول العربية قد يكون حقا يراد به باطل, كما أنه قد يأتي علي حساب الديمقراطية ذاتها خصوصا أن الانتخابات الحرة سوف تأتي في المرحلة الحالية بعناصر قد لاتكون مواتية لتصورات واشنطن حيال المنطقة, لذلك فانني أزعم أن الجانب السياسي من الرؤية الأمريكية للمنطقة محكوم بالمصالح العليا لـ واشنطن وليس بسلامة النظم المطلوبة أو استقرار الدول المعنية.
ثانيا: وهذا المحور يقوم علي العامل الثقافي, فالمطلوب هو شرق اوسط مختلف يقوم علي قيم بديلة وأفكار جديدة فالولايات المتحدة الأمريكية ليست سعيدة باللغة الفكرية السائدة واللهجة الإعلامية المتداولة, لذلك فإن المناخ العام في المنطقة أصبح امرا يعني واشنطن لان مصالحها مرتبطة بنوعية الثقافة المسيطرة في وقت يتزايد فيه الحديث عن العلاقة بين القوميات والصدام بين الحضارات, كما أن الجميع يدرك الآن أن الرأي العام ظاهرة تعتمد علي المناخ الثقافي ومكوناته بدءا من خطبة الجمعة, مرورا بعمل مسرحي مشهور, وصولا إلي الخطاب الإعلامي المتداول.
ثالثا: محور يتصل بالتعليم, وهو أخطر المحاور علي الإطلاق في رأيي لأن الذي يتحكم في التعليم والذي يغير في فلسفة العملية التربوية يبدو كمن يتحكم من عند المنبع, وهذه حقيقة لا تغيب عن صانع القرار العصري, لذلك لم يكن غريبا أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بالفعل تتحدث عن المناهج الدراسية وجوهر الرسالة التعليمية, وتري أن فيها مايحض علي كراهية غير المسلمين ورفض الوجود الإسرائيلي وعداء الولايات المتحدة الأمريكية, وهنا تكمن المخاطر الحقيقية إذ أن العبث بالنظم التعليمية يعني التدخل مباشرة في تشكيل العقلية العربية وتقديم مكونات جديدة للشخصية القومية في جميع جوانبها.
رابعا: محور يدرس البدائل المتاحة ويناقش الاحتمالات الممكنة للأدوار المختلفة التي تعني السياسة الأمريكية في المنطقة, وأظن أن المسألة العراقية يمكن ان تكون بندا في هذا المحور لأن الولايات المتحدة الأمريكية تسعي حاليا إلي حلفاء كاملين وليس إلي أصدقاء مؤقتين, كما أن واشنطن ما زالت تحت انطباع يري أنه حتي أكثر الدول العربية حماسا للسياسات الأمريكية وتجاوبا معها لاتفي بالمتطلبات الأمريكية بالكامل ولا تمثل الصورة المثلي للنظم المطلوبة كما تريدها واشنطن خصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر2001, ولا شك في أن القدرة العربية علي تنقية الأجواء وتحسين الصورة لا تصب في خانة تحقيق الأهداف الأمريكية المطلوبة من خلال هذا المحور.
خامسا: وهذا المحور نعني به الموقف الغربي من الإسلام, حيث نلاحظ أن الأغلب الأعم من غير المسلمين ينظرون في الشهور الأخيرة الي تلك الديانة السماوية الكبري بشيء من التحفظ الذي يبلغ درجة القلق أحيانا, وواقع الأمر وحتي نكون موضوعيين بما يكفي فإنني أقرر أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست ضد الجانب الروحي للإسلام فهي قد ترحب بشعوب متدينة وتبارك بناء المساجد وممارسة الشعائر ولكنها تريد إسلاما دينيا خالصا لايعرف السياسة ولا يدعو الي الجهاد ولا يحرض علي مقاومة الاحتلال! وهذا المحور في الرؤية الأمريكية ربما يكون أخطرها علي الإطلاق لأنه يرتبط بالملفات الثلاثة الرئيسية لسياسات واشنطن في الشرق الأوسط, ونحن لانختلف مع غيرنا في احترام وسطية الإسلام كما نعتز بالأصوات الغربية العادلة التي تشيد بروح التسامح فيه والاعتدال في شريعته, ولكننا نقلق كثيرا من بعض التصريحات الغربية غير المسئولة التي تعادي الاسلام, وكذلك بعض الكتابات المناوئة لفهمنا تجاه واحد من الأديان الثلاثة لابناء ابراهيم فضلا عن اننا نعتقد ان محاولة التدخل في صياغة الروح الدينية هي امر شائك وعملية معقدة فضلا عن انها مرفوضة شكلا وموضوعا.
.. هذا هو طرحنا العام لرؤية أمريكية لاتزال في مرحلة المخاض تتوجه بها واشنطن نحو منطقة الشرق الأوسط, ولا يتصور البعض أن إصرار واشنطن علي تغيير عرفات من خلال الانتخابات هو مطلب استثنائي مادامت الدولة الفلسطينية لم تقم بعد, ولكن الامر في ظني يتجاوز ذلك ويتجه نحو إيجاد سابقة تسمح لـواشنطن بالتدخل في تحديد الحكام واختيار قادة الشعوب تحت دعوي الديمقراطية, ثم التدخل في الشأن الداخلي بعد ذلك بدعوي ضرورة الإصلاح! ومع ذلك كله فإنني اعتقد مخلصا ان فرصة الدولة العربية في تحقيق فلسفة التغيير الذاتي وإعادة ترتيب البيت سوف تعفينا جميعا من مشكلات قادمة وتدخلات غير مقبولة, وحسنا فعلت بعض الدول العربية بالسعي نحوالإصلاح الداخلي الذي يجب ان تقوم به بدلا من ان ينوب عنها سواها, فلقد رأت جمهورية اليمن ان تتولي هي مهمة تنقية اراضيها من عناصر مشتبه فيه وفلول تنظيمات متطرفة, كما أن المملكة العربية السعودية بادرت من جانبها بدمج الهيئة المعنية بتعليم البنات لكي تكون جزءا لايتجزأ من وزارة المعارف العمومية مضيا علي طريق التحديث الذي تسعي إليه المنطقة العربية, ولست أعني بذلك ان مهمتنا هي الاستجابة للمطالب المنتظرة, ولكن ما أريد قوله هو ضرورة ان تكون لدينا روح المبادرة ومنطق المبادءة, وتقديم الأفكار الجديدة وطرح الرؤي العصرية, والسعي الجاد نحو تحديث النظم ورفع مستوي معيشة الشعوب ومقاومة الفساد والاتجاه نحو الإصلاح السياسي والدستوري المواكب للإصلاح الاقتصادي.. إنها ملاحظات تلح علي وعلي غيري من المنشغلين بكل مايحدده الآخر لنا وما يريده غيرنا لمستقبلنا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/30/WRIT2.HTM