إذا كنا نسلم بأن تولي الرئيس مبارك سلطة الحكم كان تعبيرا عن وصول جيل أكتوبر إلي موقع القيادة الأولي في البلاد, إلا أننا نعتبره ــ قبل ذلك ــ نتاجا لثورة يوليو1952 من حيث المصدر الأصلي للشرعية والتعبير الصحيح عنها لأن التغيير الجذري في النظام السياسي المصري يرتبط بثورة يوليو التي أنهت الحكم الملكي وأقامت النظام الجمهوري الذي وصل فيه أربعة رؤساء إلي الحكم وهم محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك, ولا أريد أن أطلق علي الرئاسة الحالية تسميةالجمهورية الرابعة تشبها بالديجولية في فرنسا لأننا لم نتعود علي الفواصل السياسية المرتبطة بتوجهات كل مرحلة بسبب التداخل الناجم عن التشابه في إطار الحكم وأدواته,ولكن مايجري حتي الآن لايزال امتدادا لشرعية ذلك الحدث الذي وقع منذ نصف قرن علي الأرض المصرية وكانت له تأثيراته الضخمة في المنطقة العربية وانعكاساته علي حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وهو مايجعل للثورة المصرية مكانة بين ثورات الأمم وتحولات الشعوب, والذي يعنينا الآن ونحن نحتفل بـاليوبيل الذهبي لثورة يوليو هو البحث في مكانها في وجدان وفكر من يتحمل المسئولية الأولي للحكم في مصر الآن, فإذا بدأنا بالجانب المتصل بمشاعر الرئيس مبارك تجاه ثورة1952 فإننا نستذكر شخصية ذلك الضابط الشاب الذي أنهي دراسته في الكلية الحربية ثم التحق بكلية الطيران لكي يصبح ضابطا طيارا في الجيش المصري قبيل الثورة بسنوات قليلة وبذلك فإن خدمته العسكرية في العصر الملكي لاتزيد كثيرا علي عامين فهو ابن للثورة المصرية اقترنت بداية مشواره العملي بها وارتبط تاريخه العسكري والسياسي بمسيرتها منذ قيامها, لقد تبوأ الرئيس المصري الحالي مواقع لافتة منذ بداية حياته العملية وتنقل بين القواعد العسكرية والجوية في مصر وإن ظلت علاقته بالكلية الجوية وثيقة وهي التي عمل فيها معلما وأصبح مديرا لها, وهنا لابد أن نشير إلي حقيقة تاريخية قد لايفطن إليها الكثيرون وهي أن التصعيد الذي واكب مسيرة الطيارحسني مبارك الوظيفية ارتبط في بدايته بالعصر الناصري فهو طيار القاذفات اللامع في حرب اليمن, وهو الضابط المرموق الذي ذكر اسمه المشير عامر القائد العام للقوات المسلحة حينذاك في إحدي خطبه اعتزازا بكفاءته وشجاعته, وهو الطيار القيادي المنضبط الذي أوكلت إليه القيادة المصرية مسئولية إدارة الكلية الجوية عقب النكسة عندما كان هدف تخريج طيارين مصريين ذوي ك
فاءة عالية هو الهاجس المسيطر علي القوات المسلحة بعد أن حطمت إسرائيل معظم عناصر سلاح الجو المصري في حرب يونيو1967.
وفي زيارة للرئيس الراحل عبدالناصر للكلية الجوية نظر إلي مدير الكلية الطيار حسني مبارك وسأله ماذا تفعل هنا؟ إننا نحتاجك إلي ماهو أهم وأرفع.. ويومها رقي حسني مبارك ترقية استثنائية وأصبح رئيسا لأركان حرب القوات الجوية المصرية, وأنا أذكر ذلك لتأكيد ما نعلمه من علاقة طيبة بين مبارك والثورة المصرية الحاكمة قبل رحيل الرئيس جمال عبدالناصر وبعده, من هنا فإنه ليس لمبارك وطر شخصي مع23 يوليو1952, كما أن علاقته بالرئيس الراحل عبدالناصر تبدو ودية خصوصا أنه قد التقي به في اجتماعات عسكرية مصغرة عندما كان عبدالناصر يدير المعارك ويتعامل مع القوات المسلحة مباشرة في حرب الاستنزاف ــ وهي واحدة من أمجد حروبنا وأكثرها بسالة ففيها بطولات رأس العش وشدوان وأسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية في سيناء والعمليات الفدائية عبر القناة وغيرها من أمجاد الجيش المصري ــ ولذلك فإن اختيار عبدالناصر لمبارك هو الذي ألقي الضوء القوي علي شخصية ذلك الطيار المصري الجسور ووضعه علي الطريق الصحيح وفتح أمامه أبواب الصعود إلي ما يستحق في سلم العسكرية المصرية بل والحياة العامة والمسرح السياسي كله, لهذه الأسباب فإنني أري في الرئيس مبارك ابنا بارا من أبناء ثورة يوليو1952 في عهود كل الرؤساء الذين حكموا قبله والتنظيمات التي تعاقبت في فترات حكمهم, ومازلت استذكر من مناسبات كثيرة لموقع سابق لي أن الرئيس مبارك كان يتحدث باعتزاز عن دور العسكرية المصرية في حرب الاستنزاف ويري أنها هي التي مهدت لحرب أكتوبر وفتحت الطريق أمام النصر.. والآن دعنا نستكشف بعض مظاهر وجود ثورة23 يوليو في عقل الرئيس الرابع لمصر ونحاول رصدها في النقاط التالية:
أولا: لم يستسلم مبارك لمنطق تأليب الأحقاب التاريخية المصرية ضد بعضها فلم يقبل يوما أن يكون الحماس لسياسة الرئيس الراحل السادات مرتبطا بحملة عكسية علي حكم الرئيس عبدالناصر أو أن يكون تمجيد عبدالناصر مقترنا بحملة أخري علي السادات بل قام بمصالحة بين عهود حكم ما بعد23 يوليو وأعطي لكل فترة حقها ولكل زعامة قدرها ولكل رئيس وضعه الطبيعي.
ثانيا: لم تقف المصالحة التاريخية التي بشر بها مبارك عند حدود23 يوليو بل تجاوز ذلك لكي يعطي محمد علي الكبير مزاياه ولعرابي مكانته ولمصطفي كامل حقه ولسعد زغلول قيمته ويعيد الاعتبار لمصطفي النحاس أكثر الزعامات الوفدية صلابة وشرفا, لذلك فإن مبارك ليس متعصبا لفترة معينة أو لزعامة بذاتها ولكنه يؤمن بمصر قبل الجميع وفوق الجميع.
ثالثا: إذا كان التكوين الوطني والعسكري لمبارك مرتبطا بالثورة المصرية وقائدهاجمال عبدالناصر فإن رؤيته للمستقبل ترتبط أكثر برجل الدولة أنور السادات وهو في الحالتين ابن بار لثورة مصر عام1952 من منطلق ارتباطه بالزعامتين السابقتين عليه.
رابعا: لقد قام مبارك بعملية توازن واضحة في السياسة الخارجية المصرية بعد أن وقف أسلافه من ثوار يوليو ـــ خصوصا عبدالناصر والسادات ــ مواقف متعارضة عندما وجد عبدالناصر نفسه مضطرا لأن يكون صديقا للاتحاد السوفيتي بينما مضي السادات ليكون حليفا للولايات المتحدة الأمريكية, ومع تسليمنا بأن المرحلة التاريخية التي وصل فيها مبارك إلي الموقع الأول في سلم السلطة المصرية كانت بطبيعتها أقرب إلي رؤية السادات إلا أن مبارك قام بمعادلة صعبة للغاية فكان أقرب إلي عبدالناصر وطنيا وأقرب إلي السادات سياسيا.
خامسا: إن المضمون الاجتماعي لثورة يوليو قد مر هو الآخر بمراحل مختلفة بدءا من نظام إقطاعي شبه رأسمالي مرورا بموجة التمصير والتأميم وصولا إلي مااسماه الرئيس عبدالناصر الاشتراكية العربية حتي سياسة الانفتاح الاقتصادي التي بشر بها السادات في مطلع السبعينيات بكل تداعياتها إلي أن وصلنا إلي مرحلة إعمال قوانين السوق في ظل الاقتصاد الحر الذي تواكب مع تيار عالمي ازدهرت به حرية التجارة في ظل مفهوم العولمة بما له وماعليه.
... من هذه النقاط الموجزة تبدو ثورة يوليو جزءا لايتجزأ من فكرمبارك فهو ابن للجيل الذي بدأ حياته العملية مع بدايتها وعاش انتصاراتها وانتكاساتها وعرف سلبياتها وإيجابياتها وتعلم من اخطائها لذلك تجنب سياسة ردود الفعل السريعة قدر ما استطاع, ولعلي أعرض هنا لثلاث قضايا حاول فيها مبارك أن ينهج نهجا مستقلا, وهذه القضايا ذات طبيعة دولية وإقليمية ومحلية وهي بالترتيب: تطور العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ثم مسألة الدور الإقليمي لمصر بينما تنصرف الثالثة إلي المشكلة السكانية في مصر, ونتناول رؤية مبارك لكل منها بالترتيب فيما يلي:
(1) اتسمت العلاقات المصرية ـ الأمريكية في عهدعبدالناصر بالفتور والتوتر منذ اختلفت الكيمياء البشرية بين الضابط الصاعد جمال عبدالناصر والدبلوماسي الأمريكي التقليدي جون فوستر دالاس وأخذت العلاقة بين البلدين منحي سلبيا حتي بلغت قمة الأزمة بينهما حين تزايد الدعم الأمريكي لإسرائيل بعد نكسة1967, ولكن بعدما رحل عبدالناصر عن عالمنا وتولي السادات المسئولية الأولي في البلاد فإنه رفع شعار أن99% من كروت حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي هي في يد الولايات المتحدة الأمريكية, وقد اقترنت فترة رئاسة السادات برؤساء أمريكيين ثلاثة هم نيكسون وفورد وكارتر, وقد وقع مع الأخير إطارياتفاق كامب ديفيد وكذلك اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في26 مارس1979, وعندما تولي مبارك الحكم فإنه اتبع أسلوبا مختلفا في التعامل مع كل الأطراف وأقام علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث أخذت الشراكة شكلها الطبيعي وجري تركيز واضح علي وضع إطار دائم للعلاقات الثنائية بين البلدين مع هامش محدود من الاختلاف في إطار الصداقة, ويضم هذا الهامش بعض الثوابت الإقليمية في السياسة المصرية والتي تدعو أساسا إلي تحرير التراب الوطني في الأرض العربية.
(2) إن دور مصر الإقليمي ليس منحة من أحد يعطيها لها حين يريد ويسلبها منها متي شاء, ولكن هذا الدور يرتكز علي مقومات تاريخية وجغرافية وعي بها مبارك وتعامل معها بحسابات هادئة, حتي استعاد الوعي الغائب والود المفقود مع معظم الأقطار العربية.
(3) لقد تعامل عبدالناصر والسادات مع المشكلة السكانية بغير جدية كافية, فربما تصور عبدالناصر أن وزن مصر الإقليمي يرتبط بحجمها السكاني وكذلك مضي السادات أيضا علي ذات الطريق, ولكن مبارك أخذ بزمام الأمور في هذه المشكلة بشكل مختلف وكرس جهوده لخدمة قضية التنمية من خلال تعبئة شاملة للموارد الطبيعية والبشرية مع تجديد البنية التحتية والقيام بحركة عمرانية واسعة في إطار خطة زمنية جاء علي قمة التحديات فيها المواجهة العلمية للمشكلة السكانية بأبعادها المختلفة حتي استطاع أن يثبت معدل الزيادة السكانية سنويا وإن كان ذلك لم يؤثر كثيرا في حجم سكان مصر بسبب تناقص معدل الوفيات خصوصا في الأطفال نتيجة لتزايد الرعاية الصحية ونجاح البرامج الوقائية.
.. ولكن يبقي السؤال مطروحا: أين يقع مبارك من ثورة23 يوليو؟ وهنا يأتي السؤال الأهم.. ماذا نعني بثورة23 يوليو تحديدا؟ هل هي تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والإسهام في حركة عدم الانحياز ونصر أكتوبر ومبادرة السلام؟
أم أنها أيضا لجان تصفية الإقطاع ومذبحة القضاء والانفتاح الاستهلاكي العشوائي وتوسيع الهوة بين الطبقات؟... إن ثورة يوليو في ظني يجب أن تدرس من خلال نظرة شاملة لاتقف عند أحد عهودها ولا تناقش فقط أحد رموزها لأنها نصف قرن متكامل بكل ما له وماعليه, ومبارك في النهاية هو نتاج لعهدين سبقاه,أخذ من كل منهما مايتفق مع رؤيته وتحاشي قدر الإمكان السقوط في أخطائهما, ووضع مصلحة شعبه هدفا, وضغط علي الفرامل في نفس الوقت حتي يتجنب أي قرارات انفعالية قد تؤدي إلي نتائج وخيمة نتيجة توريط مصر في مواقف خارجية لم تحدد هي توقيتها ولم نتحمس لها, فلم يخرج الجندي المصري في عهده خارج حدود بلاده علي امتداد العقدين الأخيرين إلا مرة واحدة وتحت مظلة سياسية دولية كاملة عندما شاركت مصر في التحالف لتحرير الكويت وعادت إلي الوطن غداة أداء مهمتها لأن مبارك يؤمن بأن مصر ــ برغم دورها المركزي المحوري ــ لاتفرض نفسها علي أحد ولاتتطلع إلي دور توسعي في المنطقة.
... خلاصة القول أن مبارك هو رئيس مصري يستمد شرعية موقعه من قيام النظام الجمهوري بعد ثورة يوليو1952, وإن كانت تلك الشرعية قد تجددت في جيل مبارك بنصر أكتوبر1973, حيث انتقلت القيادة من الضباط الأحرار أعضاء مجلس قيادة الثورة إلي الصف التالي من أبناء القوات المسلحة المصرية الذين عاشوا في حياتهم العملية مع الثورة المصرية سنوات مجدها وأيضا سنوات انكسارها فتعلموا منها وأخذوا عنها ومضوا بها في محاولة للمواءمة بين الثوابت الوطنية والمتغيرات الدولية, وربما نجحوا في ذلك أحيانا وأخفقوا فيه أحيانا أخري إلا أن تلك الثورة المجيدة تظل في الذاكرة المصرية والوجدان العربي حدثا مدويا مازالت أصداؤه باقية رغم مرور نصف قرن علي قيامها, وهناك بالتأكيد من يقف معها ويعرف قيمتها وأيضا من لايتحمس لها ويقلل من تأثيرها ولكنها تبقي علامة مهمة في مسيرة هذا الوطن المصري وأمته العربية ويصبح الجدل محسوما في النهاية عندما نقارن بين نتائج فكر الثورة ونهج الإصلاح, فالروح التي صنعتها ثورة يوليو هي التي أعطت قوة الدفع لعدد من الأجيال بدءا من محمد نجيب وصولا إلي حسني مبارك وإن كان يبقي علينا دائما أن نربط بشدة بين حلقات ما قبل الثورة ومابعدها لأن يوليو1952 لا تعني بالضرورة أن كل ما كان قبلها هو فساد وفوضي, وأن كل مابعدها هو طهارة وشفافية, إذ إن الواقع يشير إلي أن الفترتين فيهما من الإيجابيات والسلبيات مايجعلنا ندرك في النهاية أن المباديء ليست هي التي تسود دائما, ولكن صراعات المصالح ومراكز القوي هي التي تحكم غالبا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/7/THAW7.HTM