إنها عبارة لفتت نظري حين استمعت اليها من رئيس البرلمان الدولي في مناسبة قريبة عندما كان الحديث يدور حول أوضاع الشرق الاوسط ومشكلته المزمنة والصراع بين الدول العربية والدولة العبرية الذي بلغ ذروته في المأساة الفلسطينية, ولقد ظلت هذه العبارة تلح علي خاطري وتستأثر بتفكيري منذ أن شدت انتباهي لان فيها تصويرا دقيقا وتحليلا رائعا لاسلوب حل المشكلات الدولية ومواجهة الصراعات الاقليمية, انها حقيقة لا يختلف عليها اثنان فالسلام والحرب كلاهما معركة ولكن بينهما مسافة واسعة هي الفارق بين الحياة والموت بين الامل واليأس بين الوجود والعدم, فاذا كانت الحرب هي قمة الدراما والانسانية فإن السلام هو قمة السعادة البشرية ان الحرب فصل مروع من فصول الحياة, بينما السلام هو كل فصول الحياة الباقية, ان الحروب حالة استثنائية ولكن السلام هو الحالة الطبيعية.
قرار الحرب
لقد قال الاقدمون شيئان يباح فيهما كل شئ الحب والحرب فمثلما يسقط الحب كافة الحواجز وينهي كل الموانع فإن الحرب كذلك, قد يري خلالها المقاتل رفيق عمره صريعا بجواره ولكنه لا يملك ترف الحزن ولا بد له أن يمضي مع المعركة متحركا علي الشعرة الرفيعة بين الحياة والموت وقد ينتهي به الأمر شهيدا او مصابا او اسيرا فكل شئ محتمل ويستحيل حسم التوقعات بنتائج الحروب خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصراع علي الحدود او الموارد فضلا عن الصراعات المتصلة بالافكار والعقائد, ولقد كانت هناك دائما نظريات تقليدية حول الحروب باعتبارها ظاهرة بشرية ضرورية في مسيرة الانسان لا لانها تمارس فقط تأثيرها الحتمي في المشكلة السكانية ولكن لانها ايضا تعبير عن ظاهرة الصراع التاريخي بين عناصر الجنس البشري من شعوب وقبائل وجنسيات ودول وأمم وحضارات, فالحرب ليست نزهة نمضي فيها حين نريد ثم نتوقف عنها عندما نشاء, اذ أن البداية قرار ولكن النهاية لا تخلو من دمار وخراب وضحايا ويتامي وثكالي وأرامل يستوي في ذلك المهزوم والمنتصر, وقد يقول ولكن الحرب تكون احيانا خيارا لا مفر منه خصوصا عندما تغتصب الحقوق وتحتل الاراضي وتمتهن المقدسات وهنا لا نستطيع ان نجادل كثيرا في ذلك ما دامت كل محاولات تفادي المواجهة لم تأت بنتيجة ولم تحقق تقدما ولم توجد مخرجا, ان ويلات الحروب شئ تحتفظ به الذاكرة الانسانية في كل مراحل تطورها منذ الجريمة البشرية الاولي عندما قتل قابيل أخاه هابيل ومع ذلك دعنا نسجل بعض الملاحظات المتصلة بقرار الحرب:
1 ـ كانت الحرب من قبل محصورة في ميادين القتال الا أن تطورات الاسلحة والفنون العسكرية جعلت دول المواجهة مفتوحة بالكامل امام الضربات الجوية والبحرية والبرية ولم تعد مقصورة علي القوات النظامية وهو امر جعل المدنيين ايضا طرفا مباشرا في الحروب الشاملة, حتي ان قانون الحرب قد استأثر بعدد ضخم من الاتفاقيات المنظمة لمعاملتهم وتحديد حقوق اسري الحرب كما وضع مجرمي الحرب في طرف معاد للبشرية ونظم اساليب محاكمتهم منذ نورمبرج حتي الان.
2 ـ ان الحربين العالميتين الاولي والثانية قد تكفلتا حتي الان علي الاقل بتغيير فلسفة الحروب والانتقال بها إلي مرحلة مختلفة حيث شهد النصف الثاني من القرن العشرين انواعا من حروب الاقلية والنزاعات المحدودة دون أن تتحول إلي حروب عالمية تعرف الحلفاء والمحاور حتي وصلنا أخيرا إلي فلسفة جديدة للحرب تتحدث عما يمكن تسميته بالحروب المفتوحة في مواجهة الارهاب الذي يعاني العالم من آثار ضرباته ولكنه لا يستطيع تجفيف منابعه.
3 ـ ان حروب التحرير نمط مختلف لانها تنطلق من دوافع وطنية تحمي الارض والمياه والاجواء لاقليم الدولة ولها رسالة محددة وهدف واضح ينتهي بتحقيق الاستقلال او تحرير الارض واستعادة السيادة لذلك فإنها نمط خاص من الحروب يختلف عن غيره بسبب الهدف النبيل الذي يقف وراءها والغاية التي تسعي اليها.
ان الحروب الحديثة قد دخلت مراحل خطيرة بسبب تطور اسلحة التدمير الشامل حتي اصبح الخيار النووي احتمالا تسعي اليه بعض الدول رغم مخاطره لانه يحقق في النهاية مرحلة من التوازن الاستراتيجي وفقا لنظرية الردع المتبادل. ولقد وصلتني رسالة من الدكتور منصور حسن عبد الرحمن الاستاذ بكلية الهندسة ـ جامعة المنصورة ويقول فيها:: تعليقا علي مقالكم بالاهرام بعنوان السلاح النووي وصراع الشرق الاوسط أود ان أضيف ما حدث في أواخر عام1939 وعقب اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية ان بادر نفر من كبار العلماء الامريكيين ومعظمهم من العلماء اليهود الذين فروا من اوروبا إلي الولايات المتحدة بعد تصاعد النازية والفاشية هناك وذلك بأن دفعوا ألبرت اينشتين لاقناع الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت باستغلال نظرية الانشطار الذري التي ساهموا في اكتشافها وذلك في بناء قنبلة ذرية للاغراض العسكرية, حيث رصد الرئيس الامريكي في البداية مبلغا متواضعا في فبراير1940 للبدء في المشروع إلي ان تبلور في مشروع مانهاتن الاستراتيجي ومختبراته السرية في لوس الاموس(1942 ـ1945) والذي انتهي ببناء القنبلتين الذريتين اللتين القيتا علي مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في اغسطس1945.
وعقب عودتي عام1986 ـ بعد مناقشات مع علماء الهندسة والفيزياء النووية بجامعة كمبردج ـ كتبت عن اهمية وجود برنامج نووي مصري لردع آلة الحرب الاسرائيلية التوسعية وقدراتها النووية وما زالت أذكر في حوار مع استاذ هندي رأيه بأن الغرب يشجع تقديم المنح والقروض لنا في بناء محطات توليد الطاقة الحرارية لإبعاد دولة كمصر عن مجرد التفكير في بناء محطات توليد الطاقة النووية, وبعد أحداث11 سبتمبر اصبحت هناك قيود ورقابة علي التحاق الاجانب بالبرامج الدراسية الاستراتيجية في جامعات الغرب, نحن في حاجة إلي البدء في برنامج نووي استراتيجي رادع والذي بدوره سيكون دافعا إلي الارتقاء بمستويات التعليم والامان لنكون في مستوي تلك التكنولوجيا المتقدمة.
رؤية السلام
ان السلام أمل دائم للبشرية وحلم لشعوبها ولفظ مقدس اختاره الله اسما من اسمائه بل إنه هو تحية الاسلام في كل مكان ولكن السلام لابد ان يتأسس علي العدل وان يستند إلي الحق وان يحمل درجة كبيرة من التوازن بين الاطراف والا اصبح هدنة مؤقتة لا تستمر كثيرا وشواهد التاريخ تؤكد لنا أن كل الحروب وصلت في النهاية إلي مائدة التفاوض من أجل سلام يتطلع اليه الجميع بغير استثناء, ولكن يكون الخلاف دائما في تصور كل طرف لذلك السلام, فالذين يقولون ان اسرائيل لا تريد السلام هم مخطئون فهي تريد سلاما اقرب إلي مفهوم الهدنة الآمنة دون اعتبار لوضع تصور طويل المدي يشكل في النهاية رؤية السلام الحقيقي في المنطقة واذا لم يكن من صالح اي طرف من الاطراف ان تستمر الحرب او يتواصل العنف الا ان النموذج الاسرائيلي يكاد يكون فريدا من نوعه فهو يريد الارض والامن والمياه والموارد ويتطلع بعد ذلك إلي السيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية, ونحن نؤكد في هذا السياق ان غيبة التوازن لا تحقق امنا كما ان العنف والقهر لا يصنعان سلاما اذ لابد من القبول الطوعي المتبادل بالتعايش المشترك والتعاون الاقليمي الذي لا يقف عند حدود وقف اطلاق النار او الوصول إلي هدنة مؤقتة دون فتح الملفات الكاملة لكافة القضايا المطروحة وهنا نقدم بعض الملاحظات المتصلة برؤية السلام:
1 ـ ان التصعيد في المواجهات وتزايد مخاطر العنف في الصراعات يتربطان في الغالب بقرب النهاية عرفنا ذلك في الحربين العالميتين الاولي والثانية وفي الحرب الفيتنامية بل وفي معظم حروب القرن العشرين.
2 ـ اننا اذا كنا قد مضينا وراء المنطق القانوني الذي يري ان العدوان علي المدنيين في حالة الحرب يدخل في اطار تصنيف محدد هو جرائم الحرب فإن العدوان علي المدنيين ايضا في حالة السلم هو ما تم تصنيفه تحت العنوان المطاطي الواسع الارهاب
3 ـ ان الحرب لم تحسم صراعا عبر التاريخ كله وان كان هناك احساس دائم بأن التفاوض في ظل المقاومة علي الارض يضع اصحابها في مركز تفاوضي افضل وهذه النقطة بالذات محل جدل لانها سلاح ذو حدين, وتحتاج ادارة الصراع في هذه الحالة إلي مواءمة ذكية بين المقاومة في جانب والمباحثات في جانب اخر علي نحو يسمح بتوظيف الاولي في خدمة الثانية.
ان الفارق بين الحرب والسلام هو بالفعل الفارق بين القرار والرؤية فقرار الحرب يمكن ان يكون تعبيرا عن ارادة فردية او مغامرة غير محسوبة بينما رؤية السلام تحتاج في تشكيلها إلي قدرة علي التصور وحس انساني عميق واستشراف بعيد للمستقبل ونظرة متوازنة لملف الصراع منذ بدايته, أقول ذلك وعيني علي المقترحات الامريكية الجديدة التي قدمها الرئيس جورج دبليو بوش منذ أيام بعد انتظار طويل وتأجيلات جعلتها اقرب إلي الدراما المسرحية منها إلي الرؤية السياسية, ورغم اننا نري فيها بعض الومضات الايجابية الا انها تصب في خانة المصلحة الاسرائيلية قبل الفلسطينية وتعكس إلي حد كبير محصلة الصراع الطويل في الشرق الاوسط بكل تداخلاته التاريخية والدينية, السياسية والاقتصادية, الثقافية والاجتماعية ان الرئيس الأمريكي يكاد يتحدث عن شرق أوسط جديد, يريد له أن يكون بعيدا عن العنف خاليا من أسلحة الدمار الشامل يقبل اطرافه طواعية مفهوم التعايش ويتحمسون لروح التعاون ولن يتحقق هذا الحلم الا اذا اتصفت التسوية النهائية بالعدالة وشعر كل طرف بتحقيق الحد الادني علي الاقل من مطالبه مع اختفاء سياسات العدوان والاستيطان من الساحة بزوال الاحتلال ووجود درجة من ا
لندية والتكافؤ بين الدولتين العبرية في اسرائيل والعربية في فلسطين إلي جانب وجود آليات واضحة لمراحل زمنية محددة في اطار تسوية شاملة.
ان الطريق لا يزال طويلا لان قرار الحرب يمكن اتخاذه في لحظة, بينما تحتاج رؤية السلام إلي مساحة زمنية تنشأ فيها جسور الثقة المفقودة وتهدأ معها النفوس القلقة حتي ينعم الجميع بالحياة الطبيعية بعد الصراع الطويل والمعاناة القاسية والظروف الاستثنائية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/2/WRIT1.HTM