اسجل بداية إنني لست من أولئك الذين يستسلمون لنظرية التفسير التآمري للتاريخ رغم اعترافي بوجود المؤامرة عبر كل الأزمنة وفي كل الأمكنة ومع ذلك فإن تداعيات الشهور الأخيرة وأحداثها الجسام قد وضعتني في حيرة شديدة لم أعهدها من قبل, رغم أنني أتشكك دائما في عدد من الأمور وأناقش في كثير من المسلمات ولكن شعرت آخيرا بشئ من العجز عن قبول المواقف كما تبدو علي السطح وقررت التمرد علي التفكير التقليدي والقفز فوق الأحداث لاستكشاف الحقائق واستجلاء الأمور مع الحرص علي ألا أكون ضحية لمقولة السياسيين عند الفشل في تحقيق أي هدف.. إنها مؤامرة!أو مقولة الأطباء عند العجز في تشخيص أي مرض إنهاحساسية
نعم.. إن التاريخ عرف المؤامرات الكبري فسقوط الخلافة العثمانية قد كان نتيجة لمؤامرة رغم طول فترة الاحتضار واغتيال الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي كان جزءا من مؤامرة كبري لإيقاف تحولات في السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا بسبب وصول ذلك الرئيس الشاب الي مقعد الرئاسة في واشنطن ونهاية الاتحاد السوفيتي السابق رغم الظروف الدولية التي مهدت لذلك لا تخلو هي الأخري من رائحة مؤامرة ذكية بدت ملامحها في سنواته الأخيرة وقس علي ذلك عشرات النماذج لاحتمالات مفتوحة يمكن الارتكان فيها الي التفسير التآمري للتاريخ وهو أمر يدعو الي الاسترخاء الفكري والاستسلام لقوة خارجة عن الإرادة واعتبار كل الهزائم مجرد تصاريف قدر وكل الإخفاقات حتمية وكل فشل لا مفر منه.
ورغم إدراكي لكل ذلك وإيماني بأن التفسير التآمري للتاريخ يصل بنا غالبا إلي مرحلة من التفكير العبثي والارتياح المؤقت الذي يسببه المنطق الاستسلامي رغم كل ذلك فإنه قد بدأ يخالطني شك كبير حول تفسير مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر عام2001 خصوصا عندما نتأمل ما جري منذ تلك الواقعة السوداء حتي اليوم فالشعب الفلسطيني خاسر رئيسي أمام جرائم إسرائيل الأخيرة ودولة باكستان الاسلامية مرشحة لمواجهة قد تتحول إلي نووية ويذكي من حدتها في جنوب آسيا أن الولايات المتحدة الأمريكية وجدت نفسها أقرب الي الهند التي كانت صديقا دائما للسوفيت في الوقت الذي كانت فيه الباكستان حليفا تقليديا للسياسة الأمريكية إنه الحادي عشر من سبتمبر ذلك الانقلاب الهائل الذي اعطي لعدد من القوي الدولية والإقليمية أجندات فرعية يجري توظيف بنودها لتحقيق أغراض مطلوبة في ظروف استثنائية لم يكن لها ان تتحقق في ظروف طبيعية فالأجندة الأمريكية الجديدة تعطي لها الحق في تعقب الإرهاب- بمفهومه المطاطي الواسع- في أي مكان من العالم أليست حربا مفتوحة.. وروسيا الاتحادية تريد أن تقضي علي من تسميهم المتمردين المسلمين في' الشيشان' والهند تريد أن تصفي حسابات تاريخية تتصل بثوار كشمير حتي تحسم مواجهتها الطويلة مع باكستان اما إسرائيل- الرابح الأول من الحادي عشر من سبتمبر- فإن في أجندتها الكثير بدءا من تصفية القضية الفلسطينية مرورا بالقضاء علي حزب الله و حماس و' الجهاد الاسلامي وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية وصولا الي إخضاع المنطقة العربية بالإحباط والعجز ثم السيطرة علي اقتصادات الخليج وفرض نوع من الهيمنة الإقليمية توازي الهيمنة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية ولعلي أضع القارئ الآن أمام إجابتي عن السؤال الذي طرحته في مستهل هذا المقال لماذا تبدو المسألة أكبر مما نري.
أولا: إن عقدة الحادي عشر من سبتمبر أكبر مما نتصور وأضخم مما نعرف لأنها نقلة نوعية في شكل العلاقات الدولية بل هي فصل جديد في الصلة بين الحضارات والرابطة بين القوميات فما من بيت في أقصي بقاع الأرض الا وتأثر بشكل ما من نتائج أحداث ذلك اليوم.
ثاينا: إن الولايات المتحدة الأمريكية التي نراها الآن ليست هي التي كنا نعرفها حتي يوم فاجعة الحادث الإرهابي في واشنطن ونيويورك والمشكلة أن أي تغيير في العقلية الأمريكية لا ينعكس علي الولايات المتحدة وحدها أو يقف عند حدود نظامها الاقليمي الذي حدد أصوله في مبدأ' مونرو' متخذا من دول أمريكا الجنوبية إطارا له فالأمر يتجاوز ذلك الي التأثير الأمريكي المتزايد علي العالم المعاصر والذي يجعل السياسة الأمريكية- حتي الداخلية منها- ذات انعكاس علي معظم دول القارات المختلفة.
ثالثا: إن من سوء حظ الشعب الفلسطيني الذي احتلت إسرائيل أرضه واغتصبت حقوقه وانتهكت مقدساته أن ارتبطت التفجيرات الاستشهادية لدي العقلية الغربية بحادث الحادي عشر من سبتمبر إذ برعت إسرائيل في توظيف دعايتها المضادة لتلك العمليات مستغلة ذلك التشابه في الأسلوب بينها وبين الطريقة التي تمت بها تفجيرات واشنطن ونيويورك وبذلك تحول الحصاد السياسي للانتفاضة إلي دعاية سلبية ضد الثورة الفلسطينية واختلط مفهوم مقاومة الشرعية بمفهوم الارهاب لدي قطاع كبير من الرأي العام الدولي وأصبحنا أمام وضع جري فيه اختزال القضية الفلسطينية برمتها لتتركز في نتائج تلك العمليات الانتحارية المتتالية.
رابعا: إن ما يتردد- في الصحافة الأمريكية قبل غيرها- عن معلومات مسبقة حول حادث الحادي عشر من سبتمبر والتوقعات السابقة عليه باحتمالات قيام عمليات إرهابية بأسلوب جديد علي الأرض الأمريكية تشير كلها الي درجة عالية من الغموض الذي يلف ظروف ذلك الحادث المروع وهنا تبدو الصورة أمامنا في إطار عنكبوتي شديد الضبابية ويعزز من ذلك أن مصير قادة تنظيم القاعدة المتهم الأول فيما حدث لايزال غامضا كما أن الحقائق تكشف كل يوم عن جديد حتي أن هناك من يري أن البنتاجون لم يتعرض لتفجير بالطيران الانتحاري إذ رددت بعض الروايات أن التفجير كان أرضيا مباشرا فضلا عن أنه لا توجد تحت أيدينا مستمسكات واضحة أو وثائق دامغة نستطيع بها أن نضع جماعة أو منظمة أو دولة في قفص الاتهام بل إنني أشعر أحيانا أن دماء ضحايا برجي التجارة في نيويورك موزعة علي أطراف كثيرة.
خامسا: إن حصاد مكاسب الحادي عشر من سبتمبر لبعض الاطراف يوحي بالقلق ويشير الي مؤامرة كبري استفاد منها البعض كثيرا وخسر بسببها البعض الآخر تماما وعندما تتفاوت نتائج حدث بعينه أو آثار واقعة بذاتها فيجب أن نتأمل من جديد الأسباب والدوافع والنتائج.
إننا نكتشف كل يوم جديدا يرتبط بالحادي عشر من سبتمبر بدءا من العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان مرورا بسجناء تنظيم القاعدة في جوانتانامو الكوبية وصولا الي شريط قناة الجزيرة الأخير الذي يتحدث عن التفجيرات ويفاخر بها وينسبها لتنظيمه ويهنئ رفاقه الي أن طلع علينا اخيرا مقال للكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان حاول به ان يستقبل زيارة الرئيس مبارك الأخيرة الي واشنطن وفي ظني أنه واحد من أخطر مقالات ذلك الكاتب لأنه أوضح بجلاء أن المستهدف هو مصر وأن في أجندة الحادي عشر من سبتمبر خطة طويلة المدي لتقويض عدد من الأنظمة في الشرق الأوسط وهو أمر يكشف عن الأهداف الخفية ليسناريو الأحداث المتعاقبة في الشهور الأخيرة إذ أن تفسير الظاهرة الإرهابية في العقل الأمريكي يشير الي أن المسئولية تقع علي كاهل النظم العربية والإسلامية ولا علاقة لانحياز السياسة الأمريكية لإسرائيل بذلك, كما أنه لا علاقة أيضا لتلك السياسة بإيجاد البيئة المناسبة للإرهاب ودعم مساراته.
إننا نحن العرب نبدو اليوم كالأيتام علي مائدة اللئام وهو أمر اختاره لنا غيرنا ودور حدده لنا سوانا لذلك فقد حانت لحظة التحول الحاسم في العقل العربي لكي يستوعب كل ما يدور حوله وكل ما جري له وأن يدرك أن عليه أن يسبق الأحداث وأن يقطع الطريق علي من يريدون له العزلة والانكفاء ويزرعون في طريقه المخاوف والأوهام كما أن علي الشعب الفلسطيني أن يدرك أن قضيته تعيش نقطة تحول خطيرة فرغم التضحيات الجسام وقوافل الشهداء العظام إلا أن العائد محدود والمردود سلبي ولابد من مراجعة أمينة ودقيقة لمعظم المسلمات التي قبلناها في العقود الخمس الأخيرة من القرن الماضي إنني ممن يؤمنون بأن التفريط في الثوابت جريمة وأن التخلي عن المبادئ خطيئة ولكن هناك شيئا آخر يمكن أن نسميه' البراجماتية' السياسية التي تستوعب الواقع وتقدم بعض الأولويات وتؤخر بعض الأساليب وتتوقف أحيانا عن بعض العمليات إذا كان في مجمل ذلك كله ما يحقق صالح القضية ويخدم أهدافها ويفتح أمامها آفاقا أفضل للقبول الدولي العام الذي تحتاجه والدعم السياسي العالمي الذي تطلبه وهل من العدل أن تصبح عملية إعادة تنظيم سلطة الحكم الذاتي قرارا أجنبيا وهل من العدل أن تصبح القيادة الفلسطينية كيانا هشا وهل من العدل أيضا أن تتراجع قضية العرب الأولي نتيجة دعايات ظالمة تضع علي كاهلهم- بمنطق التعميم- جريمة لم يرتكبوها وتحملهم ذنبا لم يقترفوه من هنا فإننا مطالبون أكثر من أي وقت مضي بمخاطبة الآخر بعقل جديد وروح مختلفة لقد قلنا ذلك كثيرا وسوف نكرره دائما لأنه لن يجدي لنا ان نخاطب أنفسنا أو ندفن رؤوسنا في الرمال ونتهم الغير بأنه نسج مؤامرة حولنا كما لم يعد كافيا أن نخاطب جيراننا في أوروبا أو أصدقاءنا في الصين والهند واليابان أو شركاءنا في العالم الاسلامي وإفريقيا لم يعد ذلك كله كافيا ولا ينهض وحده لكي يكون بديلا نواجه به ما جري وما يجري إن الحديث يجب أن يتجه الي جماعات الضغط اليهودية ودوائر التأثير في القرار الامريكي المتصل بالشرق الأوسط إذ أننا غائبون إلي حد كبير عن تلك الساحة وقد قال لي يوما صديق أمريكي أثق في حكمته وإخلاصه' إننا لا نعرفكم جيدا كما أن صورتكم منقولة لنا عبر ما يريده الاعلام لكم ونحن نطلب منكم ألا تغيبوا عن الساحة الأمريكية وليكن لكم وجود ظاهر لا كسياسيين أو برلمانيين فقط ولكن أيضا كمفكرين وأدباء وفنانين وفنيين حتي يعلم المواطن الأمريكي العادي عنكم ما يمكن أن يصنع الألفة ويزيل الجفوة ويملأ الفجوة ومازلت أذكر شخصيا ان صديقا لي كان يدرس في الولايات المتحدة الأمريكية فسأله مواطن أمريكي في إحدي الولايات عن جنسيته فأجاب أنه مصري فقال له هل مصر في منطقة الكاريبي! كما أن أستاذ الأدب الانجليزي المعروف الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب يحكي كيف أنه كان يقول للأمريكية العجوز التي يستأجر مسكنه لديها أثناء فترة دراسته أن والدته سوف تأتي من' مصر' لتزوره فكانت تسأله تلك السيدة الأمريكية بين حين وآخر متي سوف تأتي والدتك من الهند لتزورك فإذا كانت مصر أم الدنيا غير معلومة لدي بعض الأمريكيين فما بالنا بغيرها من دول المنطقة! فالأمريكيون يرون أن أمريكا هي العالم وتختلط عليهم الأمور أحيانا بصورة مقلقة ولقد سبقنا غيرنا في تقديم نفسه لهم وتعزيز مكانته لديهم وأصبحت مسئوليتنا الآن هي أن نرتقي بالأصل حتي تتحسن الصورة وأن نخاطب الأمريكيين بلغتهم وعقليتهم بدلا من الاكتفاء بشجب المؤامرات اللعينة أو الاستسلام للتفسير التآمري للتاريخ.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/6/18/WRIT1.HTM