لقد تبنت مصر منذ سنوات خيارا واضحا يدعو الي ضرورة إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل بما فيها السلاح النووي باعتبار أن تلك الدعوة سوف تمهد لسلام عادل يؤدي إلي استقرار المنطقة خصوصا أن مصر هي التي شهدت احتفالا دوليا عام1996 بإعلان القارة الافريقية منطقة خالية من السلاح النووي, وكنا نظن أن الخطوة التالية في هذا الشأن ـ بعد القارة الافريقية ـ سوف تكون في الشرق الأوسط, وذلك بإعلان إسرائيل لبرنامجها النووي في شفافية دولية كاملة تخضع بها منشآتها النووية للتفتيش الدوري للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد ان توقع إسرائيل علي الاتفاقية الدولية لمنع انتشار السلاح النووي, والتي تجددت عام1995 في ظل عاطفة شرق أوسطية.
طالبت فيها مصر ودول عربية آخري بكشف القدرات النووية لإسرائيل وانضمامها لاتفاقية منع الانتشار باعتبارها حاليا هي الدولة الوحيدة في الشرق الاوسط التي لم توقع علي تلك الاتفاقية, والآن وقد دخل الصراع العربي ـ الاسرائيلي مرحلة تعيسة للغاية فإننا نعود بالذاكرة للتنقيب في بدائل وخيارات أخري لا بغرض البكاء علي اللبن المسكوب, ولكن بهدف مناقشة الفرص الضائعة علي العرب والتفكير في مستقبل المنطقة بعد ان يتحقق السلام الذي يعيد الحقوق لأصحابها ويحرر الارض من مغتصبها.. إننا نحتاج اليوم الي فتح كل الملفات المتصلة بأمن الشرق الاوسط لأن الطريق علي ما يبدو لايزال طويلا قبل الوصول الي تسوية تحقق الحد الأدني من قبول أطراف الصراع.
سيناريوهات غائبة
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل كان من الأجدي للعرب أن يمتلكوا سلاحا نوويا يحقق لهم نوعا من التوازن مع إسرائيل؟ وهل كان يمكن السماح لهم بذلك في ظل الانحياز للدولة العبرية وتطبيق سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين ؟ إنني أدرك ـ من عملي السابق كمحافظ لمصر ومندوب دائم في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا ـ أن المسألة ليست بهذا التسطيح او تلك البساطة, إذ أن تحقيق التوازن النووي في شبه القارة الهندية كان ممكنا لأن الدولتين باكستان والهند لم توقعا علي اتفاقية منع الانتشار النووي, بل إننا مازلنا نذكر تلك الأسابيع التي فصلت بين التفجير النووي الهندي والتفجير النووي الباكستاني حيث غاب التوازن لعدة اسابيع حتي أعادت قنبلة الفقراء النووية ذلك التوازن من جديد بين دولتي الصراع في جنوب آسيا, ويجب ألا يغيب عن الذهن أن إسرائيل قد اقتحمت النادي النووي في وقت مبكر نسبيا عندما أقامت مفاعل ديمونة في محاولة منها لتخويف العرب وردع دول الجوار بادعاء حماية أمنها والقلق من جيرانها, ومازلت أذكر حوارات طويلة مع المندوب الاسرائيلي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية عندما كنت أطلب منه تأكيدا بانضمام بلده الي اتفاقية منع الانتشار النووي والاعلان في شفافية عن ترسانة إسرائيل النووية, كل ذلك عندما يتحقق السلام الشامل والعادل بين أطراف الصراع في الشرق الاوسط, وكان رده دائما أنه يبقي ايضا أمامهم عندئذ الخطر الايراني والباكستاني فإسرائيل لا تعدم ابدا ايجاد مبررات جاهزة للحصول علي ميزات دائمة علي حساب كل من حولها دون النظر الي عوامل الاستقرار ومقومات السلام, إنها إسرائيل التي ضربت المفاعل النووي العراقي عام1981, وهي التي تتحسس أي خطوات لدولة عربية أو إسلامية تفكر في الانضمام الي النادي النووي خصوصا إيران أما باكستان فهي كفيلة بها من خلال تعاون عسكري واستراتيجي مع جارتها الكبري الهند.. ويبقي السؤال ألم يكن الأجدي بنا المضي في مرحلة مبكرة لحيازة سلاح نووي عربي لا لاستخدامه ولكن لتطبيق سياسة الردع وتحقيق درجة من التوازن الاستراتيجي لا تسمح لإسرائيل بالعربدة في المنطقة مثلما فعلت في مناسبات كثيرة ؟! ربما يكون الأوان قد فات ولن تسمح الظروف الدولية الحالية بذلك كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تضع الآن جميع أدوات الرصد والتفتيش علي المنطقة في خدمة الحليف الإسرائيلي بصورة تكاد تكون مطلقة, ولعلي أشير هنا إلي أن المسألة العراقية لدي الفكر الأمريكي والعقل الغربي عموما لا تقوم علي أهمية حماية جيران العراق منه كهدف أساسي أو ضمان سلامة وسيادة دولة الكويت بالدرجة الأولي, بل إن الأمر في ظني يمضي إلي ما هو وراء ذلك بكثير فالذي يحدد السياسات الدفاعية والترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط ليست هي القوة العظمي في عالمنا المعاصر وحدها ولكن أيضا من خلال امتدادها المتمثل في الدولة العبرية إسرائيل, ولعلنا نذكر أنه عندما غزا العراق الكويت عام1990 فان نظريتين كانتا مطروحتين أمام التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية حينذاك, تري إحداها إمكانية إسقاط نظام الحكم في بغداد وإيجاد نظام بديل يسحب القوات العراقية من الكويت ويغير السياسة العراقية مائة وثمانين درجة إذا لزم الأمر دون المساس بمقدرات الشعب العراقي العسكرية والاقتصادية, ولكن كانت هناك النظرية الأخري التي تفوقت وحظيت بالتطبيق ـ وتبنتها إسرائيل في مقابل وعد منها بعدم الرد علي اي عمل عسكري قد تقوم به العراق ضدها عندما يبدأ التحالف في تنفيذ خطته ـ وقد كانت تلك النظرية تري أنه من المهم ضرب البنية الأساسية للعراق خصوصا كل ما يتصل منها بالإمكانات العسكرية والقدرات المرتبطة بأسلحة الدمار الشامل, فضلا عن القاعدة الاقتصادية للعراق باعتباره دولة غير طيعة تاريخيا ولا يمكن ضمان توجهاتها في المنطقة لذلك فلابد من تكبيل حركتها وتحجيم دورها, ولا شك ان النظام العراقي قد قدم من جانبه مبررات ساعدت علي ذلك.
سيناريوهات بديلة
إذا كنا نجتاز حاليا منعطفا خطيرا في مسار الشرق الاوسط والصراع العربي ـ الاسرائيلي فإن ذلك يستوجب من العرب ضرورة البحث عن أدوات بديلة يمكن استخدامها في المواجهة, ولست اقصد بذلك المواجهة العسكرية وحدها إذا فرضتها إسرائيل علي الشرق الاوسط ولكن أريد أن أشير أيضا إلي الإمكانات المعطلة في تاريخ ذلك الصراع, فنحن أمة قبلت طواعية تعطيل برامجها التنموية ومسيرتها الديمقراطية انتظارا للحظة سلام تأخرت كثيرا وقد لا تأتي قريبا, بينما التفوق الاقتصادي والتقدم التكنولوجي كانا هما الكفيلان بوضعنا في موقف أفضل بكثير مما نحن عليه الآن, لذلك فإنني أكرر دائما أن تطوير التعليم وتصدير الثقافة وتوطين التكنولوجيا هي أدوات التحديث للدولة العصرية القادرة علي المواجهة المتكافئة مع غيرها, ولست أدعو بذلك الي الاستعداد لعمل عسكري فذلك مالا يسعي إليه كل من يطلب سلاما عادلا وشاملا, ولكن ما أريد أن أقرره هو أن التقارب في درجة التقدم التكنولوجي وضيق الفجوة في مستوي الإنجاز الاقتصادي هما أمران كفيلان بضمان درجة من التوازن الاستراتيجي الذي يحقق السلام, ويدعم الاستقرار, ويمثل زاجرا لكل طرف يمنعه من اية مغامرة عسكرية او محاولة لانتهاك سيادة الآخر, كما ان توسيع مساحة المشاركة السياسية في الدول العربية والاتجاه مع طريق الديمقراطية والمضي في الإصلاح السياسي والدستوري وتمثيل كل القوي علي الساحة الوطنية هي مقومات أساسية للدولة التي تكتسب احترام غيرها خصوصا ان عالمنا المعاصر يقدر أوزان الدول بحجم ذلك الاحترام الذي تناله وليس بمعيار الحب الذي تتمتع به, فالعلاقات الدولية تقوم علي المصالح ولا تقف كثيرا أمام العواطف, وهل ننسي أن إسرائيل تتباهي دائما بالديمقراطية وتوظفها لخدمة سياساتها الخارجية وصورتها الدولية رغم أنه لا يختلف اثنان حول حقيقة أنها دولة عنصرية بالدرجة الأولي, ومع ذلك فإن بعض الساسة والقادة في الدولة العبرية دأبوا في مناسات كثيرة علي معايرة العرب بالديمقراطية الغائبة والحريات المكبلة, وهنا لابد أن نعترف أن الديمقراطية العربية ليست مطلبا حقيقيا لإسرائيل أو الولايات المتحدة الامريكية ولكنها واحدة من المطاعن التي تستخدمها الدولتان وغيرهما ضد الشخصية العربية تشويها لها وتحقيرا لمكانتها مع أن الولايات المتحدة ذاتها اسقطت حكومات ديمقراطية ودعمت أنظمة ديكتاتورية وقد حدث ذلك في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والقارة الافريقية ولكنها هي السياسة دائما.. مزدوجة المعايير متعددة المكاييل..
إن ما أريد أن أقوله في هذه الظروف التي نلوذ فيها بأعلي درجات الحكمة وضبط النفس والتحكم في المشاعر القومية هو ان الطريق ليس مسدودا أمامنا كما أن الخيارات لاتزال متاحة لنا, كذلك فإن إسرائيل ليست هي تلك القوة المذهلة التي لا يقهرها أحد ولكنها فقط قوة غاشمة لا تلتزم بقرارات الشرعية الدولية ولا تحترم القانون الدولي في السلم او الحرب وتمضي في عدوانها وانتهاكها لحقوق غيرها دون حدود او ضوابط, فهي قاتلة الاسري وهادمة المنازل ومغتالة القيادات وصائدة الأطفال, إنها دولة انتحارية بالطبيعة تتبني دائما فكرة هدم المعبد علي من فيه وتغير المعادلة من حين لآخر وفقا لاستراتيجية طويلة المدي لا تتأثر بما حولها ولا تضعف امام العوامل الانسانية ولا تحمي المقدسات الدينية فهي خارج القانون والأخلاق والأعراف وهي تروج لذلك ولا تستحي منه, وهل ننسي أن المعلومات التي تسربت عن قتل الأسري المصريين قد صدرت من إسرائيل ذاتها في محاولة للتخويف وصنع هالة من الرعب حول الجيش الاسرائيلي ونسج الأساطير حول قوته الخرافية, بينما كان وضع ذلك الجيش في الاسبوع الأول من حرب اكتوبر1973 يستحق الرثاء حتي جاءه المدد المباشر من القواعد الامريكية الي ميادين القتال مباشرة في وقت كادت فيه إسرائيل أن تلجأ الي استخدام سلاح نووي محدود امام زحف الدبابات المصرية وضربات طيرانها الموجعة, وهنا أعيد التذكير بأن هناك قرارا اسرائيليا منذ عشرات السنين بحرمان اية دولة عربية من الوصول الي تصنيع القنبلة النووية التي لم تعد سرا علميا مستعصيا إذ أن تقنيات استخدامها السلمي يمكن ان تمهد لغيره من الاستخدامات ولكن المطلوب هو الإمكانات المادية والخبرات المتخصصة ونحن نملك كليهما, فلدي العرب أموال كافية لشراء مكونات الإنتاج النووي, ولدينا علماء من طراز رفيع ويكفي ان نعلم ان لمصر وحدها اكثر من عشرة علماء يعملون مفتشين دوليين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا التي يترأسها دبلوماسي مصري مرموق, ولكن كان المهم قبل ذلك كله توافر عنصر الإرادة السياسية للمضي في برنامج نووي متكامل منذ سنوات, لا للعدوان علي الغير او تهديد الآخر, بل لإحداث نوع من التوازن الاستراتيجي في المنطقة يحمي الحقوق ويصون المقدسات.
إننا يجب الا نكون أمة حالمة أو ضائعة, ولكن يجب أن نعطي الأمور أوزانها الحقيقية وأقدارها الصحيحة, ومازلت أكرر أن لدينا من المقومات ما يضعنا في وضع افضل بكثير مما نحن عليه, إذا صدقت النيات وخلصت المشاعر وساد العقل علي كل ما عداه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/5/21/WRIT1.HTM