إن الذي يجب أن يؤرقنا في المرحلة المقبلة ليس فقط تداعيات الصراع العربي ـ الإسرائيلي بقدر ما هو النظرة الجديدة التي شكلتها الدعاية الاسرائيلية المسمومة في الشهور الأخيرة حتي أصبحت صورة العرب مستمدة من شخصية بن لادن وصورة المسلمين مستمدة من حركة طالبان وأصبح المسمي المتداول للمقاومة الفلسطينية في بعض المناسبات هو الإرهاب في الشرق الأوسط وظهر اسم جديد لأرييل شارون وهو رجل السلام و أصبح عدوان إسرائيل اليومي علي الشعب الفلسطيني هو حالة دفاع عن النفس وبدأنا نشعر بأن الجفوة بين الشعوب العربية والإسلامية في جانب والغرب في جانب آخر هي جفوة من نوع جديد فيها من الثقة المفقودة والفهم الضائع والود الغائب ما يوجد مسافة واسعة ويحفر هوة عميقة بين الأمم والشعوب ويعيدنا الي أجواء العصور الوسطي ويضع علامات استفهام حقيقية علي ديمقراطية العلاقات الدولية والتفاهم بين الدول والحوار بين المجتمعات حتي إن المصداقية بين الأطراف قد ضاعت كما أن الشفافية في التعامل لم يعد لها وجود الي حد كبير وحلت بديلا عنها الازدواجية الواضحة والانحياز الكامل لطرف علي حساب الآخر مع طغيان الاعتبارات السياسية علي القرارات الدولية في محاولة خبيثة لتطويع القانون الدولي ذاته لخدمة أهداف مشبوهة وأغراض تفتقر الي الشرف والشرعية, من هنا فإن القلق الحقيقي ينبع من نوعية التصنيف الذي يجري الإعداد له في المنطقة بحيث يظهر لنا فجأة نموذج جديد للشخصية العربية يلتصق بالعقلية الغربية بينما هو أبعد ما يكون عن الحقيقة ولا يقدم توصيفا سليما للواقع, فمنذ متي كان طلب الحق ارهابا والسعي نحو تطبيق قرارات الأمم المتحدة عدوانا! إننا نعيش عصرا تجددت فيه المخاوف وسيطرت عليه أجواء من الريبة التي تسيطر علي كل الأطراف. إن العالم يمر بظروف استثنائية تبدو فيها القوة العظمي متوترة الأعصاب ملتهبة الشعور تعيش عقدة الحادي عشر من سبتمبر عام2001 وتتصرف بعصبية زائدة دون حكمة مطلوبة, وإسرائيل تعربد في الأرض الفلسطينية وتعبث بالمقدسات وتخرق الاتفاقات, ومن المناسب هنا أن أشير الي رسالة مفتوحة الي السيد أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل بعث بها السيد ميشيل روكار رئيس وزراء فرنسا الأسبق والنائب الحالي في البرلمان الأوروبي وهي رسالة شديدة الأهمية بالغة الدلالة وقد نشرتها جريدة لوفيجارو الفرنسية يوم2002/4/15, لأنها تعكس رؤية غربية أوروبية لاتعادي اسرائيل عموما ولكنها تعبر في الوقت نفسه عن رفض
ها سياساتها الحالية ويقول روكار في مطلع رسالته لشارون: إن مشكلتي الحقيقية هي محاولة فهم منطقكم وهو ما لم أتمكن منه, إنني أتساءل هل قمتم بتحري النتائج النهائية لمنطقكم وخيارتكم؟, لقد اخترتم القوة وكان يمكنكم عدم اللجوء إليها, فقد كان يوجد عند انتخابكم رئيسا للوزراء نواة اتفاق سلام وإطارا يسمح باستئناف المفاوضات بل اكثر من ذلك فقد كانت هناك جوانب عديدة للتعاون بين الشعب الفلسطيني وقسم كبير من الشعب الاسرائيلي نذكر منها علي سبيل المثال التعاون في المجالات الاجتماعية والطبية والجامعية والاقتصادية, وكذلك علي مستوي الجمعيات والمنظمات. ثم ينتقل روكار في رسالته الخطيرة التي تعكس العقلية الغربية الموضوعية غالبا المنصفة أحيانا فيشير الي ما يطلقون عليه في الغرب التفجيرات الانتحارية التي أفرزها اليأس الفلسطيني ردا علي جرائم اسرائيل فيقول هل ترون أن شخصا في العشرين من عمره يقدم علي الانتحار بناء علي أوامر من جهات عليا حتي وإن كانت دينية, إننا لا يمكن ان نغفل شعور هؤلاء الشباب بالإذلال وبعدم احترام آدميتهم, لقد اخترتم اللجوء الي القوة ولكن للقوة ثمنها فهل قدرتم هذا الثمن جيدا, إنكم تعلمون أن كبار المفكرين الاستراتيجيين قالوا إن خير وسيلة لكسب الحرب هي عدم شنها, لقد جاءت حساباتكم عكسية إذ أن أول عنصر من الثمن الذي يتعين علينا ان ندفعه هو التدمير الكامل لأي أمل ولأي مرجعية لعملية السلام التي بدأت منذ نحو عشر سنوات بل والقضاء علي أي تعاون بين مجتمعين مدنيين في إسرائيل وفلسطين ثم ينتقل روكار السياسي الفرنسي المخضرم ليضرب مثالا من تاريخ بلاده لعل شارون يجد فيه عبرة تعيد اليه صوابه فيقول له لقد خسرت فرنسا حربين بعد الحقبة الاستعمارية لأنها رفضت طويلا التفاوض مع خصومها في المعركة وحاولت الاعتماد علي سياسيين يعملون لحسابها ولا يمثلون أحدا, أما أنتم فلديكم شريك ولكنه لا يروق لكم, هل رأيتم في التاريخ قائدا عسكريا يستطيع ان يختار خصمه في الحرب؟ علي أي حال لقد حاولتم بشتي الطرق تقييد حركته وإذلاله ونفيه والأمر بدا صعب المنال, فإذا كان للسيد عرفات عيوب كثيرة إلا أنه يتسم بالشجاعة.. إنكم تعتقدون أن اختفاء عرفات' سوف يساعد علي إحلال الأمن والسلام إلا ان العكس هو الصحيح, وإن هدفكم إذن ليس القضاء علي عرفات ولكنكم تحاولون ان تجدوا في موقف الفلسطينيين ما يبرر اللجوء الي القوة والتخلص بالتالي من جميع المشتبه فيهم,
هل تعتقدون ان المجتمع الدولي الذي تعتبرونه مائعا ـ والذي يعاني في واقع الأمر من عجز كامل ـ سوف يترككم تلعبون بهذه الورقة الي النهاية. ويقدم روكار لشارون رؤيته لنتائج ما حدث فيقول له: انكم قد صنعتم من عرفات بطلا حقيقيا ربما قبل ان تصنعوا منه شهيدا, كما أن الدول العربية التي لم تكن تكترث ـ منذ نحو نصف قرن ـ بمصير الشعب الفلسطيني قد جعلت الآن من القضية الفلسطينية شعارا للجميع, كذلك فإنكم رفضتم الاقتراح الذي تقدم به الأمير عبد الله ولي العهد السعودي بطريقة تمثل له وللمملكة العربية السعودية نوعا من الإهانة.
ثم يختتم روكار رسالته التحذيرية لرئيس وزراء إسرائيل قائلا له: إنكم بصدد إيجاد ما يسمي بالمعاداة لإسرائيل في جميع أرجاء العالم وأمثالي لن يكونوا قادرين علي كبح جماح الغضب والأحقاد التي أشعلتم فتيلها, وهذه الرسالة تعكس القلق الذي يشعر به الكثيرون من الساسة في أوروبا بل وربما في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها لأن الكل يدرك فظائع ما ارتكبته إسرائيل ولكنهم يضعون لذلك تسمية مهذبة بقولهم إن ما فعلته إسرائيل فيه إسراف في استخدام القوة! وهذا لاينفي أنه لا يوجد هناك من تجدر الاشادة بمواقفهم المعتدلة نسبيا المنصفة عموما, فالسكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان اتخذ موقفا ـ في حدود مساحة الحركة التي تسمح بها الولايات المتحدة الامريكية لأمين عام الأمم المتحدة ـ يبدو معقولا كما أن تيري رود لارسن مبعوث الأمم المتحدة الي الشرق الأوسط قد قطع شوطا أطول في كشف انتهاكات إسرائيل وفضح جرائمها ولو أن إسرائيل استطاعت أن توفر له مصير الكونت برنادوت ما ترددت ولكنها اكتفت بتأديبه عن طريق اتهامه بحصوله علي منحة مالية هو وزوجته كجائزة من مؤسسة اسرائيلية وتلك هي إسرائيل دائما تبتز من يعترض عليها وتشوه صورة من يختلف معها ويأتي ال
نموذج الثالث من أولئك الذين أظهروا مواقف عادلة الي حد كبير وأعني به منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافير سولانا الذي كانت تعبيرات وجهه تعكس حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني كلما زار مسرح العمليات العدوانية الاسرائيلية في الأسابيع الأخيرة, لذلك فإنني أود أن أشير هنا الي نقطة لها مغزاها وهي ضرورة ألا نتصور ان العالم كله ضدنا فهذه النماذج الاختيارية ـ لكوفي عنان وتيري رود لارسن وخافير سولانا وميشيل روكار وغيرهم ـ هي شواهد علي أن التستر علي الجريمة لن يطول وأن إسرائيل سوف تدفع الثمن ولو بعد حين, لذلك فإنني أدعو الي بذل كل الجهود العربية والدولية لتوثيق جرائم إسرائيل وانتهاكاتها من خلال آلية دولية يصدر لقيامها قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة خصوصا إن ذلك النوع من الجرائم لن تسقط دعواه بالتقادم ولكنه يظل حيا مثلما جرائم النازي التي مازالت إسرائيل تنال تعويضا عنها وتبتز من تريد بها, والآن دعونا نسجل بعض الملاحظات علي نتائج أحداث الأسابيع الأخيرة:
أولا: إن حساب المكسب والخسارة لا يضع إسرائيل بشكل مطلق في خانة الربح فالعلميات التي جرت توضح أن إسرائيل تواجه الحرب المفتوحة في عقر دارها بعد أن تعودت دائما أن يكون مسرح العمليات بعيدا بمئات الأميال عن قلبها وأهم مدنها.
ثانيا: إن التلويح باستخدام كارت معين والتهديد بإجراء ما, يظل كل منهما مصدر قلق وهاجس خوف أمام الطرف الآخر, وعندما يقدم الطرف الأول علي استخدام ذلك الكارت أو يلجأ الي ذلك الاجراء فإن قيمته الفعلية تكون قد انتهت ويصبح من استخدمه أمام مأزق حقيقي لأنه حرق أوراقه وكشف خططه, وهل ننسي أن إسرائيل التي هددت من قبل باحتلال المناطق التي استعادتها سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وهددت بحصار عرفات وعزله وتصفية البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية وقد فعلت كل ذلك بل وزادات عليه إجراما وعدوانا وانتهاكا.
ثالثا: لقد أدت الأحداث الأخيرة الي تقريب وجهات النظر بين غلاة المتشددين وأكثر المعتدلين بحيث أساءت الممارسات الإسرائيلية الشرسة الي صورة الولايات المتحدة الأمريكية وليس لإسرائيل فقط, وهو أمر له خطورته لأن القضاء علي الاعتدال القومي سوف يفتح بابا للتوتر والعنف والتشدد وقد تصعب السيطرة عليه.
رابعا:إن تماسك الوحدة الوطنية العربية والانصهار القومي الواضح بين جميع القوي والتيارات والدور الذي لعبته القيادات المسيحية والاسلامية في العالم العربي, كل هذه تعتبر إنجازات ننتزعها من ركام المنازل التي هدمتها الجرافات ومصادر رضا برغم الجرائم التي عاني منها الشعب الفلسطيني علي نحو غير مسبوق.
خامسا: إنني أريد أن انبه صراحة الي الخطأ الفادح الذي وقعنا فيه لعشرات السنين عندما عطلت معظم الدول العربية مسيرة الديمقراطية وبرامج الاصلاح السياسي والاقتصادي والخطط التنموية انتظارا لانتهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي وإقرار السلام الشامل والعادل الذي يرضي كل الأطراف, بينما كان الأوجب هو أن يتجه العرب في كل قطر نحو بناء الدولة العصرية الحديثة التي تقوم علي تطوير التعليم وتصدير الثقافة وتوطين التكنولوجيا وتوسيع مساحة المشاركة السياسية, لأن ذلك كان هو الرد الواجب علي ما كشفته الأسابيع الأخيرة عندما تساقطت الأوراق وسقطت الأقنعة.
إن الجفوة قد تزول مع مر السنين ولكن الفجوة هي التي سوف تتسع كلما مضينا علي الطريق نفسه, نكرر اخطاءنا ولا نحاور سوانا ونكتفي بإدانة غيرنا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/5/7/WRIT1.HTM