أقف كثيرا عند تفسير عدد من مواقف الدول العربية وفي مقدمتها مصر أمام هذا التساؤل: هل تتقدم الالتزامات الدولية علي المشاعر القومية؟ وهل تمضي كل الدول العربية علي هذا السباق أم أن بعضها يفعل العكس خصوصا مع تسليمنا بوجود أجندة قطرية قد لا تكون بالضرورة خاضعة لأحد الاعتبارين السابقين وهي في الغالب تتأرجح قربا أو بعدا من أحدهما وفقا لمقتضيات الظروف أو طبيعة المراحل؟ وفي ظني أن هذه المسألة ليست بالبساطة التي تبدو بها إذ أنها مفتاح لفهم الكثير من المواقف وتفسير العديد من المواجهات, بل إنني أذهب إلي ماهو أبعد من ذلك فأطرح للمناقشة طرفي المعادلة منذ بدايتها وسوف نكتشف أن كثيرا من الخلافات العربية انطلقت من تباين النهج, وتفاوت الأسلوب, وفقا لترتيب هذين الاعتبارين الأساسيين لدي كل منها ومحاولة التوفيق بينهما.
ولعل الموقف المصري بوجه خاص هو أوضح نموذج للمواءمة بين هذين البعدين وهو ما نعبر عنه أحيانا بقولنا دائما مصر بين الدولية والإقليمية, ولقد حاولنا معالجة هذا الموضوع في مناسبات عديدة لأنه يعطي تفسيرا واضحا أمام سوء الفهم الذي يحدث للموقف المصري في كثير من المناسبات, وسوف أقدم هنا ثلاثة أمثلة مستمدة من العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا لنكتشف من البحث فيها أن صانع القرار المصري قد سلك نهجا يصعب أحيانا إيجاد بديل له, ولست هنا أرتاد طريقا للتبرير وإنما أسلك سبيلا للتفسير, والنماذج الثلاثة التي أسعي لطرحها عند مناقشة العلاقة بين الالتزامات الدولية والمشاعر القومية هي أولا نهج التسوية السلمية الذي اتبعته مصر في النصف الثاني من السبعينيات, ثم المشاركة المصرية في التحالف لتحرير الكويت, بينما ينصرف النموذج الثالث إلي الوضع الراهن وهو رد الفعل العربي عموما والمصري خصوصا أمام جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين التي فاقت كل التصورات وتجاوزت كل الحدود.
نهج التسوية المصرية ـ الإسرائيلية
لا أريد أن انكأ جراحا بدأت في الالتئام أو افتح ملفات ليس هذا وقتها, كما إنها ليست مهمتي أن أعيد الاعتبار لنهج الرئيس الراحل السادات أمام منتقديه والذين يلقون باللائمة عليه عند كل محنة عربية فهم يشيرون إليه باعتباره المسئول عن ضرب المفاعل النووي العراقي, والاجتياح الإسرائيلي للبنان, وكل عثرات القضية الفلسطينية في العقدين الأخيرين, ولقد غاب عن هؤلاء وأولئك أنه يجب الغوص في أعماق تلك الفترة حتي نكتشف أسباب الصدام الحقيقي الذي يجسد الأزمة الحالية للنظم العربية خصوصا عندما لا تستطيع تلك النظم التوفيق بين ارتباطها بالمجتمع الدولي الكبير وانتمائها للأمة العربية الواحدة, ولست مبالغا إذا قلت: إن حسم هذه النقطة سوف يشكل الرؤية المشتركة الجديدة تجاه قضايا المنطقة العربية وفي مقدمتها الصراع العربي ـ الإسرائيلي, ومازلت اعتقد أن مصر السبعينيات قد انتهجت أسلوبا لم يلق قبولا عربيا عاما في وقته لاعتبارات تتصل بالتعارض الجوهري بين الرؤية الدولية والنظرة الإقليمية, ولقد كان السادات ـ ربما تاليا في ذلك لمحمد علي الكبير ـ مدركا لطبيعة القوي الدولية والمتغيرات الإقليمية وقد سلك طريقا لايبدو متسقا مع الروح القومية, وتعامل مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي من منطلق رئيس مصر المنتخب دستوريا وليس الزعيم العربي المقبول قوميا, ثم إن مجيئه بعد عبد الناصر الذي أعطي للمشاعر القومية أسبقية علي الالتزامات الدولية قد دفع السادات نحو اتجاه آخر وضعه في دائرة الجدل لسنوات طويلة, ولابد أن نسجل هنا أن المضي وراء المشاعر القومية واعطاءها أولوية علي الالتزامات الدولية هو رفاهية لا تقدر عليها كل الشعوب وترف إنساني رائع ولكن نتائجه قد تكون أحيانا عكسية لأن السياسة تقوم علي المصالح قبل غيرها ولا تعيش بالمبادئ وحدها, ولست أدعو هنا إلي أن تنسلخ الدول عن إطارها القومي وتخرج علي هويتها الثقافية ولكن ما أعنيه هو أن العلاقات الدولية المعاصرة والتنظيم الدولي القائم أصبحا من التشابك والتعقيد بحيث تستلزم محاولة التوفيق المقبول ـ علي المستويين الرسمي والشعبي ـ بين الالتزام الدولي والانتماء القومي ـ جهودا كبيرة, وفي ظل هذا الاعتبار يمكن فهم الرؤية المصرية لتطورات الصراع العربي ـ الإسرائيلي خصوصا وأن مصر دولة مركزية محورية تتحمل مسئوليات خاصة تجاه ذلك الصراع لا لأنها أكبر دولة عربية أو لأنها دولة جوار مباشر مع إسرائيل, وإنما قبل ذلك وفوقه لأنها دولة طويلة العمر, قديمة الكيان, وقد لا يتذكر الكثيرون أن إسهامات مصر في الحياة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين قد أهلتها أثناء الأعمال التحضيرية لإنشاء هيئة الأمم المتحدة لكي تكون مرشحة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن!! فدولة بهذا الحجم يجب أن تسعي إلي التوفيق بين الاعتبارات الدولية والارتباطات القومية بحيث لا تسقط الأولي ولا تفرط في الثانية, ولو حسم العرب أمرهم بين هاتين المسألتين لتجاوزوا الكثير من سوء الفهم, ولغفر كل منهم للآخر, بل ربما أمكن في تلك الحالة تشكيل رؤية متجانسة تجاه القضايا الدولية والصراعات الإقليمية وفي مقدمتها الصراع العربي ـ الإسرائيلي, ولست أدعي هذا المنطق يقدم تبريرا كاملا لسلامة التوجه في سياسة دولة معينة ولكن ربما يساعد فقط علي قبولها في مجملها.
التحالف في حرب الخليج الثانية
مازال بعض العرب منقسمين حتي الآن حول جدوي التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية في المناسبات المختلفة وأبرزها التحالف لتحرير الكويت بعد الغزو العراقي, وهم يشيرون إلي الغطاء السياسي الذي وفرته المشاركة المصرية وأيضا السورية للولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت, وفي رأيي أن أصحاب هذا الرأي يتجاهلون البعد الدولي وتداعياته فلم تعد المسائل القطرية أو القضايا الإقليمية حبيسة إطار منطقة بذاتها, إنما تجاوزت ذلك لكي تدخل في المعادلة الدولية ولو علي مستوي أقل من حجمها الكبير في المعادلة الإقليمية, وهو أمر يدعونا إلي الاعتراف بالتداخل الدولي والإقليمي وضرورة إعمال النظرة المزدوجة للبعدين معا فلم يعد ممكنا المضي وراء المد القومي مع تجاهل البعد الدولي, كما أن الخيارات لم تعد متاحة أمام صانع القرار بالاتساع الذي كنا نتصوره حيث أضحت الالتزامات الدولية والمصالح الثنائية قيدا علي حركة النظم السياسية علي نحو يدعو إلي ضرورة أن تؤائم تلك النظم بين اعتبارات الشرعية الدولية والمصلحة القومية, وسوف يظل النموذج العربي في حرب الخليج الثانية مثالا واضحا لتلك الازدواجية التي عانت منها بعض الحكومات العربية ولم تحسمها إلا غلبة القوي الدولية التي قادت التحالف ورتبت له وضمت إليه من تريد, بل إنني أذهب إلي أبعد من ذلك فأري في التحالف الأخير ضد الإرهاب نموذجا آخر للتضارب في الرؤية, فالكل يرفض الإرهاب شكلا وموضوعا, ولكن الكل لايوافق بالضرورة علي الأسلوب الأمريكي في معالجة تلك المسألة الخطيرة بمنطق ازدواج المعايير والكيل بمكيالين, فالإرهاب الإسرائيلي دفاع عن النفس, والمقاومة الفلسطينية إرهاب بغض النظر عن مشروعيتها واستمرار الاحتلال المسبب لها!! وهنا تكمن النقطة الجوهرية في ذلك الصدام بين الاعتبارات المتصلة بالهوية القومية والارتباطات المتصلة بالالترامات الدولية.
الظرف القومي وجرائم إسرائيل
يتساءل المرء في هذا الظرف القومي العسير.. أين العالم المتحضر؟ وكيف تقبل الولايات المتحدة الأمريكية التضحية بكل حلفائها في المنطقة بهذه الصورة؟ وأين توظيف الموارد العربية لأمة يبلغ الإجمالي السنوي لتجارتها الخارجية أكثر من395 مليار دولار؟! ولكن الإجابة في النهاية لابد أن تستوعب ماجري في الشهور الأخيرة, فمنذ الحادث الإرهابي في واشنطن ونيويورك والنظرة الأمريكية للعالم تتجاوز حدود ازدواج المعايير لتصل إلي مفهوم تعدد المعايير حيث نجحت إسرائيل في تعميم مفهوم الارهاب علي كل من يعارض سياستها ويقاوم احتلالها مع استعداد أمريكي للدعم المطلق لاسرائيل, ولابد هنا من فتح الملفات لكي نؤكد عددا من الحقائق أولاها أن ما أقدمت عليه إسرائيل اخيرا هي عملية جري الاعداد لها مسبقا وتم تنفيذها بعد الحصول علي الضوء الأخضر من الادارة الأمريكية الحالية, فشارون يريد أن يغير المعادلة بالكامل لا في الأرض المحتلة وحدها ولكن في دول الجوار أيضا إذا تمكن من ذلك, من هنا فإن العرب مطالبون بكثير من الوعي بما يجري والتصرف وعينهم علي المجتمع الدولي وليس فقط علي الشارع العربي, فالكل ـ بغير استثناء ـ غاضب ثائر متحمس, ولكن القرار الرشيد هو ذلك الذي لا يضيع في زحام العاصفة ولكنه يستطيع أن يبقي مؤثرا موجعا مهما كانت التحديات والإحباطات والآلام, وقد يقول قائل ما قيمة الاهتمام بالالتزام الدولي أمام الجرافات في رام الله والمذبحة في جنين والعدوان علي كنيسة المهد في بيت لحم, وسوف أقول إنك إذا أردت أن توجه صفعة لخصمك فيجب أن تفعلها بدم بارد وأعصاب هادئة لا أن تتصرف نتيجة لانفعال عاطفي أو حماس وقتي, فالعالم ليس هو الشرق الأوسط وحده كما أن الشرق الأوسط ليس هو العرب وحدهم, كما أن هناك أزمة ثقة قوية برزت أكثر وضوحا في الفترة الأخيرة تكاد تري ـ بمنطق التعميم الخبيث ـ أن العرب جميعهم بن لادن وأن المسلمين جميعهم طالبان!! وأن المقاومة الفلسطينية إرهاب وأن العمليات الاستشهادية هي العقبة الوحيدة أمام الأمن والاستقرار في المنطقة! لذلك فإن الأمر يحتاج إلي رؤية هادئة, ونظرة حكيمة, تتمكن من توظيف القدرات العربية لخدمة القضية الفلسطينية مع تعظيم صورة العرب في الخارج وهو أمر يحتاج منا إلي جهد كبير, فضلا عن ان استخدام أدوات الضغط العربية المتاحة بغير حسابات دقيقة هو انتكاسة من نوع آخر, فهل يؤدي حظر البترول الذي نجح عام1973 إلي ضغط حقيقي علي
الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأساسي لاسرائيل أم أن التي سوف تضار هي دول الاتحاد الأوروبي وهي المانح الأول للسلطة الفلسطينية, ثم يليها في الضرر دولة اليابان وهي المانح الثاني لها, فإذا جئنا إلي سلاح المقاطعة الاقتصادية فإن الأمر يحتاج إلي دراسة كل حالة علي حدة لأن تداخل عناصر رأس المال والتشغيل فضلا عن الشركات متعددة الجنسية وعابرة القارات أمر يحتاج هو الآخر إلي دراسة دقيقة حتي لا تكون النتيجة عكسية, فضلا عن الدعاية السلبية المحتملة, وقد نتساءل هنا وماذا هو المتاح أمامنا إذن في ظل احترام الالتزامات الدولية والتمسك بالانتماءات القومية خصوصا أن الطرف الآخر لم يحترم يوما الشرعية الدولية ولم يفهم لحظة معني القومية, إننا نحتاج إلي مزيد من الضغوط علي الولايات المتحدة الأمريكية, ولا يتصور أحد أن موضوع المعونة هو قيد علينا لأنها لا تشكل قضية حياة أو موت بالنسبة لنا, فضلا عن أن بلدا كمصر ومعها الدول العربية المهمة تشكل في مجملها عنصر استقرار الشرق الأوسط ودوام المصالح الأمريكية فيه.
.. بقي أن نقول في شجاعة إن السياسة الأمريكية قد خذلت التيار المعتدل في الشرق الأوسط, كما أن الجرائم الاسرائيلية قد قضت علي مستقبل التعايش في المنطقة إذ سوف تبقي في ذاكرة الزمان صورة حية لممارساتها الاجرامية خصوصا أن الأجيال الجديدة التي لم تشهد دير ياسين أو صبرا وشاتيلا قد أتاحت لها سياسة شارون أن تعرف الدولة العبرية علي حقيقتها, إن إسرائيل شارون تسعي لإثارة العرب واستفزاز أكثرهم اعتدالا حتي تقول للولايات المتحدة الأمريكية إن هؤلاء جميعا هم نسخ من بن لادن والدولة العبرية هي الذراع الشرق أوسطية للولايات المتحدة الأمريكية في حملتها ضد الارهاب بدءا من الشعب الفلسطيني!, إن إسرائيل قد استقرت علي مخطط واضح يجعلنا نعرفها أكثر من أي وقت مضي دون تزييف, صورة أو خلط أوراق وبدون رتوش توزيع الأدوار أو مساحيق جماعات السلام!.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/4/23/WRIT2.HTM