سوف تحفظ الذاكرة العربية لسنوات طويلة مقبلة مشهد فتاة في عمر الزهور أو صبي في ربيع العمر يتلو كل منهما خطابا قبل ساعات قليلة من قيامه بعملية استشهادية في الأرض المحتلة, إن ذلك المشهد يمثل قمة المأساة الإنسانية المعاصرة, والتي تجعل الخيط الرفيع بين الحياة والموت مدعاة للتأمل الحزين والألم النبيل, ولعلنا نتساءل ما الذي يدفع البشر إلي هجران الحياة والاتجاه طواعية نحو العدم والرحيل في اتجاه النهاية؟ لابد أن هناك أسبابا قوية تستعصي علي الفهم العادي وتبتعد عن المنطق الطبيعي, ولقد التقيت أخيرا وفدا فلسطينيا في القاهرة لا يحبذ أعضاؤه كثيرا المضي في عمليات التفجير الانتحاري لشهداء الاقصي, ولكنهم يؤكدون في الوقت ذاته أن هناك تسابقا محموما بين الشباب الفلسطيني ــ فتيانا وفتيات ــ من أجل نيل شرف الشهادة علي تراب الوطن الفلسطيني.
وقد أدركت أن هذه العمليات التي لم أكن متحمسا لاستمرارها ــ بسبب عائدها السلبي سياسيا برغم أنها أكثر الضربات الموجعة التي يقدر عليها الفلسطينيون في مواجهة جرائم إسرائيل ــ لن تتوقف إلا بعودة الأمل واستعادة المسيرة السلمية وعودة الإحساس بأن هناك من يفكر في ذلك الشعب الذي تحالفت عليه إسرائيل, ومن يدعمها فعندما تختفي سياسة الكيل بمكيالين ويزول منطق ازدواج المعايير ويشعر المجتمع الدولي أن الولايات المتحدة الأمريكية ــ القوة العظمي الوحيدة في عالمنا ــ تمارس سياسة عادلة, إننا لا نطلب من الولايات المتحدة الأمريكية ألا تهتم بإسرائيل, ولا حتي الأ تتعاطف معها ولكننا نريد فقط الأ يأخذها هذا الاهتمام, وذلك التعاطف إلي قبول قهر شعب علي أرضه واستفزاز أمة بأسرها علي نحو أدي إلي إحراج أصدقائها وضرب التيارات المعتدلة في المنطقة وإعلاء كلمة التطرف والدفع بالقوي المتشددة إلي الساحة وأذكاء نعرات كنا نتصور أنها في طريقها إلي الزوال, ولعلنا نتجه إلي مناقشة ما نريد هنا من خلال تناول اربعة عناصر رئيسية هي: القيادة الفلسطينية والأجندة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية ثم الحسابات العربية.
القيادة الفلسطينية
تعرضت القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني المتمثلة في شخص عرفات إلي حملة ضارية عبر الشهور الماضية شاركت فيها أطراف إسرائيلية وأخري أمريكية, فلقد عبر شارون في أكثر من مناسبة عن عدائه الشخصي للقائد الفلسطيني وندمه لأنه لم يتخلص منه في مناسبات سابقة, وعزفت شخصيات اخري علي نفس الوتر حتي أن الرئيس الأمريكي السابق كلينتون لم يترك مناسبة إلا وحمل فيها عرفات مسئولية فشل كامب ديفيد الثانية بل وشرم الشيخ وطابا مدعيا أن الزعيم الفلسطيني هو المسئول عن ضياع فرصة الوصول إلي إعلان تسوية نهائية في الأسابيع الأخيرة من الإدارة الأمريكية السابقة, ولاشك أن كلينتون يردد ذلك لضياع جائزة نوبل التي كان يحلم بها, وأيضا دعما لزوجته نائبة نيويورك وتسديدا لديون عليه في قضية مونيكا وتداعياتها, وقد انبري بعد ذلك تيار إسرائيلي متشدد يتهم عرفات بأنه هو الذي يقف وراء التفجيرات الاستشهادية, وأنه يستطيع تهدئة الأوضاع ولكنه لا يفعل ذلك ويكتفي بالموافقة علنا علي ما تطلب إسرائيل بينما يدعم الانتفاضة بكل اشكالها ومراحلها وكأنما المطلوب من عرفات أن يتحول إلي موظف لدي إسرائيل أو شرطي في قواتها يعتقل من تريد ويسلم لها من تشاء, وانطلاقا من
ذلك بدأت محنة القيادة الفلسطينية التي أصبحت هدفا يسعي الإسرائيليون لإزاحته لأنهم يضربون في هذه الحالة أكثر من عصفور بحجر واحد فهم يسعون إلي القضاء علي الزعامة الفلسطينية المتفق عليها شعبيا, والمقبولة عربيا, والمعترف بها دوليا, ثم إنهم ينهون أيضا مسيرة أوسلو بالكامل وهي التي لم يوافق عليها شارون منذ بداية مشوارها, كما أن سلطة الحكم الذاتي باتت تؤرق اليمين الإسرائيلي المتطرف وتمثل استفزازا لبعض التيارات الدينية في الدولة العبرية, ولذلك فإنني أظن أن ما تعرضت له القيادة الفلسطينية في الفترة الأخيرة وما واجهه عرفات شخصيا إنما هو تطبيق لسيناريو تم إعداده مسبقا لأن حكومة شارون كانت تتوقع أن يذهب عرفات إلي القمة العربية في بيروت فلا تسمح له بالعودة وعندما فوت عليها عرفات الفرصة مضت في تنفيذ خطتها لعزله وإنهاء دوره حتي لو وصل الأمر إلي تصفيته جسديا أو قتله معنويا, وذلك ما حدث تقريبا, وقد غاب عن قادة إسرائيل أن عرفات لا يملك عصا سحرية يلبي بها مطالبهم ويحقق أهدافهم, ولعلي أزعم هنا أن التفجيرات الاستشهادية لا يقوي علي إيقافها عرفات أو غيره من القادة الفلسطينيين لأنها تعبير عن الإحساس بالظلم ورغبة في الرحيل عن الحياة لأنها لم تحقق للشهداء الحد الادني من العدل والكرامة التي ينشدها الإنسان في كل زمان ومكان.
الأجندة الإسرائيلية
روجت إسرائيل لخطاب إعلامي زائف ملأت به الدنيا طولا وعرضا, وموجز هذا الخطاب الإعلامي هو أن إسرائيل باراك2000 قد قدمت للفلسطينيين ما لم يعرض عليهم طوال تاريخ الصراع منذ بدايته, ولكن الفلسطينيين بدلا من أن يستجيبوا لنداء التسوية فضلوا إلقاء الحجارة والبدء في أعمال العنف, وهذه مغالطة كبري لأن الذي حدث هو أن إسرائيل هي التي راوغت وماطلت بينما لم يرفض الفلسطينيون عرضا واضحا أو مشروعا محددا ولكنهم وجهوا مجموعة من الاسئلة والاستفسارات لاستجلاء الموقف خصوصا,أن الحديث وقتها كان يتجه نحو الخطوط العريضة للتسوية النهائية, كما أن مظاهرة شارون الاستعراضية في الثامن والعشرين من سبتمبر عام2000 كانت هي المسئولة عن تفجير الموقف والدخول في دائرة العنف والعودة إلي أجواء التوتر, ومراحل التصعيد في ظل ممارسات إسرائيلية عدوانية غير مسبوقة, فالأجندة الإسرائيلية تقوم علي طرح مختلف مؤداه القضاء علي السلطة الفلسطينية المركزية والتعامل مع المناطق المحتلة بصورة جزئية إلي جانب محاولة لطرد الفلسطينيين إلي الحدود العربية المجاورة والسماح لمن يبقي منه بكيان محدود يبدو له شكل الدولة ظاهريا بينما تسعي إسرائيل بأن تسلب منه كل مظاهر السيادة الحقيقية, كما أن إسرائيل قد انتهزت كل الفرص واستثمرت كل المناسبات من أجل تحقيق استراتيجيتها الطويلة التي رسمتها منذ عشرات السنين بل إنها استطاعت في ظروف استثنائية تالية لحادث الحادي عشر من سبتمبر عام2001 أن تحقق جزءا كبيرا من احلامها بحيث خلطت خلطا معتمدا بين المقاومة المشروعة والإرهاب وشوهت وجه الثورة الفلسطينية بصورة متعمدة ساعدت عليها الحساسيات الدولية والانفعالات الأمريكية بعد ذلك الحادث الشهير الذي تعرضت له مدينتا واشنطن ونيويورك.
الإدارة الأمريكية
كنا نتصور أن إدارة ليندون جونسون الذي جاء نتيجة رصاصات أودت بحياة سلفه جون كيندي هي أسوأ الإدارات الأمريكية بالنسبة للعرب وأكثرها انحيازا لإسرائيل, ولكن الأمر في ظني أصبح مختلفا إذ أنني أظن أن إدارة بوش الابن تمثل الانحياز الأكبر لإسرائيل عبر تاريخها الطويل, فعزل عرفات وحصاره بالأسلاك الشائكة وقتل العشرات من الشباب الفلسطيني والاعدامات العلنية هذه كلها مجرد محاولات للدفاع عن النفس تمارسها إسرائيل وتتفهمها الولايات المتحدة الأمريكية, ومن الواضح أن واشنطن قد تغيرت وأن عقدة الحادي عشر من سبتمبر عام2001 هي التي تحكم القرار الأمريكي, وأن المتشددين في دوائر السياسة الأمريكية هم أصحاب اليد العليا والذين يرون في كل قنبلة استشهادية فلسطينية سببا يوقظ لدي الذاكرة الأمريكية مشاعر الحادي عشر من سبتمبر بكل آلامه وآثاره وتداعياته, بل إن الإدارة الأمريكية تزيد علي ذلك انتقادات شديدة تجاه شخص عرفات وتتهمه بالتقصير وأنه كان يجب أن يقوم بدور أكبر بينما هو حبيس حجرتين في مقره المعزول في رام الله!, ولست أغالي إذا قلت ان الإدارة الأمريكية الحالية قد أحرجت أصدقاءها في المنطقة, وضربت التيار المعتدل في مقتل, وأسهمت
من حيث لا تدري في إعلاء صوت التشدد وتقوية صناع التطرف في الشرق الأوسط كله لأن غياب العدالة واختلال التوازن وغيبة المعايير الثابتة أدت كلها إلي ضياع المصداقية وشيوع نوع من التوتر والقلق في المنطقة لا أظنه خافيا علي الإدارة الأمريكية وأجهزتها المختلفة, ونحن نطالب الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمي في عالمنا والتي تتحمل المسئولية الكبري في قيادة العالم المعاصر بأن تعطي اهتماما حقيقيا بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة, ونحن نكرر أننا لا نطالبها بالابتعاد عن إسرائيل أو التوقف عن التعاطف معها, ولكننا نريد منها نظرة جديدة للمنطقة وفهما حقيقيا لتداخل المصالح فيها وإدراكا إنسانيا بأن العدوان علي كنيسة المهد ومسجد عمر بن الخطاب وقتل راهب وترويع الأطفال وهدم المنازل وحصار المدن, هذه كلها ممارسات لا تتفق مع ما تعلنه الولايات المتحدة الأمريكية من إيمان بالحرية ورعاية لحقوق الإنسان ودفاع عن القوميات ورفض لمنطق إبادة الجنس وإنهاء وجود شعب أو إلغاء هويته الوطنية وغير ذلك من تصرفات شارن وحكومته, ولازال الأمل معقودا علي الشعب الأمريكي الذي أظنه لا يعرف كل الحقيقة ولا يري إلا ما يراد له أن يراه بفعل السيطرة اليهودية الكاسحة علي الإعلام والاقتصاد بل وأحيانا علي دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية, إذ لا يبدو منطقيا أن تقود واشنطن حملة ضد الأرهاب لدي البعض وتغمض عينيها عن إرهاب أشد لدي البعض الآخر.
الحسابات العربية
لا ننكر أن هناك مصلحة عربية عليا يلتقي عندها العرب ـ ـكل العرب ــ ولكننا لا نتجاهل أيضا حقيقة أخري وهي أن لكل دولة عربية أجندة خاصة بها تختلف من قطر لآخر وفقا لظروفه الاقتصادية وتركيبته السكانية وارتباطاته الدولية ومواقفه الإقليمية والتزاماته التعاقدية, ولذلك فإن الحسابات ليست دائما واحدة خصوصا وأن مسئولية الشقيقة الكبري تفرض عليها قدرا أكبر من الحكمة لأن انفلات مشاعرها سوف لا يجر شعبها وحده وراءها إلي المجهول ولكن قد يجر المنطقة كلها إلي مواجهات غير محسوبة أو الوقوع في فخاخ منصوبة, وليس يعني ذلك أننا نستسلم لما يجري أو نوافق علي ما يحدث أو نقف مكتوفي اليدين مشلولي الإرادة, إذ يجب أن نتحرك علي كل الأصعدة وأولها الحوار المكثف مع إدارة الدولة التي كانت راعية لعملية السلام وملزالت هي صاحبة التأثير الأقوي علي الطرف الآخر وليكن خطابنا لها جديدا ومثيرا, فنحن نتساءل ــ علي أرضية عصرية ــ لماذا هذا الدعم المطلق لإسرائيل علي حساب الفلسطينيين وباقي العرب؟ إن واشنطن تلجأ إليهم في الشدائد سواء عند التحالف لتحرير الكويت أو في الحملة ضد الارهاب بينما تبقي إسرائيل هي المتفرج المدلل المستفيد في كل الإحوال! ثم إن مجموعة من الرؤساء والملوك أو حتي وزراء الخارجية العرب يمكن أن يحملوا مشروع السلام العربي إلي واشنطن ويفتحوا حوارا علنيا مع دوائر صنع القرار الأمريكية يؤكدون فيها رغبة العرب في السلام الشامل والعادل ورفضهم للعدوان علي المدنيين من كل طرف وتطلعهم لاستقرار المنطقة وقبولهم للتعاون الإقليمي فيها بعدما تنسحب إسرائيل إلي خطوط4 يونيو1967 وتعترف بقرارات الشرعية الدولية التي تحقق للفلسطينيين دولة مستقلة عاصمتها في القدس مع تطبيق قرار الأمم المتحدة الخاص بحق العودة, عندئذ لا مانع لدينا من قبول ترتيبات أمنية متبادلة تعيش في إطارها كل دولة داخل حدود آمنة ومستقرة ومعترف بها.
.. هذه رؤيتنا في غمار الأحداث المأساوية التي تشهدها المنطقة وسط ركام الجرائم الدامية التي نتابع أخبارها في الأرض المحتلة, ونحن نري أن شارون قد وضع نفسه في مأزق حقيقي فقد جاء إلي الحكم بدعوي تحقيق الأمن للمواطن الإسرائيلي ولكنه يبدو الآن أبعد ما يكون عنه, فقد كان من نتيجة جرائمه غير المسبوقة ضياع الأمن وابتعاد السلام, لذلك فإن ما يجري الآن قد فاق أسوأ السيناريوهات تشاؤما وتجاوز كل الخطوط الحمراء ووضعنا أمام مسئولية خطيرة تقتضي دقة الحساب ووضوح الرؤية وحكمة القرار.
|