إن الدرس الذي يجب أن نخرج به من التطورات الدولية علي امتداد الشهور الماضية يأخذنا في النهاية إلي حقيقة واحدة, وهي أن التحديث هو معركة المستقبل, فلقد كشفت الأحداث الأخيرة عن نقاط ضعف في حياتنا وأوضحت المسافة بيننا وبين ما كان يجب أن نكون عليه من تفوق اقتصادي وتقدم علمي وتماسك ثقافي ورؤية بعيدة المدي تختزل تراثنا الحضاري وتستوعب تاريخنا الطويل, لقد أصبحنا الآن علي يقين من أن التحديث قضية تتصل بالعقل قبل غيره, وتتحدد بالمشاركة في تكوين ضمير الجماعة وتشكيل هويتها, لقد أثبتت تداعيات الحملة الدولية ضد الإرهاب أن صياغة الأطر القوية للدولة العصرية هي الضمان الوحيد لمواجهة التيارات المختلفة في عالمنا المعاصر إذ ليست هذه التيارات في مجملها متفقة مع تطلعاتنا وغاياتنا.
كما أن الرياح التي تهب بين حين وآخر علي مناطق مختلفة من العالم ليست هي الأخري مواتية تماما لرؤيتنا للمستقبل كما نريده, ونحن ننتمي إلي إقليم له خصوصية تاريخية وظروف اقليمية تجعله شديد الحساسية يتأثر بما يجري في العالم ويؤثر فيه, ولقد كان قيام الدولة العبرية في1948 بمثابة التحدي الأكبر لتاريخنا القومي وتراثنا الحضاري, ولعلنا ندرك أن جزءا كبيرا من حملة إسرائيل الاعلامية ضد جيرانها العرب قد تبني مقولة ظالمة ترتكز علي اتهام مطلق بأن العرب يمثلون بحيرة راكدة تتسم بالتخلف السياسي والتعصب الثقافي, بينما إسرائيل هي واحة الديمقراطية وصورة المستقبل, ولقد وجدت مثل هذه الدعاية المغرضة استجابة لدي دوائر كثيرة في المنتديات الدولية والمحافل العالمية, فلقد رددها بيريز كثيرا, وتحدث عنها نيتنياهو أحيانا, وتشدق بها الساسة الإسرائيليون بمناسبة وغير مناسبة, وكأن تاريخنا الحضاري الطويل قد اختزل في تلك الرؤية الإسرائيلية المغرضة التي تسعي لتثبيط الهمم, وتشويه الصورة, وتأييد التخلف, وإظهار العرب وكأنهم يعيشون خارج دائرة العصر, ونحن ندرك أن السياق التاريخي يؤكد دائما أن الصدمات تفيق الأمم وأن المفاجآت توقظ
الشعوب, وأن التحديات تستفز النظم, لذلك فإن تبعات الحادي عشر من سبتمبر والنظرة الأمريكية إلي هذه المنطقة من العالم بإعتبارها مستودع العنف ومركز تفريخ الارهاب هي في عمومها نظرة تحتوي علي اتهامات تستحق الاهتمام, وتستدعي ميلاد رؤية عربية جديدة لا تقف أمامها حدود, ولا تحول دونها ظروف دولية أو متغيرات اقليمية, فالصحوة الحقيقية تقوم علي إرادة مشتركة تريد التخلص من سلبيات الحاضر وتتطلع إلي ايجابيات المستقبل وترفض الحصار في اطار ضيق حدده لنا غيرنا, قفزا علي حقائق التاريخ وتجاهلا لمعطيات الجغرافيا, ولكي لا تتوه أفكارنا في زحام مفردات اللغة المتصلة بهذه القضية الحيوية فإننا نشير إلي النقاط التالية:
أولا: إن التحديث ثورة اصلاحية ذاتية لا تقوم بها دولة نيابة عن أخري, ولا تسعي إليها جماعة بشرية من أجل غيرها, والذين يشيرون إلي دور بعض الأحداث التاريخية الخارجية في ميلاد الدولة الحديثة في الشرق الأوسط إنما يعلقون آمالا علي أحداث فردية غير قابلة للتكرار لأنها كانت بنت عصرها ووليدة الصدمة الحضارية الناجمة عن مفاجأة المواجهة المباشرة بين الشرق والغرب, ولعلي أشير هنا تحديدا إلي نموذج الحملة الفرنسية علي مصر في بداية القرن التاسع عشر, وإذا كنا لا نقلل من آثارها السياسية والعسكرية إلا أننا نري أنها حملة ذات بعد ثقافي وعلمي أدي إلي صحوة حقيقية في مصر, ولكن مثل هذا النموذج ليس قابلا للتكرار بالضرورة كما أن القياس عليه لا يؤدي إلي احساس حقيقي بالدور الوطني الذي مارسته القوي الشعبية وحددت به درجة الاستجابة للتغيير ومدي الترحيب بروح التحديث.
ثانيا: انني أظن أننا في مرحلة صدرت خلالها مبادرات فكرية لا يجب أن تمر بشكل عابر, ولعلي أذكر منها خطاب ولي عهد المملكة العربية السعودية أمام قمة دول مجلس التعاون الخليجي في مسقط مع الأيام الأخيرة من عام2001 فلقد كان خطاب الأمير عبد الله في تلك المناسبة خطابا نقديا جادا بلغة جديدة توحي بالأمل في الاصلاح, وتحمل في طياتها ملامح إرادة التغيير, خصوصا أن ذلك الخطاب الجديد يصدر عن واحدة من أشد الدول العربية محافظة في الفكر وأكثرها ثباتا في السياسة, ولست أشك في أن الدول العربية الأخري تملك من أدوات التغيير وأسباب التحول والقدرة علي استيعاب الظروف وفهم المواقف ما يجعلها قادرة علي التهيؤ للمستقبل والمشاركة فيه.
ثالثا: انني أعتقد أننا نحتاج إلي قراءة جديدة لتاريخنا, وفهم صحيح لديننا, واعتزاز موضوعي بحضارتنا, دون استغراق في الماضي أو الاستسلام لغيبوبة زمنية تتغني بالأمجاد وتتحدث عن فضل الأجداد, وتعيش في عزلة عن تيارات العصر وتفاعلاته المشهودة, وسوف يقتضي ذلك تنقية الحياة السياسية العربية من أنماط الفردية وأحادية النظرة لكي ننتقل إلي عصر التعددية ونقبل بثقافة الحوار ونفسح المجال لروح التسامح حتي نضع المجتمعات العربية علي طريقها الصحيح لتحقيق أهدافها الواضحة, ولعلي أشير هنا إلي أهمية عملية الاصلاح السياسي في النظم العربية المختلفة باعتبارها القاطرة التي تشد غيرها من جوانب التقدم الاقتصادي وركائز التغيير الاجتماعي ومكونات المناخ الثقافي.
رابعا: انني أحسب أحيانا عن يقين بأننا في حاجة إلي تحول جذري في تقاليدنا الفكرية وقيمنا الاجتماعية إذ أنها تبدو بعيدة عن روح العصر, بل وتمضي أحيانا ضد طبيعة الأشياء ولا يجب أن ينظر إلي هذه النقطة باستخفاف, لأن جوهر التحول وصحوة التحديث يرتكزان معا علي الإنسان, والإنسان دائما هو ابن حضارته ونتاج ثقافته, يتأثر بالضرورة بتراكم طويل للقيم والأفكار والتقاليد والمباديء التي استندت عليها مقومات وجوده, وتشكلت من خلالها الظروف المحيطة به لذلك فإنني أدعي أن العامل الاجتماعي له أهميته كما أن له دلالته.
خامسا: إن أهمية العنصر الثقافي تتزايد بشكل ملحوظ في العلاقات الدولية المعاصرة ولعلي أشير هنا إلي أن أهم طرحين فكريين في السنوات الأخيرة ـ بغض النظر عن رأينا فيهما ـ هما العولمة وصراع الحضارات يشكلان معا توجها غريبا نحو اعطاء العامل الثقافي أهمية متزايدة في مستقبل العلاقات بين الدول والتفاعلات بين الشعوب, لذلك شاعت تعبيرات مثل حوار الحضارات وأحيانا حوار الأديان وغيرهما من الإشارات المباشرة إلي الشخصية الثقافية للتجمعات البشرية المختلفة وتأثيرها علي شكل العالم ومستقبل العلاقات بين شعوبه, ونحن كعرب نملك تراثا تاريخيا انسانيا ضاربا في أعماق التاريخ وله دوره الحضاري المشهود فلابد من توظيف هذا العامل لخدمة أهدافنا في هذه المرحلة شديدة الحساسية من التاريخ البشري.
سادسا: اننا لن نمل الحديث عن أهمية احداث هزة قوية في نظم التعليم في الأقطار العربية بحيث تتكون نظرة جديدة لا تقف عند حدود الكم أو تستغرق في رصد أعداد المدارس بالآلاف وكأن ذلك هو غاية المراد, لأن الأمر في ظني يخرج من نطاق الكم ليصل إلي جوهر العملية التعليمية ذاتها حتي ننتقل من الفلسفة التقليدية للتعليم كأداة لتخريج الموظفين وتغذية الجهاز الاداري بكوادره ـ وذلك هو فكر القرن التاسع عشر ـ إلي رؤية عصرية تنموية تري في التعليم بوابة العصر وتنظر إليه من زاوية التعلم أي ذاتية القدرة علي الحصول علي المعارف واكتساب المهارات دون الحاجة إلي الحشو التقليدي بالمعلومات الصماء لأننا في عصر تكنولوجيا المعلومات والفتح الكبير الذي جاء به الكمبيوتر وعالم الانترنت, ولعلي أتساءل هنا كيف نسمح بوجود نظم تعليمية موازية في بلادنا دون وجود حد أدني من الانسجام بينها, فهناك تعليم ديني وتعليم عام وتعليم خاص ومدارس استثمارية ومدارس أجنبية, ألم يأن الأوان لوضع حد أدني من قاسم مشترك يجمع بينها في اطار عملية تعليمية عصرية؟ إن هذا التعدد يخلق بالضرورة جماعات موازية داخل الوطن الواحد, ويقلل من درجة الانصهار الفكري والتوافق الثقافي,
وهنا لابد أن نشير إلي التلازم بين إصلاح التعليم وبين التركيز علي البحث العلمي لأن كوادر التكنولوجيا تأتي نتيجة التزاوج بين العلم والصناعة وكلاهما يحتاج إلي نظام تعليمي عصري يتجاوز الأطر التقليدية ليتجاوب مع روح العصر ويناطح أساليب البحث العلمي الحديث, وذلك هو جوهر المعركة التي نتحدث عنها.
سابعا: إن جزءا كبيرا من تحديث الدولة العربية ينصرف إلي تحديد العلاقة بين الشعوب في جانب والدين الحنيف في جانب آخر, ونحن نعترف بداية أن مساحة الدين في العقل الاسلامي عموما والعقل العربي خصوصا مساحة واسعة, ولو أخذنا دولة مثل مصر علي سبيل المثال فسوف نجد أن الدين قد احتل قدرا كبيرا في تشكيلها الثقافي وشخصيتها الاجتماعية بل تجاوز ذلك أيضا إلي البعد الاقتصادي, فمصر تنفق كل عام عدة مليارات من العملة الأجنبية علي أداء فريضة الحج وشعيرة العمرة هذا فضلا عن الدور الذي يمارسه الدين في حياة الناس, خصوصا إذا كانت الشريعة في ثراء الشريعة الاسلامية الغراء, فالاسلام قد طبع طقوس الحياة لدي أتباعه بطابعه الرحب بدءا من الميلاد وصولا إلي الوفاة مرورا بالزواج والطلاق والميراث, لذلك فإن وضع الدين في مكانه اللائق وانهاء محاولات استغلاله لأغراض معروفة, وابعاد شبهة تطويع نصوصه لخدمة أهداف سياسية والتوقف عن توظيف آراء فقهائه لدعم التطرف واستجلاب حماس البسطاء وغير العارفين بجوهره السمح ورؤيته الشاملة, كل ذلك يضع الاسلام في مكانه الطبيعي ويعطيه قداسته المستحقة, خصوصا أنه يتعرض الآن لحملة تشويه لم تحدث من قبل, ونحن
نحتاج الآن إلي فكر قادر علي مواجهة الافتراءات الباطلة والدعاوي المغلوطة, وهنا نتساءل عن الدور الغائب للمؤسسة الدينية الرسمية والرسالة العاجلة التي تنتظرها في هذه الظروف, فالاسلام هو الاسلام في كل زمان ومكان ولكن تقديمه بصورته الحقيقية هو مسئولية الداعية العصري الذي يخاطب العالم بلغته ومنطقه فحديث رجل الدين الاسلامي يصدر عن أمة جعلت للدين مساحة واسعة في تاريخها الانساني وتراثها الحضاري.
.. هذه رؤوس أفكار تدور حول معركة التحديث التي يتحتم أن نخوضها ـ طوعا أو كرها ـ لأنها أصبحت قضية مستقبل ومصير وحياة, فلا يجب أن ننتظر حتي يفرضها علينا دخيل, أو يعيرنا بها خصم, أو يستخدمها طامع, هل ننتظر حتي يأتي يوم يطالبنا فيه الأقوياء بإغلاق مدارس إسلامية بدعوة احتضانها لعناصر إرهابية وهو اتهام عابث واجهته بعض الدول الاسلامية مؤخرا؟ إن الأمر يجب أن يكون بأيدينا قبل غيرنا لتنقية الشوائب التي علقت بديننا الحنيف وقوميتنا العربية حتي كادت تعصف بهويتنا المشتركة.. فالدولة العصرية هي غايتنا, والتحديث هدفنا, والصحوة العقلية هي سبيلنا لتحقيق ذلك.. ولن أختتم هذا المقال دون الاشارة إلي مسألة ذات حساسية نشعر بها جميعا, وهي إدراكنا لطبيعة الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم في الفترة الأخيرة وإحساسنا بأن هناك من يريد أن يملي علينا ارادته, ويحدد طريقنا إلي المستقبل, ويفرض رؤيته علي أجيالنا القادمة, وهذا أمر لا مبرر له لأننا لا نشعر بعقدة ذنب نتيجة انحراف فئة منا خرجت علينا وأساءت إلينا, فنحن نرفض التعميم, ونقاوم التشويه, وندرك مغبة الإقصاء.. اننا لسنا في موقف دفاعي ـ ولن نكون ـ فنحن مختلفون عن الغير ولكن الآخر ليس أفضل منا, كما لا يوجد مبرر للمفاضلة بيننا, لأن الامكانات العقلية متماثلة والقدرات الفكرية متقاربة, ولكنها في اختلافات تتصل بمزاج الحضارة وشخصية الهوية وثقافة الأمة.
|