إنني أعلم منذ البداية أن الخوض فيما أعتزم التطرق إليه قد يصل إلي العقول ولكن لايرضي القلوب, وقد يكون سببا في انتقادات متسرعة أو تعليقات منفعلة إذ قد لايتفهم بعضنا حقيقة ماجري أو لايتصور بعضنا الآخر احتمالات الأوضاع الدولية الجديدة, ولكنني آثرت أن أمشي علي الشوك لأنني مقتنع بأننا محتاجون إلي فكر غير تقليدي في مواجهة ظروف دولية واقليمية غير مسبوقة علي الإطلاق تستوجب التحرك السياسي المؤثر والتكتيك المرحلي المناسب, وابدأ من حيث انتهي حواري مع بعض الشخصيات الفلسطينية ذات الصلة بجوهر القضية والتطورات الأخيرة في الأرض المحتلة, حيث كان ذلك الحوار نوعا من التفكير بصوت عال, فيه من الموضوعية أكثر مما فيه من العواطف, وفيه مساحة من الصدق تختفي أمامها الشعارات الملتهبة.
لابد أن أتوقف هنا عند مشهد ذكره أحد الأخوة الفلسطينيين القادمين من أتون المواجهة بين المقاومة الفلسطينية الباسلة وبين آلة الحرب الاسرائيلية الغاشمة, لقد ذكر لي أحدهم في ذلك اللقاء أن هناك غلاما لم يتعد الرابعة عشرة من عمره كان يسعي للحصول علي شرف تفجير نفسه شهيدا فوق تراب وطنه ليلحق بقافلة طويلة من الشهداء كانت آخرها سيدة فلسطينية اختارت الانتحار من أجل الوطن علي حياة لم يعد لها ثمن ولم تبق لها قيمة, وقد قررنا في ذلك اللقاء أن نسلك في حوارنا أسلوبا صريحا وواضحا من أجل التفكير في الخطوة القادمة بعد أن اثبتت الانتفاضة الفلسطينية بسالتها المنقطعة النظير ودفع الفلسطينيون واحدة من أغلي فواتير الدم بين حركات التحرر الوطني في عالمنا المعاصر, بالإضافة إلي بعد دولي لايمكن تجاهله أو الإقلال من تأثيره, فلقد انعكست آثار ملف الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد علي المقاومة الفلسطينية برغم اختلافهما الواضح فإن اسرائيل قد عمدت في الشهور الأخيرة إلي الخلط بينهما لتشويه صورة المقاومة أمام العالم, وأعترف- مادمنا قد قررنا الصدق مع النفس والصراحة في القول- بأنها قد نجحت في توظيف ذلك الخلط إلي حد بلغ برئيس أقوي دولة في العالم أن يعلن أن اسرائيل التي تسحق المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال هي في حالة دفاع عن النفس!, ومادمنا نبحث في الحصاد السياسي لانتفاضة شعبية ليس لها مثيل, فإنه يتعين أن نستعرض الوضع الحالي في الأرض الفلسطينية المحتلة للبحث في جدوي استمراره أو السعي إلي تغييره.
أولا: دوافع الاستمرار
(1) لقد بدأ العالم ينظر إلي الشعب الفلسطيني باحترام يزيد عن أية مرحلة في تاريخه, وقد لايمتزج هذا الاحترام بالحب أو التعاطف لدي بعض الدول ولكن المؤكد هو أن هناك قناعة قد استقرت في ضمير معظم شعوب العالم وأمم الأرض مؤداها أن هناك شعبا فلسطينيا لايمكن تجاهل وجوده أو إغفال حقوقه الوطنية, وهذه مسألة مهمة لأن القضية الفلسطينية بعد الانتفاضة قد أخذت شكلا مختلفا حلت فيه المهابة محل الشفقة خصوصا عندما ينظر العالم لصدور الأطفال وهي تواجه طلقات الرصاص المطاطي لجنود الاحتلال وعندما يلمح الإصرار علي وجوه الصغار من جيل المعاناة في شوارع مدن الضفة وغزة كما أن مشاهد توديع شهداء الانتفاضة مكشوفي الوجه في احتفال إنساني من نوع خاص لن تغيب هي الأخري عن ذاكرة العصر.
(2) إن اسرائيل قد بدأت تدرك أن التلازم بين مسألة الأمن وقضية السلام هو تلازم ارتباطي, إذ لايمكن تحقيق أمن المواطن الاسرائيلي بغير الوصول إلي تسوية سلمية عادلة تتحقق بها حالة من التعايش المشترك والقبول الطوعي المتبادل بين الطرفين, وهذه نقطة مهمة لأنها تتناقض مباشرة مع تفكير شارون الذي يتصور إمكانية تحقيق الأمن في غياب السلام!..
(3) لقد أثبتت الانتفاضة الفلسطينية أن ذلك الشعب يقاوم علي أرضه ولايمارس عمليات خارجها, ويكفي أن نقرر أن قوائم الاشتباه التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد قد جاءت خلوا من مواطنين فلسطينيين برغم محاولات وضع بعض الفصائل الفلسطينية في قائمة الاتهام عند توسيع دائرة الاشتباه, وهذه مسألة ذات مغزي لأنها تعني التفرقة الواضحة بين الكفاح الوطني المسلح وبين الإرهاب العشوائي.
ثانيا: أسباب التغيير
(1) لقد أثبتت الانتفاضة وجودها وبعثت برسالتها إلي العالم ولكن مردودها في الشهور الأخيرة أصبح سلبيا بصورة واضحة, فحجم التعاطف الدولي ينكمش والقوة الداعمة تقليديا للحق الفلسطيني بدأت تنصرف عنه, كما أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية يزداد تعنتا فالإدارة الأمريكية تواجه الأحداث الدامية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بقدر كبير من عدم الاهتمام لأن الحملة ضد الإرهاب هي شاغلها الأول, كما أن بعض أساليب المقاومة الفلسطينية تستدعي في العقل الأمريكي- للأسف- تشابها مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر لأن أسلوب التفجير الذاتي قد أصبح مرتبطا في الذهن الغربي وفقا لنظرية رد الفعل الشرطي بالأساليب الإرهابية بغض النظر عن الدوافع أو فهم الأسباب التي تصل بالإنسان إلي درجة رفض الحياة وتفضيل الموت إعلانا عن قضيته وتعبيرا عن مأساته.
(2) إن عنصر الزمن يوحي بتدهور الموقف الفلسطيني علي الأرض, وتزايد خسائره, وحصار مدنه, وعزل شعبه, بل والاتجاه نحو إنهاء قيادته التاريخية, مالم تقم بوظيفة جديدة في خدمة الأمن الاسرائيلي حتي ولو أدي ذلك إلي مواجهة بين الفصائل الفلسطينية تريد بها إسرائيل إشعال حرب أهلية يخسر بها الفلسطينيون كل ماحققوه وما يسعون إلي تحقيقه.
(3) لقد نجحت اسرائيل في استخدام التفجيرات الاستشهادية الفلسطينية لإحداث تداخل بين الكفاح الوطني والإرهاب الدولي, ويكفي أن نتذكر استخدام شارون لأحد تلك التفجيرات لتشويه صورة الفلسطينيين أمام الرأي العام الأمريكي خصوصا عندما كان في زيارة أخيرة لواشنطن, علي الرغم من أن الجميع يدرك في أعماقه أن العرب ليسوا بن لادن وتنظيمه, كما أن الإسلام ليس هو طالبان وحكمها, وهنا يجب أن نقرر أن الحملة الأمريكية ضد الإرهاب قد أصابت السياسة الخارجية الأمريكية بشئ من العمي والصمم فأصبحت لاتري ولاتستمع في هذه الظروف الاستثنائية ما كان يمكن أن تراه أو تستمع إليه في الظروف العادية, إذ أن تعقب فلول الإرهاب هو الهدف الرئيسي لكل تحركات واشنطن في الشهور الأخيرة, فضلا عن تعريفات جديدة لمحور الشر- علي حد التعبير الأمريكي- إشارة إلي العراق, وايران, وكوريا الشمالية وهذه كلها سحب كثيفة أصبحت تحجب الضوء عن النضال الباسل للشعب الفلسطيني.
... إذا كانت هذه في إيجاز إيجابيات استمرار الأوضاع في الأرض المحتلة وسلبيات دوامها, فإن الأمر يستلزم مراجعة أمينة للموقف لأن حركات التحرر الوطني قد مارست ذلك الحق عبر التاريخ كله ووقفت عند منعطفات معينة نظرت فيها أمامها والتفت وراءها من أجل تقويم الموقف, وتحديد حسابات الربح والخسارة, وتحويل حصيلة الكفاح الوطني إلي حصاد سياسي هو بالضرورة الهدف الأخير من المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي, ولقد ناقشت مع الأشقاء الفلسطينيين في لقائنا بكل شجاعة وصراحة ووضوح مستقبل ما يجري فوق الأرض الفلسطينية المحتلة, وقد اتسع صدرهم للرؤي المختلفة, واستقبلت عقولهم الأفكار الجديدة, لأن الشعوب الواعية هي التي تعرف في خضم النضال الوطني متي تغير أساليبها وتجدد برامج العمل السياسي لها خصوصا أننا الآن أمام خريطة دولية جديدة, ومعادلة اقليمية مختلفة فرضت علينا قدرا كبيرا من الخسارة ومارست ضدنا تأثيرا سلبيا لايد لنا فيه, كما أن رسالة الانتفاضة قد وصلت إلي الجميع بغير استثناء وأصبح ممكنا للشعب الذي مارسها في شجاعة باهرة أن يستأنفها في أي وقت وأن يعود إليها متي فرضت عليه ظروف دولية واقليمية أخري ذلك.
... دعونا الآن نتصور سيناريو العمل الوطني الفلسطيني علي الصعيد السياسي في المرحلة المقبلة عندما يعلن الرئيس عرفات القائد التاريخي المعترف به دوليا, وعربيا, ووطنيا- والذي أظن أن التفريط في زعامته خسارة للسلام, كما أن هذا التوقيت ليس هو وقت تغيير الجياد بينما العربة تواصل الطريق- أن المقاومة الفلسطينية قد أدت دورها بصورة غير مسبوقة بين حركات التحرر الوطني وأنه يتطلع إلي توظيف عائدها لخدمة الأهداف السياسية للشعب الفلسطيني, لذلك فإنه يبدأ مرحلة مختلفة من النضال السياسي الفاعل طلبا لموقف دولي حازم ضد الاحتلال مع دعوة مباشرة للإدارة الأمريكية لكي تضغط علي اسرائيل لإيقاف انتهاكاتها وعدوانها مع استعداده في هذه الحالة لإيقاف أعمال المقاومة مؤقتا تمهيدا لتطبيق توصيات ميتشيل, وتفاهمات تينيت بالإضافة إلي تأكيد توقف النشاط الاستعماري تمهيدا للدخول فورا في مفاوضات تستأنف بها الأطراف مسيرة التسوية السلمية من حيث توقفت في خريف عام2000 ولابد أن يتواكب ذلك مع خطاب إعلامي فلسطيني مختلف يقول للعالم إن الشعب الذي يستطيع أن يستشهد علي أرضه في أية لحظة هو الذي يبادر الآن بإيقاف العمليات من جانبه مع التزام كامل من
كافة الفصائل الفلسطينية بذلك أخذا في الاعتبار أن اسرائيل قد تواصل سياساتها العدوانية في محاولة متوقعة لاستثمار هدوء الجبهة الفلسطينية تحقيقا لمكاسب إضافية بغض النظر عن القيم والأعراف وقواعد القانون الدولي, وكلها أمور لم تحترمها اسرائيل دائما, ولكن المقاومة السياسية والعصيان المدني علي الأرض في إطار حملة إعلامية فلسطينية وجهد دبلوماسي عربي يقومان علي فكر جديد ورؤية بعيدة يمكن أن يقلبا المعادلة, وأن يغيرا الصورة, علي نحو يستجلب الدعم الدولي المفقود, والتعاطف العالمي الغائب, ولعلي أظن أن أوروبا سوف تكون في مقدمة الأصوات المرحبة بذلك التوجه الجديد خصوصا أن فرنسا قد طرحت أخيرا بعض الأفكار- التي اعترضت عليهاواشنطن- حول انتخابات فلسطينية لتأكيد مكانة القيادة الشرعية ورغبتها في السلام العادل بحيث يعقب ذلك إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد مع توقعات بتأييد دولي يتجسد في عملية اعتراف شبه جماعية بالدولة الجديدة لكي تبدأ المفاوضات بين الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية في اتجاه تسوية سلمية نهائية مع إعطاء الدولة الفلسطينية حقوقها المشروعة وأرضها المغتصبة وحقوقها الثابتة ومقدساتها التي لاتفريط فيها, كما أن هناك حاليا ـ إلي جانب الأفكار الفرنسية ـ تطويرا آخر لها يأتي من المانيا وهو يستبدل بالانتخابات عملية الاستفتاء الوطني العام للشعب الفلسطيني كمقدمة للمضي في المراحل التالية من إعلان الدولة.
... هذا تصور لسيناريو المستقبل القريب أمام المأزق الذي يواجهه الصراع العربي الاسرائيلي فوق الأرض المحتلة, ونحن نعلم سلفا أنه لن يعجب البعض, ولكن الأمر المؤكد هو أن كراهيتنا للسياسة الاسرائيلية لاتقل عن كراهيتهم لها وقد تزيد, ولكن صوت العقل يعلو لدينا علي صوت العاطفة وندرك أن الخريطة السياسية الجديدة تحتاج إلي منطق سياسي جديد ونؤمن بأن أساليب المقاومة لاتقف عند حد المواجهة علي الأرض وحدها ولكن لها وسائلها السياسية والإعلامية التي قد تحقق أحيانا ما يعجز العمل العسكري عن تحقيقه في هذه الظروف الاستثنائية دوليا واقليميا فإن العمل السياسي تكون له الأولوية علي المواجهة الساخنة علي الأرض, كما أننا نلفت النظر إلي أنه في غيبة التعريف المحدد للإرهاب قد اختلط الحابل بالنابل وأصبح كل عدوان علي المدنيين أقرب إلي المفهوم العام للإرهاب, إذ لا توجد تفرقة في ذلك- لدي العقل الغربي والرأي العام الدولي- بين صاحب قضية يدافع عنها وبين مغتصب يرفض التسليم بها, ويجب أن نعترف أن حالة من التعود علي مايجري كل يوم في الأرض المحتلة قد بدأت تصيب الشارع العربي هو الآخر فأصبح رد الفعل ضعيفا بل وغائبا, كما أن الرؤي أصبحت تختلف اختلاف الوان الطيف السياسي بدءا من التشدد النظري في جانب وصولا إلي دبلوماسية التوسل في جانب آخر.. إن الأمم العظيمة هي القادرة علي اتخاذ القرارات الصعبة, وتقديم المبادرات البناءة, وتغليب شجاعة القرار علي الاستطراد في قراءة ديوان الحماسة الذي تغني به العرب عبر القرون.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/2/12/WRIT1.HTM