في الثاني عشر من سبتمبر2001 ــ غداة الحادث الارهابي في واشنطن ونيويورك ــ كان يزور مصر وفد برلماني من إيران برئاسة السيد محتشمي, وهو وزير داخلية سابق وزعيم التيار الإصلاحي داخل البرلمان حاليا, كما أنه كان سفيرا لبلاده في سوريا في الثمانينات حتي إن كثيرا من المصادر تنسب إليه دورا في ميلاد حزب الله, وقد فقد أصابع يديه في انفجار طرد ملغوم وصل إليه منذ سنوات, وقد زارني ذلك المسئول الإيراني في مكتب لجنة العلاقات الخارجية بعد أن زار هو والوفد المرافق رئيس مجلس الشعب في صباح ذات اليوم, ولقد أدهشتني يومها تلك اللهجة شديدة الاعتدال التي كان يتحدث بها فقد بدأ الحوار بإدانة العملية الإرهابية التي كانت قد حدثت في اليوم السابق فقط.
وأضاف أن الرئيس خاتمي قد أصدر بيانا يعزي فيه الشعب الأمريكي باسم الشعب الإيراني, وبدت لي السياسة الإيرانية من خلال أحاديثه وهي تتجه صوب مرحلة أقل تشددا وأكثر مرونة بحيث تكتسب سمات واقعية في الداخل والخارج, ولقد أثبتت الأيام بعد ذلك صدق ذلك التصور إذ اتجهت إيران الي تحسين علاقتها شبه المقطوعة مع الولايات المتحدة الأمريكية حتي بدأت اتصالات تنسيق مباشرة بين طهران وواشنطن خصوصا فيما يتصل بترتيبات الإغاثة للشعب الأفغاني مع رضا إيراني صامت للتخلص من حكم طالبان التي كانت علي علاقة سيئة بطهران فضلا عن مطاردتها للشيعة الأفغان وإلغاء وجودهم السياسي تقريبا, وكنت أحسب أن الأمور سوف تمضي نحو مزيد من تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية علي اعتبار أن مشكلة الأرصدة الإيرانية المجمدة لدي الولايات المتحدة الأمريكية هي مسألة قابلة للتفاوض لأن الخلافات رقمية في تحديد قيمتها وليست مبدئية في الاعتراف بوجودها, كما أن إيران قد نهجت منذ الحادي عشر من سبتمبر2001 نهجا أكثر مرونة تختلف به عن العديد من طقوسها المتشددة دينيا وسياسيا للتأقلم مع الظروف والتداعيات التي خلفها ذلك الحدث الضخم, وقد كنت أظن أن الموقف الإيراني المعتدل من الحملة الأمريكية ضد الإرهاب سوف يسمح بمراجعة إيجابية للعلاقات بين طهران وواشنطن, إلي أن حدث تحول سلبي واضح في الأسابيع الأخيرة حيث بلغ قمته في الاتهامات الأمريكية الإسرائيلية لإيران بالضلوع في قصة سفينة الأسلحة التي كانت متجهة إلي الأرض الفلسطينية المحتلة, وقد كان ذلك التطور السلبي إضافة جديدة لتصريحات بدأت تطلقها واشنطن تنطوي علي اتهام لإيران بإيواء بعض عناصر تنظيم القاعدة من الذين هربوا بعيدا عن القصف الأمريكي للأراضي الأفغانية, وهنا تبدأ الملاحظة التي دفعتني إلي كتابة هذا المقال لكي أشير إلي أجندة إقليمية جديدة, فأنا أتصور منذ سنوات ــ وقد أكون مخطئا ــ أن إيران تمثل بالنسبة لإسرائيل هاجسا قويا له خصوصيته وخطورته, فالملف الإيراني يتصدر كثيرا من الملفات لدي من يخططون لمستقبل السياسة الإقليمية لإسرائيل في السنوات القادمة, ويحتل حزب الله أيضا مساحة كبيرة في هذا التصور, لا لأن ضرباته لإسرائيل كانت موجعة فقط ولكن لأنها تري فيه امتدادا للدولة الإيرانية علي حدودها, ونستطيع أن نرصد الأسباب التي تدعو إلي القلق الإسرائيلي من إيران ــ الثورة والدولة ــ في عدد من النقاط هي:
(1) إن إيران دولة شرق أوسطية ذات تأثير فاعل في سياسات المنطقة وهي تمتلك من المقومات ما يجعلها أكبر دولة غير عربية ذات موقف محدد من السياسة الإسرائيلية في العقدين الأخيرين, فضلا عن القيمة الاستراتيجية لإيران باعتبارها تمثل أهم التخوم الآسيوية للشرق الأوسط من الناحية الجيوبوليتيكية
(2) إن الثورة الإسلامية في إيران التي تفجرت في نهاية السبعينيات قد أحدثت تحولا هائلا في مواقف إيران المبدئية تجاه القضايا الرئيسية بحيث انتقلت العلاقة مع إسرائيل إلي النقيض تقريبا, فبينما كان الشاه علي صلات طيبة بالدولة العبرية وفتح لها قنصلية في بلاده ودعم إسرائيل بالنفط عند اللزوم فإن إيران الخوميني قد جاءت بموقف مختلف يتصف بالتشدد تجاه إسرائيل من منطلق إسلامي بالدرجة الأولي, فضلا عن أن إيران الثورة هي التي تقود إيران الدولة.
(3) إن وجود عدد من التيارات المختلفة علي الساحة السياسية الإيرانية قد أوجد نوعا من عدم الفهم واختلاط الأمور لدي من لا يعرفون إيران جيدا ويتناولون أخبارها من خلال طرف ثالث, كما أن الإعلام الغربي كان يكتب كثيرا عن إيران الثورة الإسلامية بغير فهم واضح أو تحليل عميق, ولا شك أن التيار المتشدد ــ الذي يبدو قويا حتي الآن ــ كان مبعث قلق إضافي لمن يتابعون الشأن الإيراني خصوصا وأنه يصدر عن طهران أحيانا إشارات مختلفة بل ومتناقضة إلا عندما يتصل الأمر بإسرائيل وسياساتها في المنطقة.
(4) إنني ممن يعتقدون أن البرنامج النووي الإيراني ــ بالإضافة إلي القنبلة النووية الباكستانية المسماة بالقنبلة النووية الإسلامية ــ يمثلان سببا رئيسيا في التخوف الإسرائيلي عموما وتجاه الملف الإيراني خصوصا علي امتداد السنوات الأخيرة, فهي تتصور أن حيازة السلاح النووي في يد القوة الإسلامية المتشددة يمثل خطرا داهما علي الدولة العبرية برغم أنها هي التي تمتلك ترسانة نووية تفوق بمراحل كبيرة تلك البرامج النووية لباكستان وإيران معا, كما أن إسرائيل ترفض حتي الآن الانضمام لاتفاقية منع الانتشار النووي ولا تقبل أي نوع من التفتيش الدولي علي منشآتها النووية.
(5) إن نظرة إسرائيل لمستقبل المنطقة تضع إيران الثورة في مقدمة العقبات التي تخشاها, ومازلت أذكر مناقشات مطولة ــ عندما كنت مندوبا لمصر لدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فينا ــ مع المندوب الإسرائيلي الذي كان يشير إلي المخاوف الإسرائيلية من الإمكانات النووية لإيران, ومازلت أذكر رده عندما سألته سؤالا افتراضيا لو أن التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي قد تمت فهل تتخلي إسرائيل عن سلاحها النووي كضمان لحسن النوايا وتأكيد للرغبة في التعايش الإقليمي المشترك؟, فكان رده التلقائي إننا لا نستطيع أن نفعل ذلك في هذه الحالة لأن الخطر الإيراني يظل قائما, فكنت أضيف إليه ساخرا وعندما لا يكون هناك خطر إيراني فإنكم سوف تتحدثون عن الخطر الباكستاني بعد ذلك!
.. ولا يقف الأمر عند هذه الحدود فالخريطة السياسية للشرق الأوسط تتعرض حاليا لتغيرات ملحوظة وتحولات تجاوزت أبعد التوقعات فكثير من القوي التي كانت معروفة بالتشدد أصبحت أميل إلي الاعتدال, كما أن التيارات الإسلامية قد بدأت تدخل في حالة كمون أقرب إلي البيات الشتوي منه إلي التوقف الكامل, إننا أمام أجندة إقليمية جديدة تغيرت فيها السياسات التقليدية لدول الشرق الأوسط بحيث اتجهت في معظمها إلي المواءمة مع الأوضاع الجديدة التي صنعتها تداعيات11 سبتمبر2001, ولعلنا نرصد في هذا المقام عددا من المتغيرات التي بدأت تتحول إلي جزء من شرق أوسط جديد:
أولا: إن إسرائيل ــ للأسف ــ تكاد تكون هي اللاعب الرئيسي علي المسرح باعتبارها مصدر الشغب السياسي بما تمارسه من انتهاكات تصل غالبا إلي تأكيد مفهوم إرهاب الدولة الذي بدأ يلتصق بها ويعبر عن ممارساتها في الشهور الأخيرة وليس يعني ذلك أن الشعب الفلسطيني كيان أصم بل إن العكس في ظني هو الصحيح إذ أن الشعب الفلسطيني لم يكن عبر تاريخه الطويل بهذه الصلابة وذلك التماسك اللذين نراهما الآن, ولكن الذي يعنينا في هذه النقطة بالذات هو أن نشير الي الآثار السلبية التي تركها الحادي عشر من سبتمبر2001 علي القضية الفلسطينية نتيجة مغالاة إسرائيل في توظيف نتائج تلك الكارثة لإحداث خلط ــ وأزعم أنها نجحت في ذلك إلي حد كبير ــ بين المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال الأجنبي وبين الإرهاب بمعناه العام ومفهومه غير المحدد, ولعلي أعترف هنا أيضا ومن قبيل النقد الذاتي أن عمليات التفجير الاستشهادية التي مارستها بعض الفصائل الفلسطينية قد أعطت إسرائيل مبررا أمام بعض الدوائر الغربية عموما والأمريكية خصوصا لكي تحدث ربطا بين الأساليب الإرهابية في جانب ووسائل المقاومة ضد الاحتلال في جانب آخر إلي الحد الذي أصبح معه الجاني في حالة دفاع عن النفس بينما هو يسحق ضحيته!
ثانيا: إن تركيا تتهافت علي الرضاء الأمريكي باعتبار أن ذلك يمثل أوراق اعتماد للانضمام للاتحاد الأوروبي الذي تحلم به إذ أنها تفضل أن تكون في مؤخرة أوروبا بدلا من أن تكون في مقدمة الشرق الأوسط, وقد حاولت تركيا استثمار الحادي عشر من سبتمبر2001 بغير حدود, حتي شاركت قوات عسكرية منها في العمليات الأرضية في أفغانستان, كما بدأت أطماعها في شمال العراق تتحرك من جديد تحت مظلة متابعة الملف الكردي علي الأرض, هذا فضلا عن أن قواعدها العسكرية ظلت دائما مفتوحة بغير حدود للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها علي اعتبار أن تركيا شريك أساسي في حلف الأطلنطي, ولست أنسي أن رئيس وزراء تركيا اجاويد قد خرج علينا علنا بتبرير مسبق لضربة أمريكية محتملة ضد العراق, أما العلاقات التركية الإسرئيلية فليست بحاجة الي إضافة جديدة.
ثالثا: يقف العراق أمام مفترق الطرق وتبدو الخيارات أمامه محدودة برغم أننا ندرك أن الملف العراقي يختلف عن ملف الإرهاب ولكن الذي حدث هو أن الملف الأخير قد ترك آثاره علي كل ما هو سواه, ففي ظل الجو الدولي الملتهب والاحتقان الواضح في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية يكون العراق مطالبا بقدر كبير من المرونة أمام القرارات الدولية بل والمطالب الأمريكية, ولعل ذلك يفسر ذلك التغيير الإيجابي في الخطاب العراقي الجديد خصوصا تجاه الكويت والسعودية ويصنع أرضية جديدة تمهد لنجاح مهمة الأمين العام لجامعة الدول العربية من أجل تنقية الأجواء قبل قمة بيروت في مارس2002.
رابعا: إن أشد ما يدعو الي القلق ويبرر احتمالات تغيير بنود الأجندة الشرق الأوسطية هو تلك الحملات شبه المنظمة التي يمارسها الإعلام الأمريكي وبعض الدوائر المرتبطة بجماعات الضغط اليهودية, وقد بدأت كلها تعزف علي نغمة ضرورة إصلاح النظم السياسية العربية بل والإسلامية باعتبارها أحد الأسباب التي أدت الي تفريخ الإرهاب نتيجة غياب الديمقراطية وتفشي الفساد وشيوع الفقر الناجم من عجز بعض النظم عن تحقيق ارتفاع مطلوب لمستوي معيشة شعوبها, ولعل خطورة هذا الطرح هو أنه يستبعد الآثار الخارجية كمصدر للبيئة التي ترعرعت فيها العناصر الإرهابية إذ أن غياب العدالة في العلاقات الدولية وازدواج المعايير في سياسات القوي العظمي والكبري إنما تزيد في تأثيرها المسبب للظاهرة الإرهابية عن العوامل الاستاتيكية المتصلة بطبيعة النظم السياسية وعيوبها وأخطائها.
خامسا: إن الخطاب النقدي الذي أدلي به ولي عهد المملكة العربية السعودية في قمة مسقط لدول مجلس التعاون الخليجي في نهاية عام2001 يمثل في يقيني نقطة تحول باهرة, لأن الأمير عبدالله أعلن بوضوح أن جزءا كبيرا من مسئولية ما حدث لنا يقع علي كاهلنا نحن بالدرجة الأولي وليس كله نتيجة لعوامل خارجية, وهذه في ظني رؤية عصرية موضوعية وعادلة تدعونا إلي إعادة ترتيب البيت العربي وتوسيع رقعة الديمقراطية والاهتمام بمساحة المشاركة السياسية مع مطاردة مستمرة للفساد وإنهاء لأساليب التفكير العشوائي والأخذ بمنهج واضح لتحديث النظم السياسية العربية.
... إننا ننظر إلي شرق أوسط مختلف تتشكل ملامحه حاليا في صمت, وتبدو المتغيرات الدولية سببا فاعلا في إعادة تشكيله, بل إنني أزيد علي ذلك أن مستقبل هذه المنطقة من العالم يكاد يتقرر في السنوات القليلة القادمة بفعل التغيرات الكبري التي جرت, والأحداث الجسام التي وقعت, والتطورات غير المسبوقة التي حدثت.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/1/29/WRIT1.HTM