تتعرض مصر لحملات موسمية تتصف ــ في ظني علي الأقل ــ بالمبالغة والتهويل, بل تتجاوز ذلك إلي الافتراء المتعمد والتوظيف السياسي الكامن, وإذا كان الحادي عشر من سبتمبر2001 قد أفرز نتائج بغير حدود وتداعيات لاتنتهي يقع في مقدمتها ذلك التراجع النسبي للحريات العامة في كثير من دول العالم وفي طليعتها الدولة ذات التأثير الأكبر في عصرنا وأعني بها الولايات المتحدة الأمريكية, وذلك يقودنا إلي عملية تأمل ومراجعة لمسألة الانتقادات التي توجهها دوائر, معينة في الغرب لنظم العالم الثالث وسياساتها خصوصا بعد أن قدم فكر العولمة مبررا للتدخل في الشئون الداخلية للدول قفزا علي مبدأ سيادتها الذي كان مستقرا في فقه القانون الدولي لعدة قرون مضت منذ ظهور الدولة القومية بملامحها المحددة بديلا للدولة الدينية بارتباطاتها المتداخلة, ولم تعدم تلك الدوائر وسيلة لإيجاد دوافع للتدخل ومبررات للقيام به والمظلة جاهزة تحتوي عشرات المبررات بدءا من رعاية حقوق الإنسان مرورا بشئون الأقليات وقضايا الحريات العامة وصولا إلي صيانة البيئة!.
ولقد أضاف لها عام2001 سببا جديدا يفوق في خطورته وغموض معناه كل ما سبق من أسباب ودوافع وأعني به مسألة مكافحة الإرهاب وسوف نكتشف في النهاية أن كل هذه البنود ــ قديمها وحديثها ـــ تبدو كالحق الذي يراد به باطل وتفتح الأبواب علي مصراعيها أمام عشرات التفسيرات والتأويلات وتسمح للأقوي بأن يدس أنفه في الشأن الداخلي لغيره حين يريد, ويتجاوز ذلك إلي ضربه أيضا إذا دعت الحاجة!, وقد جاء الوقت لكي نفكر مليا في أسلوب عصري لمواجهة هذا النمط الجديد من التعامل بين الغرب خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية في جانب وبين دول العالم النامي لاسيما من ينتمي منها للحضارة العربية الإسلامية في جانب آخر, فنحن متهمون بالخروج علي روح العصر وإثارة الشغب الدولي علي نحو أدي إلي تشويه الصورة وإلصاق كثير من الافتراءات بنا وهي التي يجب أن نعترف أننا مسئولون عن جزء منها نتيجة الممارسات التي قامت بها فئة ضالة تنتسب إلينا, ولقد حان الوقت الذي يجب أن نفتح فيه الملف بالكامل لأننا قصرنا كثيرا في الرد علي الدعاوي الظالمة ووقف خطابنا إلي الآخر عند حدود النصوص المكررة والأفكار المستهلكة ولم نتمكن من أن نكون شركاء حقيقيين في صياغة روح العصر وسياساته
, لذلك فإنني أتقدم في هذا المقال بفكرة محددة استوحيها من نوع من التفكير بصوت عال فيما نحن فيه وهي تدعو إلي إيجاد آلية وطنية تكون قادرة علي الرد علي الدعاوي الظالمة وتنفيذ الاتهامات المغرضة وتقديم الحقيقة بصورة موضوعية وعادلة, ولن يتحقق ذلك إلا بمناقشة عدد من الأفكار نطرحها علي النحو التالي:
أولا: دأبت أوساط حكومية وغير حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية, بالإضافة إلي عدد من المنظمات المتخصصة علي إصدار نشرات دورية حول قضايا حقوق الإنسان والاستطراد في الإشارة إلي انتهاكاته وتصنيف الدول إلي فئات وفقا لما تراه في هذا السياق, وواقع الأمر أن معظم هذه التقارير يحكمه الهوي إذ يجري إغماض العين عمن يريدون مهما تكن التجاوزات والتركيز علي من يطلبون التضييق عليه,
فالاعتبارات السياسية تحكم بشكل واضح مسألة حقوق الإنسان وتخضعها لسياسة ازدواج المعايير والكيل بأكثر من مكيال.
ثانيا: إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 قد أضافت بعدا جديدا للأمر كله, فالمقاييس سوف تختلف, والمعايير سوف تتفاوت, إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تخضع حاليا لعملية تغيير واضحة المعالم ولن تعود كما كانت, بلدا للحريات بغير حدود, أو مجتمعا ينطلق بغير ضوابط, بل إن البعض وصل في تشاؤمه إلي حد القول إن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلي أن تصبح دولة بوليسية تمارس الإجراءات القمعية والاعتقالات الفورية والمحاكم العسكرية وتتجه إلي توسيع دائرة الاشتباه في مواجهة أية جريمة مهما تكن عادية, لذلك يصبح من الطبيعي أن تتأثر معايير حقوق الإنسان الدولية وفقا للتحول السلوكي الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة.
ثالثا: إن المشكلة الأساسية تكمن في أسلوب مواجهتنا للمواقف التي تثيرها بعض تلك التقارير الدورية حول قضايا حقوق الإنسان والاقليات والحريات العامة ومعاملة السجناء خصوصا السياسيين منهم وإجراءات محاكمتهم عن جرائم تثبت في حقهم, ولعلنا لانزال نتذكر الأصداء الواسعة التي خلفتها محاكمة المفكر المصري سعد الدين ابراهيم عن مخالفات إدارية إبان رئاسته لإحدي المنظمات الأهلية, فضلا عن رد الفعل المبالغ فيه من جانب الغرب حول ماسمي بقضية الشواذ مؤخرا إلي حد أنها كانت بندا في المباحثات الثنائية علي مستوي وزراء الخارجية! كما أنني أضيف أن المساس باسم معروف في الأوساط الدولية مثل الدكتورة نوال السعداوي يقلب المائدة في ساعات قليلة ومازلت أتذكر أن اسمها كان هو التالي لاسم الأستاذ هيكل في برقيات الاحتجاج التي كانت تصل إلي السفارة المصرية في الهند ـــ حيث كنت أعمل ــ آخر خريف1981.
رابعا: إن النقد الخارجي الذي يستهدف سمعة نظامنا السياسي وحياتنا الاجتماعية لايقف عند هذا الحد فأمور قد لانعيرها درجة عالية من الاهتمام تترك انطباعا سلبيا علي صورتنا ولعلي أسوق لذلك مثالا من قضايا الحسبة, وتفريق الزوجين علي نمط قصة الدكتور نصر ابو زيد أو التضييق علي حريات النشر خصوصا في إطار الإبداع الفني مثلما حدث في زوبعة رواية وليمة أعشاب البحر, فواقع الأمر أن تلك الأمور تبعث برسائل مشوهة وتستقر في خلفية بعض الدوائر الأجنبية لفترات طويلة وللأسف أن معظمها له اتصال مؤثر مع دوائر صنع القرار وتوجيه بعض السياسات تجاه مصر.
خامسا: إن الأقباط جزء أصيل من نسيج الوطن المصري وكان دورهم ولايزال دورا فاعلا في تاريخ مصر العربية الإسلامية ولم يتوقف عطاؤهم القومي يوما, ويكفينا موقف الكنيسة القبطية حاليا تجاه القضية الفلسطينية كما أن الشأن القبطي قد احتل في السنوات الأخيرة المساحة التي يستحقها من الاهتمام حيث تحقق خلالها قدر كبير من المطالب المشروعة للأقباط باعتبارهم مواطنين مصريين, وبالرغم من كل ذلك فإن هذا الملف لايزال مستخدما علي نطاق غير محدود خصوصا في دول المهجر وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وليست أحداث الكشح ــ الأولي والثانية ـــ ببعيدة عن الأذهان بالرغم من أن الدولة المصرية وقفت علي المستوي الرسمي موقفا شريفا لا غبار عليه كما أن الأقباط يتمتعون دائما بنصيب من الثروة القومية يفوق ضعف نسبتهم العددية من مجموع سكان مصر.
إذا كانت هذه ملاحظات نسوقها للاستدلال علي طبيعة المطاعن التي يتعرض لها السلوك المصري في إطاره العصري, فإننا مطالبون أكثر من أي وقت مضي وفي ظل تصاعد أهمية قضايا حقوق الإنسان خصوصا مع زحام الحديث عن مسألة الإرهاب, فإن الأمر يقتضي النظر باهتمام فيما ذهبنا إليه من ضرورة إنشاء آلية مصرية تتولي الرد علي الدعاوي والافتراءات والمبالغات والتأويلات بل والشائعات لأن جزءا كبيرا مما يصل عنا لايعبر عن حقيقة مافينا, وقد كانت في مصر وزارة للهجرة إلي عهد قريب ولكني أظن أنها لم تكن تجربة ناجحة ولم تقدم نموذجا للتواصل بين الوطن وأبنائه في المهجر من جانب, أو تتولي الوقوف في مواجهة الحملات الموسمية ضده من جانب آخر, إن مصر كانت دائما هدفا للدعايات المغرضة نظرا لأنها البلد المركزي المحوري الذي تتصدر أخباره وسائل الإعلام وتحتل مشكلاته صدارة وكالات الأنباء, والأمر في رأيي يحتاج إلي نظرة موضوعية تنشأ منها مايمكن اعتباره مفوضية وطنية لحقوق الإنسان المصري تتولي ذاتيا مراجعة مايدور ومتابعة ما يحدث, والرد علي مايثار بشرط أن يكون لها من الاستقلالية ما يكفل لها الشفافية والموضوعية ويعطيها قدرها من المصداقية التي تخرس أفواه من
يتربصون ببلدنا الدوائر, وأتصور أن تكون تلك الآلية المقترحة شراكة متوازنة بين البرلمان المصري والجهاز الدبلوماسي للدولة وبعض مؤسسات المجتمع المدني مع همزة اتصال بوزارتي الداخلية والعدل ومرصد إعلامي محدد.
ولعل أهمية هذا الاقتراح أنه يسد فجوة نشعر بها كلما تكاثفت الحملة ضدنا أو ثارت بعض الوقائع الطارئة في بلدنا, فمثل هذه الآلية التي نطالب بها سوف تكون بمثابة مجموعة عمل أو
TaskForce
لمواجهة تلك المواقف التي تعرضنا لها كثيرا في السنوات الأخيرة فضلا عن أنها سوف تحقق في الوقت ذاته اهدافا خمسة هي:
(1) أن تسبق مصر المنطقة كلها بنموذج عصري يضيف إلي ريادتها التاريخية في ميادين الفكر والثقافة ريادة جديدة في مجال حقوق الإنسان تؤكد بها وسطية هذا الوطن واعتدال سياساته وتقدم لمن حولها صورة مضيئة من بلد تعود دائما أن يقدم النماذج المبهرة وأن يطلع علي أمنه بل والعالم كله بما يذكر بحضارته الخالدة ويتسق مع تاريخه الطويل.
(2) سوف يجهض تحقيق مثل هذا الاقتراح كل محاولات النيل من تماسكنا الاجتماعي ووحدتنا الوطنية ويعزز درجة الانسجام بين فئات الوطن وطوائفه ويشعر الجميع بأن هناك مرصدا وطنيا يحمي سياج المجتمع ويتصدي للحملات المشبوهة ضده.
(3) إن ازدهار قضايا حقوق الإنسان ورسوخ مبدأ سيادة القانون سوف يكون دعما تلقائيا للديمقراطية في مصر وإضافة إيجابية للمشاركة السياسية وتوسيع دائرة الاهتمام بالعمل العام ويجذب الأجيال الجديدة نحو القضايا الأساسية التي يدور حولها الجهد الوطني فضلا عن تعزيز المسئولية الرقابية للبرلمان, ووضع منهج محدد لسياسة إعلامية خارجية متطورة.
(4) ليس من شك في أن ظهور مثل تلك الآلية التي نقترحها سوف يكون ملاذا للمصريين في الخارج ــ مسلمين ومسيحيين.. ومركز جذب لكل أصحاب الدعاوي والشكاوي حيث تشكل تلك الآلية مصدرا للمعلومات الصحيحة التي تتسم بالمصداقية والشفافية والعدالة, كما سوف تتحول تلك الآلية أيضا لتصبح جسرا للتواصل بين الوطن وأبنائه في المهجر.
(5) إن تطور مفهوم حقوق الإنسان وسيادة القانون ورسوخ الديمقراطية سوف تكون في مجملها سبيكة عصرية تتصف بها مصر الحديثة إذا أردنا بصدق تحديثها, فليست هذه قضايا ترفيه ولكنها ضرورات العصر وأدواته, كما أنها محاور لحركة الأوطان في عالم يختلف يوما عن يوم ويحمل من التطورات ما يرقي إلي مستوي المفاجآت, وليس الحادي عشر من سبتمبر2001 ببعيد عن الذاكرة العالمية أو القومية.
هذه بعض المزايا التي يتعين السعي لتحقيقها لأن منطق التاريخ يؤكد حقيقة يزداد اليقين بها كل يوم وهي أن من لايغير الأمور ويطور الأوضاع سوف يأتيه التغيير قسرا ولو بعد حين, ولو بادرنا بالفعل لحرمنا غيرنا شهوة التدخل في شئوننا والعبث باستقرارنا, وعندئذ نكون قد بدأنا الخطوة السليمة في المسار الصحيح, وقطعنا الطريق علي أعداء هذا الوطن العريق.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/1/15/WRIT1.HTM