تثير ذكري ميلاد الانسان مشاعر متباينة وافكارا متلاحقة, فتستيقظ لديه العقد المزمنة وتصحو الانفعالات الكامنة, ويبدو وكأنه يقف امام قاضيه الطبيعي, ذلك الضمير الذي يلازمه, والعقل الذي يصاحبه, والوجدان الذي ينطلق منه, ولقد كتبت منذ عامين في هذا المكان مقالا بعنوان اعترافات ذاتية قمت فيه بعملية تعرية للذات وإعادة اكتشاف للنفس, في محاولة للحاق بكل اجتهادات الصدق الحقيقي والنقد البناء والمراجعة الأمينة, وتعرضت في وضوح للمركبات المعقدة في الاغوار السحيقة القابعة في اللاوعي, وبينما كنت أسعي إلي ترسيخ تقليد متألق في أدب التراجم اشير منه تحديدا الي المفكر المصري الراحل لويس عوض عندما اصدر كتابه اوراق العمر( سنوات التكوين) فقد أشرت صراحة الي القلق والخوف, والي الانتصار والانكسار, والي النجاح والفشل, وقد صادف ذلك المقال تقديرا لدي جمهرة القراء ممن تعنيهم الأمانة الغائبة والصدق المفقود.
وفي العام الماضي في هذه المناسبة ايضا كتبت مقالا بعنوان اعترافات سياسية عبرت فيه عن مشاعر الاحباط التي تحيط بهذه المنطقة من العالم وانتكاس مسيرة السلام وشيوع التوتر واحتمالات الانفجار, وها أنا أعود مرة ثانية الي الذات افتش في أعماقها وابحث في اغوارها لاكتشف أين يقع الدين في الخريطة العقلية للانسان والوجدان الدفين للبشر, خصوصا واننا علي اعتاب مواجهة مصطنعة بين الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية المسيحية تكاد تعيدنا الي فكر العصور الوسطي حيث شاعت محاولات تقسيم البشر وفقا لدياناتهم وتصنيف الناس حسب افكارهم وطفت علي السطح أفكار الزندقة والتكفير والمروق والتعصب الاعمي بديلا للتسامح والتواصل الانساني والتكافل البشري, وقصتي مع الدين طويلة وعميقة في الوقت ذاته, فلقد عرفت الدنيا عندما كان كل فرد في المجتمع الصغير الذي انتمي اليه يستهل تعليمه بحفظ القرآن الكريم الذي يصقل اللغة ويفتح الطريق امام التدين الصحيح وظللت لسنوات عشر بدءا من سن الثامنة اؤدي الصلوات في أوقاتها وأغشي المساجد بانتظام لايمنعني عن ذلك قيظ صيف أو برد شتاء إلي أن التحقت بجامعة القاهرة وتفتحت أفكاري علي الجانب الآخر من العالم واستهوتني
كتابات غربية تقف موقفا حذرا من الدين والقومية معا وكانت الظروف في مصر الستينيات تتحدث عن الاشتراكية وتضع الدين في وضع محايد نسبيا في إطار مقومات الوحدة العربية واعترف أنني توقفت عندئذ لسنوات عن الصلاة وارتدت مجالس الفكر والفلسفة وأصابتني هزة عميقة في المعتقد والرؤية معا, ومازلت أتذكر أنه يوم أن رحل المفكر الكبير عباس محمود العقاد عن عالمنا كتبت حوارا تحت عنوان لقاء في السماء أتحدث فيه عن مساءلة العقاد أمام خالقه في محاكمة فكرية جريئة لا تخلو من نبرة رفض ولا تبرأ من روح تمرد, وظل الأمر بي كذلك لسنوات عدة أصابني فيها هاجس الوهم وتمكن بي القلق من المشكلات التي تتعرض لها الوحدة الوطنية المصرية أحيانا واكتشفت أن كل طرف لا يعلم عن الآخر قدرا كافيا من المعرفة وأن الوهم السائد هو الذي يصنع الهوة, كما أن النظام التعليمي يتحمل قدرا من المسئولية في ذلك, ومازلت أذكر في طفولتي عندما كنت أسير وحيدا ذات مساء في مدينة دمنهور وقابلت قسيسا مهيبا يمضي علي الجانب الآخر من رصيف الشارع فأصابتني مشاعر الخوف بسبب التربية القائمة علي أحادية النظرة وجمود الفكرة وظلت تلك الصورة قابعة في خلفية عقلي إلي أن استيقظت فجأة عندما كنت أختار موضوع دراسة الدكتوراه في جامعة لندن منذ ثلاثين عاما ورأيت وقتها أن تدور الأطروحة حول موضوع الأقباط في السياسة المصرية مع دراسة تطبيقية علي( مكرم عبيد) زعيم حزب الأغلبية, ومضت بي رحلة العمر وهي ترسخ الإسلام في أعماقي استسلم إلي تأثيره بقوة أمام المحن ويزداد وجوده لدي في مواجهة المخاوف خصوصا وأن المصري عابد بطبعه, مؤمن بفطرته بل إن مؤرخي الحضارات يرددون مقولة تاريخية تتحدث عن الدين باعتباره اختراعا مصريا يسبق وحي السماء بآلاف السنين ولولا أن الموت نهاية لكل حي وحقيقة مطلقة ما آمن الناس بالأديان ولا تبعوا قيمها السامية. وإذا كان الإيمان شعور غيبي فإن التدين سلوك واع يلزم صاحبه بطقوس الدين احتراما لجوهره, فالأب حين يأخذ ابنه إلي المسجد يوم الجمعة أو إلي الكنيسة يوم الأحد فإنه يضع الإطار العام لسلوك الصغير ويؤصل لديه تقاليد ثقافية وروحية تلازمه طوال حياته, فقد كان أبي رحمه الله يأخذني دائما إلي مجالس تلاوة القرآن الكريم خصوصا في شهر رمضان لأنه كان يطرب للصوت الجميل والترتيل العذب لكوكبة من قارئي القرآن الكريم الذين أنجبتهم مصر ولازلت حتي اليوم أضع في سيارتي تسجيلات قرآنية عديدة وأميز أصوات القراء القدامي والمحدثين نتيجة تراكم الإحساس المبكر بالخشوع الذي تصنعه التلاوة الجيدة في الآذان والقلوب معا. إنني أتذكر ذلك الآن لكي أقول إن الدين ليس جانبا روحيا فقط ولكنه أيضا وجود ثقافي ومؤثر وجداني يحدد ملامح الشخصية ويضيف إليها ولا ينتقص منها بل إن المؤمن أكثر ارتياحا من ذلك الذي لا إيمان له لأن المؤمن يستطيع تفسير ما
يصيبه من خير ومن شر في إطار معتقداته بينما تصيب الحيرة والتوتر ذلك الذي لا يملك رصيدا روحيا يعتمد عليه وينطلق منه, والاديان السماوية تشترك ــ وربما ايضا الديانات الارضية التي لا تستلهم وحي السماء ــ في أنها تدعو إلي الفضيلة وتقاوم الغواية وتتجه بالإنسان إلي الأفضل مهما اختلفت الطقوس وتباينت الشعائر, فالصوم بكل انواعه يكاد يكون قاسما مشتركا بين أصحاب الديانات كلها وهو تدريب ذاتي لا ينكر قيمته من مر بتجربته, ــ بل إنني أزيد علي ذلك واقول إنني اشعر أحيانا بتشابه نمط الشخصية
Stereotype
بين رجال الدين مع اختلاف عقائدهم والسبب في ذلك أن الارتباط بالنظرة الي العالم الآخر تعطي لأهل الدنيا سمات مختلفة وخصائص أكثر هدوءا وأقل اندفاعا واشد توازنا إنني عندما اتحدث مع قداسة البابا شنودة الثالث ــ الذي يتزامن يوم جلوسه علي الكرسي البابوي مع عيد ميلادي وكل من نهرو وطه حسين والملك حسين والامير تشارلز ــ أشعر بألفة زائدة وكأنه أحد أقاربي الكبار.. إنه نفس الشعور الذي يخالطني كلما جلست إلي داعية إسلامي مستنير ومازلت اذكر الراحل الشيخ الدكتور عبد الجليل شلبي الذي كان أمينا لمجمع البحوث الإسلامية بلندن عند مطلع السبعينيات عندما اسلم علي يديه عدد من الشباب البريطاني حبا في دينه وإعجابا بسماحته وعظيم خلقه, فالزخم الروحي يكون واضحا لدي رجل الدين الصالح والسلام مع النفس يبدو في كل تجليات الشخصية وتصرفاتها, إنني أقول ذلك وصخب الاحداث الدولية يصم الآذان وضجيج الانفعال الدولي يكاد يهدد الجميع باهوال مقبلة ومتاعب بغير حدود يزدهر فيه التعصب, ويشتد معها التطرف, ويستمر بها الإرهاب, ولعلي أوضح الامر ليكون اكثر جلاء وشفافية من خلال النقاط التالية:
أولا: إن لكل إنسان مشروعا شخصيا يعتمد علي أجندة ذاتية تشمل عددا من البنود التي ترتبط بطموحات الفرد وأحلامه وأمانيه تظل قابعة في وجدانه, دفينة في أعماقه لا تظهر علي السطح إلا أمام لحظات النجاح العابر أو فترات الاحباط الطارئ, ويبدأ الإنسان رحلة الحياة منذ صدر شبابه مليئا بالآمال محملا بالطموحات, وكلما تقدمت خطواته في رحلة العمر انتقل من مرحلة الاحلام الزاهية الي الحقائق الرمادية بكل ما فيها من واقع مرير احيانا وتجارب قاسية احيانا اخري, وعندئذ يتعين عليه في كل مرحلة أن يوائم بين ما هو مطلوب وبين ماهو ممكن وبين ما يتطلع اليه, وما هو متاح له, فطالب كلية الحقوق قد يحلم في السنة الاولي أن يكون وزيرا للعدل ويأمل في السنة الثانية أن يكون نائبا عاما ويتطلع في السنة الثالثة أن يكون محاميا شهيرا ثم تحدد أحلامه عند السنة الرابعة في التخرج بدرجة تسمح له بالعمل في النيابة العامة, وهذا نموذج للمسيرة المتوازية بين الإنسان واماله, والفرد وطموحاته.. حيث يمضي الدين حارسا لتلك المسيرة في كل الظروف.
ثانيا: إن رحلة الإيمان من الشك الي اليقين يجب ألا ترتبط ابدا بمتغيرات الحياة وتطورات العلم لأنها تنطلق من سياق منفصل يقوم علي الإيمان الغيبي الذي لا يخضع لمنطق احيانا ويعوزه البرهان الدنيوي أحيانا أخري, فقصة الإسراء والمعراج ــ علي سبيل المثال ــ صعبة التناول عقليا لأننا نفكر فيها بمنطق الحياة المجرد الذي يحكمنا بينما هي بالمقاييس الروحية الأخري معجزة خارقة صنعتها القوة الخالقة لتكريم اخر الانبياء وحامل كلمة الله الي البشر في كل زمان ومكان لذلك فإن الذين سقطوا في بؤرة الشك لفترات في حياتهم ــ وأعترف أنني كنت واحدا منهم ــ إنما حدث لهم ذلك لأنهم كانوا يقيسون أبعاد الإيمان وجوهره بحقائق الحياة الملموسة ووقائع العلوم المدروسة وكلاهما لا ينهض الي مستوي قوة الروح وتجليات العقيدة.
ثالثا: إن الضعف الإنساني القائم علي أن للفرد عمرا موقوتا يبدأ بلحظة ميلاد يتساوي عندها الجميع ولحظة موت يتساوي عندها الجميع ايضا إن ذلك الضعف هو الذي يؤدي إلي الإيمان المطلق بالقوة العظمي التي خلقت الكون منذ لحظة الانفجار الهائل التي صنعت بدايته حتي يأتي يوم يرث الله الارض ومن عليها, وهو ايضا الذي وضع الإطار العام للحياة باعتبارها في أبسط معانيها هي حلف الأحياء فالناس يبكون عند رحيل عزيز ولكنهم يرددون في اللحظة نفسها( إن الحي أبقي من الميت) وهنا تبرز أهمية الدين في حياتنا لتفسير ما جري وما يجري وتحديد رؤية شاملة للإنسان تجاه الكون وقضية النشوء ومسألة النهاية, ولقد صرفت جزءا من حياتي في تأمل ما كان يجب ان أعترف به بدون تفكير, وبحث ما كان ينبغي أن اقبله دون تمحيص.
رابعا: اعترف في هذه المناسبة بأنه قد حكمتني في الطفولة مشاعر دفينة من الخوف والقلق تجاه اصحاب الديانات الاخري نجم جزء كبير منها عن الثقافة الاحادية ونقص المعلومات لدي أصحاب كل دين تجاه اتباع الدين الاخر علي نحو يخلق ضبابية في الشعور وهواجس في النفوس, وما زلت أذكر أن حصة الدين في المدرسة الابتدائية كانت تمثل بالنسبة لي تساؤلا كبيرا عندما يخرج زملائي المسيحيون إلي فصل آخر ليدرسوا دينهم, ولم يكن عقلي الصغير وقتها متقبلا للاختلاف عن زميل كان يلهو معي منذ دقائق في فناء المدرسة تظللنا براءة الطفولة وشفافية الصغار, بل إنني مازلت اذكر واقعة اثناء حصة الدين وأنا في
أولي مراحل التعليم عام1956 عندما خرج التلاميذ المسيحيون من الفصل وبقي المسلمون فقط إلي أن قام تلميذ مصري صغير يقول للمعلم إنني لست مسلما فسأله لماذا لم تلحق بزملائك المسيحيين إلي حصة دينهم؟ فأجاب لأنني يهودي وكان اسمه ـ علي ما أذكر ـ رحمين ابراهيم رحمين, لقد كانت تلك فترة رائعة من تاريخ مصر العريقة حين كانت تحتضن أبناءها مسلمين ومسيحيين ويهودا بغض النظر عن الديانات ودون اعتبار للمعتقدات, ولا أظن أن مصر سوف ترتد عن تلك الروح الرائعة التي بدأت تستعيدها من جديد.
خامسا: إن عالمنا المعاصر الذي تحاصره منذ الحادي عشر من سبتمبر2001 مخاوف ضخمة وحساسيات شديدة بدأت تستدعي ذكريات دفينة تشير بأصابع الاتهام إلي الاسلام الحنيف في محاولة ظالمة لوصم ذلك الدين الحضارة الذي يعتبر أثري الشرائع وأكثرها تدخلا في حياة الانسان منذ ميلاده حتي وفاته مرورا بزواجه وميراثه ومنظومة القيم لديه والتقاليد الفكرية التي تحكم مجتمعه, إن هذه الظروف الحالية تستوجب منا العودة إلي الأصول والبحث في الجذور لتأكيد روح التسامح والتآخي والتشديد علي مجموعة القيم المشتركة ورفض كل محاولات تقسيم البشر وازدراء الآخر ونفي الغير فنحن مع وحدة الجنس البشري حتي ولو كانت في ظل العولمة بما لها وما عليها, ولكننا ضد محاولات التصنيف والاقصاء خصوصا لو جاء ذلك تحت مظلة ما يطلق عليه الغرب صراع الحضارات في محاولة خبيثة لخلق الاعداء واصطناع المواجهات.
هذه بعض من الرؤي التي تسيطر علي في هذه المرحلة وتعاودني حينا فحينا, تثير في أعماقي قدرا من المخاوف التي لازمتني طوال عمري والهواجس التي ارتبطت بمسيرة حياتي حيث عشت دائما في حوار مستمر مع الذات, أقبل وأرفض, أتحمس واهدأ, لا أسعد كثيرا بالخبر السار كما لا استسلم للهزيمة في لحظة الانتكاس, فلقد جعلت العقل هو صاحب القرار الأخير إلا عندما يتصل الأمر بالدين والعقيدة فالوجدان هو المسيطر عندئذ, وثقافة الطفولة تطفو علي السطح تلقائيا, فإذا اهتزت الطائرة في الجو قرأت ما تيسر مما أحفظ من القرآن الكريم, وإذا اشتد بي الكرب استعنت بالقوة الخالقة المجسدة في الاله الرحمن الرحيم, وإذا ما ضاق شيء في صدري وانحسرت مساحة الحرية أمامي هاجرت الزمان كله في رحلة ذهنية تعيد الصفاء إلي الروح والهدوء الي النفس, وها هي العواصف والأنواء تكاد تعيد عالمنا إلي عصور الانحطاط الفكري لكي نحصد ثمار التعصب الذي كنا نفترض أننا قد اقتلعنا جذوره منذ قرون سحيقة ودفناه في تربة الماضي البعيد, ولكن يبقي الأمل في حكمة العقلاء ورؤية أصحاب المعرفة وعودة الوعي للانسان الرشيد خليفة الله في الأرض الذي يستطيع أن يقاوم نوازع الشر ودوافع العدوان وأسباب الخلل الذي أدي إلي ظهور الارهاب بكل ما يحمله من معان مظلمة وأفكار سوداء فيها من ترويع الآمنين وقتل الأبرياء ما فيها من قهر وعشوائية, فالذين يتساقطون كل يوم فوق الأرض المحتلة في فلسطين ومئات الأبرياء في جبال أفغانستان وسهولها ممن اجتمعت عليهم كل عوامل البؤس والشقاء بدءا من الخوف القائم والفقر الدائم والصقيع القادم, إنهم جميعا ضحايا بغير ذنب فليست كل أفغانستان هي بن لادن أو طالبان فالأطفال البؤساء لايجب أن يسددوا فاتورة الارهاب الذي أودي بحياة آلاف أخرين من الأبرياء أيضا في حادثي واشنطن ونيويورك, فالانسان هو الانسان في كل زمان ومكان, قيمته واحدة ورسالته مشتركة, ونهايته لاتختلف, تلك هي خواطر عيد الميلاد أرددها وأنا أتذكر دائما أن الانسان مهما زاد جبروته لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/11/6/WRIT1.HTM