إن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين قد زحفت من مجرد تأثيرها في القضايا الدولية والمشكلات العالمية لكي تصل الي الأفكار الكبري والتيارات الضخمة فظهرت هذه السياسية المزدوجة التي يمارسها الفكر الغربي ولاأقول السياسة الغربية وحدها فوجدنا أن الذين تحدثوا عن العولمة أوالكوكبية وروجوا لها وصفقوا لبنودها السياسة بما فيها المفهوم الجديد للتدخل الانساني تحت مظلة الشرعية الدولية حتي ولو كان ذلك خرقا لمبدأ سيادة الدولة الذي كان بمثابة قدس الأقداس لعدة قرون منذ ميلاد الدولة القومية وكذلك جوانبها الاقتصادية بما فيها من حرية التجارة وانتقال السلع ورءوس الأموال وانسياب الأفكار والخدمات مع تحفظ وحيد يتصل بحرية انتقال الأفراد وهو تعبير آخر عن ازدواج المعايير حتي داخل التيار الفكري الواحد, انهم أيضا الذين روجوا لفكر العولمة بجناحها الثقافي الذي يتحدث عن الانفتاح بين كل التيارات والتواصل بين الأفكار والحضارات.
والغريب في الأمر أن الفكر السياسي الغربي الذي أفرز ذلك المفهوم الجديد للعولمة حتي رأي فيه البعض عودة للظاهرة الاستعمارية من الباب الخلفي هو نفسه الفكر السياسي الغربي الذي تحدث عن صراع الحضارات ويكاد اليوم ينقله من اطاره الفكري الي أن يصبح سياسة شبه معتمدة وهو أمر يدعو الي القلق الحقيقي علي مستقبل السلام الدولي والاستقرار العالمي وهنا يظهر التناقض الحقيقي بين فلسفة التيارين حيث يتبني أحدهما درجة عالية من الانفتاح والتواصل بينما يتبني الآخر درجة عليا من درجات المواجهة والصدام الذي يصل الي حد التعميم الأحمق والتصنيف الذي لايستند الي خلفية مقبولة انسانيا وأخلاقيا.
انني أطرح هذا التساؤل بمناسبة التداعيات التي أعقبت حادث الحاد ي عشر من سبتمبر2001 فلم يعد الانتقاد موجها لسياسة المعايير المزدوجة علي الصعيد السياسي وحده ولكنه تجاوز ذلك الي الصعيد الحضاري حتي أصبحنا أمام فكر العصور الوسطي مرة ثانية فمن ذا الذي كان يتصور أننا سوف نردد كلمات من قاموس تلك العصور السحيقة يشير بعضها الي صليبية المواجهة أو يقارن مقارنة تفضيلية بين الحضارات التي ترتكز علي بعض الديانات وهي أمور شديدة الحساسية بالغة التعقيد؟ اذ إنه يمكن أن نتحدث عن المقارنة بين الحضارات من منطلق الاختلاف ولكنه لايجوز أبدا أن نتحدث عنها من منطلق التفضيل ولعلي أطرح الأفكار التي أريد أن أناقشها في هذا المقال من خلال النقاط التالية:
أولا: ان حادث الحادي عشر من سبتمبر2001 وتداعياته المتلاحقة تشير بقوة الي ميلاد عالم جديد قد يحمل من التشوهات والمخاوف أكثر بكثير مما يحمل من أطروحات ومباديء, اننا أمام ظواهر غير مسبوقة وحرب كونية غير محدودة وتطويع للأفكار حتي تكون في خدمة المصالح والسياسات بغض النظر عن الحسابات العلوية للتوازن الدولي وسلامة العلاقات بين الأمم والشعوب, ان العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر2001 يختلف عنه قبل ذلك التاريخ بل انني أزعم وأرجو ألا أكون مشتطا ـ في توقعي بأن الحادث الارهابي الذي تعرضت له مدينتا نيويورك وواشنطن هو علامة فارقة توحي بميلاد النظام العالمي الجديد بكل ماله وماعليه.
ثانيا: ان أخطر مانواجهه كأبناء للحضارة العربية ـ مسلمين ومسيحيين ـ هو ذلك التقسيم الذي بدأ ينعكس علي أسلوب التعامل في المطارات الدولية والمدن الغربية حتي إن بعض شركات الطيران التجارية من الصين قد أعلنت عن عملية فصل عنصري تستبعد فيه عرب الشرق الأوسط من استخدام طائراتها وهو أمر يدعو الي الأسف والقلق معا حتي ولو كانت تلك الشركات الصينية شركات أهلية لاتعبر عن الصين الرسمية, كما أنني لاأنسي ذلك المشهد الذي رأيته علي شاشةCNN منذ أسابيع لمجموعة من السيخ وهي طائفة هندية تتركز في اقليم البنجاب حيث عبر بعض المهاجرين منهم الي الولايات المتحدة الأمريكية عن ضيقهم من التداخل بينهم وبين العرب خصوصا والمسلمين عموما والخلط الذي يواجهه أبناؤهم في المدارس من جراء ذلك وكأن هذه اشارة علنية واعتراف ضمني بعنصرية جديدة ضد حضارة معينة وثقافة بذاتها وهنا تكمن الخطورة وتنطلق المخاوف.
ثالثا: ان مايتردد علي الساحة الدولية عن الارهاب كظاهرة عالمية يأتي في سياق العولمة ذاتها يجب ألا يكون تحت مظلة صدام الحضارات, فالارهاب ابن شرعي للمسافة الواسعة بين الغني والفقر وبين العدل والظلم وبين تفاوت مستويات القوة وهو نتيجة لانعدام التكافؤ بين عناصر المعادلة الدولية, فاذا كان فكر العولمة يتجه لاحداث نوع من تطبيق نظرية الأواني المستطرقة بين الدول نتيجة الانسياب التلقائي لما هو متاح لدي طرف معين ليصل الي الطرف الآخر, اذا كان الأمر كذلك فانه يتعين علي القوي العظمي وحلفائها مواجهة الارهاب في اطار فكر العولمة وليس فلسفة صراع الحضارات وهذا يعني بالضرورة أن المواجهة يجب ألا تؤخذ بمنطق الحرب الدينية ولكن بمفهوم الكوكبية بما تحمله من مضمون التواصل وروح الاندماج وتبادل الأفكار والخدمات علي نطاق غير مسبوق.
رابعا: انني أعترف بأن هذا التوقيت ليس هو وقت الانتقاد الشديد للولايات المتحدة الأمريكية ولكنني أزعم أيضا أنه من أنسب الأوقات لمراجعة المواقف والاستراتيجيات ويكون من الطبيعي أن يتخذ أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية دور من يراجع معها مامضي من أجل تفسير أسباب التعبئة الجماهيرية ضد بنود تلك السياسة الأمريكية في بعض مناطق العالم خصوصا ما اتصل منها بسياسة المعايير المزدوجة وعلي سبيل المثال فان الولايات المتحدة الأمريكية ومعها معظم الحكومات الغربية كانت تنظر الي الممارسات الارهابية في بعض دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا نظرة المتفرج من بعيد وعندما كانت دول المنطقة وفي مقدمتها مصر تدعو منذ خمسة عشر عاما الي مؤتمر دولي لمواجهة الارهاب لم تكن هناك استجابة تذكر, وعندما كانت تطلب مصر وغيرها توقف الدول الأوروبية وفي مقدمتها المملكة المتحدة عن ايواء العناصر الهاربة من فلول الارهاب كانت الاجابة دائما أن تلك العناصر هي جزء من معارضة سياسية لم تجد لها نافذة تطل منها داخل بلادها فأصبح من حقها أن تطلب اللجوء لدي غيرها, مع حديث متكرر عن تجاوزات لحقوق الانسان في الدول التي تكافح الارهاب وأصبحت تلك الدول بالتالي ومنها مصر في موقف شديد الصعوبة فهي ان تركت الحبل علي الغارب فزع العالم من أعمال الارهاب الذي يستهدف الأجانب بالدرجة الأولي واذا مااتخذت اجراءات متشددة لحماية أرضها وشعبها من ذلك الخطر الداهم انطلقت أصوات أمريكية وأوروبية تتحدث عن حقوق الانسان الغائبة وانتهاكات الحريات المفقودة.
خامسا: أنه لايجب ألا يغيب عن الذهن أن صورة العرب والمسلمين قد استقرت علي أسس غير عادلة لدي العقل الغربي فهو لايفرق بين أولئك الذين يعيشون العصر ويتفاعلون مع العالم وبين حفنة قليلة من الخوارج عن المجتمع آثرت الهجرة الزمنية والخروج من دائرة العصر وتكفير العالم القائم والاتجاه الي عصور سلفية يعيشون فيها ويتأثرون بها ويتعاملون مع الآخر انطلاقا منها وهذا في ظني خطيئة حقيقية اذ لايمكن أن يكون التعميم هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع الظواهر بحيث تضرب شعوب كاملة من أجل خطأ حاكم أو تعاقب أمم بسبب جريمة أفراد.
سادسا: ان الولايات المتحدة الأمريكية تدخل يوما بعد يوم في دائرة جديدة فيها من المخاوف والعزلة النفسية مالا نريده فالدولة القائد اذا تصرفت تحت تأثير القلق فان العالم كله يتأثر وعلي سبيل المثال فان الذعر من الهجمات الجرثومية والعمليات الارهابية قد بدأ يؤدي الي تغيير الشخصية الأمريكية والانتقال بها من دائرة الانفتاح المعهود الي دائرة مغلقة تقوم علي اجراءات أمنية صارمة في المطارات والمؤسسات بل والشوارع وهذا الصدام الجديد في العقل الأمريكي بين المفهوم التقليدي للحرية في جانب والقيود الجديدة ضد الحريات العامة من جانب آخر سوف يمثل في رأيي المعادلة الصعبة والمعضلة الحقيقية أمام الشعب الأمريكي فـأسلوب الحياة هناك سوف يتغير ونمط التفكير قد بدأ بالفعل يتحول واذا تغيرت الولايات المتحدة الأمريكية فان أشياء كثيرة في عالمنا المعاصر سوف تتغير هي الأخري.
سابعا: انني أظن ـ وأرجو أن لاأكون سابقا للحوادث ـ أن العلاقات الأوربية ـ الأمريكية ليست كما نراها علي السطح وأدعي أن هناك أصواتا أوربية كثيرة قد بدأت تردد الأفكار العاقلة والرؤي الصائبة بل وتكرر عبارات مستمدة من جوهر الموقف المصري ذاته وتتحمس لضرورة دفع التسوية السلمية للصراع العربي ـ الاسرائيلي والحل العادل للقضية الفلسطينية ويكفي أن نتذكر هنا أنه باستثناء المملكة المتحدة فان المواقف الأوروبية الأخري تتفاوت في أساليب دعمها للموقف الأمريكي فالكل يقف مع واشنطن ضد الارهاب ولكن تختلف التفسيرات لأسبابه وتتباين الاجتهادات حول أفضل الوسائل للقضاء عليه, ولست أظن أن هناك تصدعا في الجبهة الغربية ولاأحسب أن ذلك ممكن ولكنني أري أن أوروبا تقف من الاسلام وحضارته والعروبة وشعوبها موقفا أكثر تفهما بمنطق الجوار الجغرافي والتفاعل التاريخي.
هذه رؤيتنا لعدد من الملاحظات حول ماجري ومايجري نرقب فيها من بعيد عالما جديدا تطل علينا بوادره ونبدأ مقدماته ونكاد نقول ان المستقبل سوف يكون مختلفا عن الحاضر وبعيدا عن الماضي ولانريد أن نذهب وراء النبوءات وأشهرها للفلكي نوستراداموس بأطروحاته التاريخية المتشائمة وتوقعاته الظلامية وصولا الي حالة الاكتئاب العام التي بدأت تسيطر علي معظم المجتمعات في العالم مرورا بالتدهور الاقتصادي الذي سوف يشعر به الجميع والذي قد يصل الي حالة من حالات الكساد العالمي نتيجة ماأصاب حركة الطيران الدولية فضلا عن احجام الوفود السياحية عن السفر بالاضافة الي نفقات الاجراءات الأمنية, كل ذلك يضرب فكر العولمة في مقتل ويفتح بابا لصراعات وهمية بين الثقافات وصدامات عشوائية بين الديانات ويعود بنا من جديد الي عصر التمييز العنصري والتفرقة العقائدية وتلوين البشر والأفكار والتعميم في الأحكام والقرارات, اننا نتطلع بكل الأمل الي الخروج من هذا المأزق الانساني الضخم الذي يمكن أن يدفع الجميع ثمنه الفادح بعد أن قطعت البشرية أشواطا واسعة علي طريق التقدم ومضت خطوات في دروب التفوق العلمي, ونحن نؤمن دائما بأن الانسان هو سيد عصره في النهاية حتي وان لم يكن صاحب قراره منذ البداية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/10/23/WRIT1.HTM