لقد تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لهجمات انتحارية غير مسبوقة في تاريخ البشرية, ولايجادل احد في ان ماجري يمثل مرحلة جديدة من المواجهة بين الولايات المتحدة وخصوم سياساتها. أو المعارضين لدورها المسيطر في عديد من المناطق, ونحن إذ نرفض العنف الذي يطاول الأبرياء ونعتبره نوعا من الارهاب الذي يمثل رسالة عشوائية يبعث بها مجهول الي أي مكان بدون عنوان, إننا ندين ذلك ونحذر من وقوع العالم المعاصر فريسة له فالارهاب هو البديل الجديد الذي تضرب به قوي خفية عندما تشعر بانعدام التكافؤ مع الطرف الآخر, ومهما يكن تحليلنا لما جري وتعليقنا عليه وردود فعل الولايات المتحدة له الا اننا نعترف ايضا ان وصول يد الارهاب الي الأعصاب الحاكمة في أقوي دولة في هذا الزمان هو امر ينال من هيبتها وينتقص من كبريائها, لذلك فان مانكتبه اليوم يمثل محاولة للمراجعة والتأمل في ملف العلاقات بين مصر والقطب الدولي ـ الذي تمتد اصابعه الي كل مكان ـ وقد كان يمكن ان يكون العنوان: ماذا تريد مصر من الولايات المتحدة الأمريكية؟
ولكن الأمر لن يختلف كثيرا باختلاف العنوانين, فالمقصود البحث في أعماق العلاقة بين القاهرة وواشنطن في العام الأخير تحديدا, إذ يبدو واضحا ان ماتريده مصر من الولايات المتحدة هو فقط نظرة عادلة بين طرفي الصراع في الشرق الأوسط, واهتمام حقيقي بالتسوية السلمية والكف عن افتعال بعض القضايا الفرعية التي تندرج تحت اطار الشئون الداخلية المصرية, ولاأحسب ان مصر تتطلع لأكثر من ذلك الا اذا وضعنا بعض الرتوش المتصلة بتقويم واشنطن لبعض الأنظمة العربية خصوصا في العراق وليبيا والسودان, وتحاملها أحيانا علي شعوب تلك الدول تحت مسميات مختلفة في ظل ظروف سمحت لها بذلك, ولقد حقق الحادث المأساوي الأخير في نيويورك وواشنطن فرصة أمريكية لتصفية حسابات وتغيير أوضاع, أما ماتريده الولايات المتحدة الأمريكية من مصر فذلك هو الجانب الآخر من العلاقات بين الدولتين, فنحن نعترف ـ وليس أمامنا خيار آخر ـ بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة الكلمة الأولي في العالم المعاصر, وأنها تعيد ترتيب الأوضاع في مناطقه المختلفة وفقا لمصالحها, مستخدمة في ذلك الأساليب السياسية العلنية احيانا وغير العلنية احيانا اخري, فضلا عن التوسع في توظيف المف
هوم الجديد للتدخل الانساني في القانون الدولي المعاصر, حيث تمكنت بذلك من توطيد مصالحها وتأكيد مكانتها واقتحام مبدأ سيادة الدولة في مناطق مختلفة من العالم في ظل مبررات متباينة, وفي اطار من الشرعية الدولية ولو كانت اسمية, وقد تكون الأداة هي مجلس الأمن مرة أو حلف الأطلنطي مرة اخري ولكن المبررات جاهزة دائما بدءا من التدخل لحماية الأقليات أو رعاية حقوق الانسان, مرورا بمواجهة الأنظمة الدكتاتورية أو رعاية الديمقراطية وصولا الي الحفاظ علي البيئة ومنع التدهور المعيشي في بعض المناطق, ولاشك ان ذلك كله لايخلو من ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين, فحقوق الانسان الفلسطيني لاتتساوي مع حقوق الانسان الاسرائيلي, ولكنه منطق السلام في عصر
PAXAAmericana,
لذلك فاننا نضع تصورا لما تريده الولايات المتحدة الأمريكية من مصر يستند الي مستويات ثلاثة الأول مصري والثاني عربي والثالث دولي, وسوف نتناولها بصورة عكسية وفقا لمنطق الانتقال من العام الي الخاص.
الولايات المتحدة ومصر دوليا
لايخفي علي أحد ان هناك معارضة علنية احيانا ومكتومة غالبا ضد السياسة الأمريكية في كثير من مناطق العالم, وليس ذلك امرا جديدا, فالقوي الكبري تجد دائما من يقف امام أهدافها ويتعقب مصالحها, فاذا لم تكن هناك دول تملك من الندية مايسمح لها بذلك فان البدائل هي دائما الرفض السياسي والعنف الارهابي ومقاومة السياسات بكل الطرق المتاحة, ونحن لانجد عموما خلافات جوهرية للسياسة المصرية تجاه الخطوط العريضة للتحرك الأمريكي دوليا, وحتي اذا شعرت مصر بشئ من التجاوز الأمريكي فانها لاتقف طرفا زاعقا في مواجهتها وتكتفي بدعم بعض المواقف الوطنية في الدول المختلفة, لو اختلفت تلك المواقف مع المصالح الأمريكية وهذافي نظري حد أدني للحفاظ علي العلاقات بين البلدين علي الصعيد الدولي. إن الدبلوماسية المصرية كانت لها ملاحظات علي التدخلات الأمريكية الأخيرة في منطقة البلقان ولكن تدرك في الوقت ذاته ان البدائل المتاحة لحلول اخري لاتبدو في الأفق القريب, كذلك فان القاهرة لاحظت ايضا في مواقف اخري نماذج واضحة للسياسات الأمريكية المزدوجة في بعض مناطق العالم, خصوصا تلك التي يشوبها التوتر ويغيب فيها الاستقرار, ولكن يبقي السؤال قائما وهو: ماذا تريد الولايات المتحدة الأمريكية من مصر علي الساحة الدولية؟
انها تريد منها ـ في ظني ـ تأييدا مستمرا لكافة سياساتها الدولية والاقليمية, فالولايات المتحدة الأمريكية شديدة الحساسية للخلاف في الرأي, حتي وان اظهرت غير ذلك, كما انها تتصور ان حلفاءها يجب ان يتبعوها بالقبول الكامل لمواقفها وسياساتها, سواء كان ذلك بالحق او بالباطل, انها الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت تدرك ان كلمتها فاصلة لافي السياسة الدولية وحدها ولكن في دعم النظم التي ترضي عنها وإسقاطها عند اللزوم, إننا لاننسي يوم ان وجهت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة جملة علنية واحدة للرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو قالت فيها: ان عليك ان تتخلي عن السلطة فورا فخرج من قصر الرئاسة في اليوم التالي, ونحن لاندعي أن أمريكا سيدة العالم مطلقة اليد بغير حساب, ولكننا نزعم انها تلقي احيانا مقاومة لأهدافها ومعارضة لسياساتها, وكما اعترف في الوقت ذاته أن كفة الأقوي هي الأرجح, وأننا نعيش بحق العصر الأمريكي بكل ماله وماعليه, فاذا انتقلنا الي العلاقة المصرية الأمريكية في المنظمات الدولية والمحافل العالمية, فاننا نجد ان حجم الاختلافات لايبدو علنيا, ولا يعبر عن وجود ظاهر لأن مصر تدرك من البداية الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية التي تعبر عن مصالحها وتترجم اهدافها, كما تعلم مصر طبيعية التحالفات القائمة والمحاور الموجودة.
الولايات المتحدة ومصر عربيا
وهنا نأتي إلي جوهر الخلاف بين السياستين المصرية والأمريكية فمصر باعتبارها دولة محورية في الشرق الأوسط فإنها ترتبط بدور معين حكمته ظروف الزمان والمكان, وكان يمكن ان تمثل العلاقات بين واشنطن والعالم العربي نموذجا مختلفا يسوده الانسجام في ظل تدخل المصالح المشتركة والاهتمام الأمريكي بالمنطقة الذي بدأ يتشكل بصورة علنية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور مبدأ أيزنهاور الذي يعتمد علي كان يسميه نظرية الفراغ تعبيرا عن عملية الاحلال والابدال التي كانت تتطلع اليها واشنطن لوراثة قوي الاستعمار القديم ـ البريطاني والفرنسي ـ في الشرق الأوسط, ولكن الدعم الأمريكي لاسرائيل وتطرفها الواضح في ذلك قد أدي الي ردود فعل سلبية واضحة تجاه سياسات واشنطن الشرق أوسطية, بل انني احيانا أتخيل الشرق الأوسط لو لم تكن اسرائيل قد زرعت فيه, لكي أكتشف أن العلاقات العربية الأمريكية كانت مرشحة لدرجة عالية من القوة والارتباط, بالموقع الاستراتيجي, وتمر بالثروة البترولية لتصل الي الأهمية الثقافية للوجود الحضاري في المنطقة, ان هذه الارتباطات كان يمكن ان تغير وجه المنطقة إلا ان الدعم شبه المطلق من الولايات المتحدة لاسرائيل قد انعكس علي العلاقات العربية الأمريكية, وأصبح الشارع العربي في حالة قلق عندما لايجد تفسيرا لسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين, بل ان اصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية من الدول العربية مثل السعودية والأردن والمغرب ومصر وغيرهم قد بدأوا يشعرون في العام الأخير بدرجة من الاحراج عندما يضغط الشارع العربي منتقدا الموقف الأمريكي المنحاز لاسرائيل في ظل سياسة إرهاب ا لدولة التي تمضي فيها بينما تقف واشنطن في سلبية واضحة وكأنها لاتريد ان تتحرك نحو الشرق الأوسط من جديد الا باستدعاء اسرائيلي لايبدو محتملا في القريب العاجل. ويجب ان نقرر هنا انه لاتحظي ادارة امريكية في العقود الأخيرة بمثل ماحظيت به ادارة كلينتون من شعبية في الشارع العربي, ونحن لانزعم هنا ان الرئيس الأمريكي السابق كان صديقا للفلسطينيين او عاشقا للعرب إلا انه كان علي الأقل شديد الاهتمام بالمنطقة حيث وضع ملف الصراع العربي الاسرائيلي في صدر أولوياته دائما, لذلك فانني أري عن يقين ان أكثر مايؤرق مصر في علاقاتها مع الولايات المتحدة علي الصعيد العربي هو ذلك الموقف الأمريكي غير المبرر تجاه النزاع في الشرق الأوسط, فهو موقف يفتقر الي العدالة, وتعوزه درجة مطلوبة من
التوازن, ولقد حاولت القاهرة استخدام كل القنوات من أجل اقناع واشنطن بمراجعة سياساتها في المنطقة, ولكن ذلك كان يؤدي احيانا الي اهتمام وقتي تقوم فيه الولايات المتحدة ببعض انشطة العلاقات العامة ذات الطابع الاعلامي, دون ان تصل الرسالة المصرية الي جوهر السياسة الأمريكية تجاه النزاع بين اسرائيل والعرب عموما والفلسطينيين خصوصا, ويمكن ان نضيف الي ذلك عددا اخر من العوامل في مقدمتها الموقف المصري من استمرار الحصار علي الشعب العراقي واختلاف القاهرة مع واشنطن حول تطورات ماسمي بمسألة لوكيربي فضلا عن ان التناول الأمريكي لتطورات الملف السوداني امر يستحوذ ـ خصوصا في هذه الفترة ـ علي قدر كبير من اهتمام القاهرة التي تتابع تلك النوبة المفاجئة من الاهتمام الأمريكي بالوضع في جنوب السودان ومحاولتها فرض حل أمريكي تزعم ان لمصر دورا اساسيا فيه.
الولايات المتحدة ومصر داخليا
وهنا نأتي الي اكثر النقاط حساسية واثارة, فنحن نعلم ان هناك دوائر في الكونجرس الأمريكي ومراكز صنع القرار المختلفة ـ خصوصا علي المستوي الاعلامي الذي برع فيه الأمريكيون ـ فأصبحت مسألة صناعة الشخصية وصنع الاطار التحكمي للصورة امرا لايباريهم فيه احد, أقول انه في هذه الظروف نشطت تلك الدوائر في شن حرب خفية علي مصر في مناسبات مختلفة بينما لاتبدو اسرائيل احيانا بريئة من الوقوف وراء تلك المحاولات التي تستهدف الوحدة الوطنية المصرية وتماسك البناء التاريخي لنسيج المجتمع الواحد في شمال وادي النيل, والأسباب دائما جاهزة والمبررات متاحة. انني ألاحظ ان تلك الدوائر التي تسعي الي التشهير بالأوضاع الداخلية في مصر تتجاهل عن عمد كل التطورات الايجابية, وتركز بشكل متعمد علي معلومات مغلوطة احيانا أو مبالغ فيها دائما, والمتابع لملف العلاقات المصرية الأمريكية في السنة الأخيرة سوف يجد ان اعتقال المفكر المصري سعد الدين ابراهيم ومحاكمته يحتل حيزا كبيرا من حجم الانتقاد الأمريكي للوضع الداخلي في مصر, ومازلت اذكر مداخلة علنية علي الهواء في احدي القنوات القضائية بيني وبين الصحفي الأمريكي المعروف توماس فريدمان حيث آثار هذه المسألة
واعتبرها جوهرية في مسار العلاقات بين البلدين, ولايقف الأمر عند هذا الحد, بل ان مسألة محاكمة تنظيم الشواذ قد اصبحت هي الأخري مادة للحوار الصامت بين تلك الدوائر الأمريكية والشأن الداخلي المصري, ولكن أخطر البنود في ملف العلاقات المصرية الأمريكية هو في ظني ذلك المتصل بالعلاقات بين المسلمين والأقباط في مصر إذ ان واشنطن تعتمد علي مصادر غير دقيقة من بعض المهاجرين المصريين الذين يتحدثون بمنطق الغياب الطويل عن الوطن والعجز عن متابعة التطورات الايجابية فيه لكي تتكون في النهاية دعايات تتردد حول اضطهاد الأقباط وتصويرهم ضحايا, في وقت تشير فيه كل الدلالات الحقيقية الي اتجاه عكسي تتأكد به صلابة الوحدة الوطنية, وتنتهي معه المشكلات المتعلقة بالحضور القبطي في الاقتصاد والثقافة والسياسة في الدولة المصرية, وفي ظني ان التعامل مع هذه الملفات الفرعية في العلاقات المصرية الأمريكية أمر له أهميته ودلالته, إذ يكفي ان تتذكر تلك الأصوات التي تنطلق في واشنطن من حين لآخر تتحدث عن المعونة الأمريكية لمصر وربطها بالسياسة المصرية تجاه عدد من القضايا العربية او المسائل الداخلية. وحديث المعونة حديث ذو شجون, لأن العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر هي علاقات ذات اتجاهين فيها الأخذ والعطاء المتبادلان ويجب الا ينسي الأمريكيون ان مصر هي بوابة الشرق الأوسط منها دخل السوفيت في منتصف الخمسينيات ومنها ايضا خرجوا في مطلع السبعينيات واذا كانت زيارة نيكسون الشهيرة لمصر عام1974 كانت هي تدشين بداية العلاقة الجديدة بين القاهرة واشنطن فان استمرار هذه العلاقة القائمة علي الصداقة والفهم المتبادل تحتاج هي الأخري الي مجهود مشترك من الجانبين لا يقع علي كاهل مصر وحدها, ولكن واشنطن مطالبة بأن تلعب دورا أساسيا فيه.
.. هذه ملاحظات عامة حول المحاور الأساسية للعلاقات المصرية الأمريكية علي الأصعدة الدولية والاقليمية والمحلية ـ في ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد ـ وكلها توضح بجلاء ان تلك العلاقة تمثل ركيزة اساسية لشرق أوسط مستقر ولمنطقة عربية تقبل بالسياسات الأمريكية التي تحتاج الي اعادة نظر, فالعقبة الرئيسية التي تقف في طريق العلاقات المصرية الأمريكية هي بالدرجة الأولي ذلك الموقف الأمريكي الداعم لاسرائيل في معظم ممارساتها, والرافض رفضا كاملا لأي ادانة لسياساتها, ويوم تفتح الادارة الأمريكية الحالية ملف الشرق الأوسط وتتصفح عناصره بكل موضوعية وتجرد سوف تكتشف ان جزءا كبيرا من مسئولية ماجري يقع علي عاتق الولايات المتحدة الأمريكية, اذ ان دور القوة الأعظم يجب ان يتسم بالموضوعية والتوازن ويتصف بالعدالة ووحدة المعيار والكيل بمكيال واحد, ومازال الأمل كبيرا في ان تدرك واشنطن ـ بعد صدمة العمل الارهابي الأخير ـ ان تعاملها مع الأصدقاء يجب ان يكون بنفس الدرجة, لأننا نعيش في عالم شديد التعقيد يبدو فيه ان قوي غير علنية سوف تمارس ضغوطا غير مشروعة علي سياسات القوي الكبري, وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ومهما يكن حجم إدانتنا لتصرفات تلك القوي الخفية فاننا نؤكد ان الحل العسكري في مواجهتها ليس هو الحل الأمثل, ولكن كان يجب ان يكون البديل هو المراجعة الأمينة للسياسات, والقيام بعملية نقد ذاتي شريف, مع قدر كبير من ضبط النفس والتصرف بموضوعية وحكمة, فالارهاب ابن غير شرعي, ويصعب نسبته لقومية معينة أو دين بذاته لأننا نعيش عصرا اختفت فيه الحواجز وتضاءلت الحدود, وأصبح المصير المشترك هو رمزه الوحيد وشعاره الأول.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/10/9/WRIT1.HTM