لقد حققت اليابان معجزة اقتصادية تعتبر من أهم ملامح آسيا في القرن العشرين رغم فقرها في الموارد الطبيعية حيث كانت الموارد البشرية هي البديل الذي حسم المعركة لصالح الانسان الياباني ومضت علي نفس الطريق تجارب ناجحة أخري نذكر منها نموذج سنغافورة وهي جزيرة صغيرة ولكنها استطاعت أن تحقق فائضا هائلا في ميزانيتها وأن تغزو أسواق العالم بمعدلات تصدير غير مسبوقة, فالقضية إذن ليست هي دائما الثروات الطبيعية ولكنها قبل ذلك وفوقه هي العنصر البشري بتميزه وتفوقه وقدرته علي العمل المنتج والتفكير المبدع والرؤية الخلاقة, أقول ذلك وعيني علي تطورات هائلة تجري في الدنيا حولنا ونحن نلتقط منها يوميا شعارات نكررها وعبارات نرددها بينما المضمون الحقيقي لهذه التحولات مازال غائبا عن أغلب من يقرأون ويفكرون وأحيانا يكتبون, والذي يعنيني الآن هو إن أقول أن العقل البشري في النهاية هو سيد الموقف وقائد الصراع ورابح المعركة.
لذلك فإن الحديث عن الانتاج العقلي ليس حديثا مبهما أو محاولة للدوران في تفكير ضبابي لم تتشكل ملامح احزانه بعد, فلقد كان الانتاج العقلي دائما هو العنصر الحاسم في التطور البشري كله, أليس هو الذي وقف وراء الأفكار الكبري والفلسفات العظمي والاختراعات الضخمة والاكتشافات المذهلة؟ لذلك فإننا نواجه حاليا تطورات هائلة تضع ثابت الهوية في مواجهة مباشرة أمام وافد العولمة, وهو أمر يستلزم القيام بعملية مراجعة شاملة للكثير من المعطيات والآراء بل والقيم والأعراف وقد يكون من المستحب أن نناقش قضية محددة تتصل بتأثير العولمة علي الحياة الفكرية والتقاليد الاجتماعية في عالمنا المعاصر, إذ يبدو أننا ندخل مرحلة انقلابية كاملة سوف نحاول علاجها علي محاور ثلاثة:
من الانفتاح إلي الاندماج
تكررت أحاديث وأقوال وبحوث ودراسات حول ايجابيات وسلبيات العولمة ورأت جمهرة كبيرة من المفكرين المعاصرين أن العولمة تعبر عن اتجاه جديد يعني احتواء الأكبر للأصغر وابتلاع الأقوي للأضعف وإعمال قوانين حركة جديدة في المجتمع الدولي تقوم علي أساس أن الدولة يجب ألا تكون حائلا دون حركة الانتقال سواء بالنسبة للأموال أو السلع أو الأفراد حيث أن هناك قانونا جديدا هو أقرب إلي قانون المحمية البرية عندما تصبح الحركة متاحة للجميع في إطار مربعات يجب الالتزام بها ولا يحسن تجاوزها فلم يكن غريبا إذن أن يظهر هناك نوع من القلق لدي كل المتحمسين للهوية القومية نتيجة شعورهم بأن الصدام قادم لا محالة بين العولمة وتداعياتها في جانب والهوية ومقوماتها في جانب آخر, وعندما بدأنا نتحدث عن عالم القرية الواحدة والانتقال من مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري إلي مرحلة الاندماج في إطار العولمة الجديد بكل ما قد تحمله من مخاطر وما قد تنطوي عليه من شرور فقد جري في ذات الوقت توظيف المنظمات الدولية لخدمة أهداف جديدة لا تبدو هي بالضبط تعبيرا عن الغايات الأصلية للتنظيم الدولي كما عرفناه في القرن الماضي, وقد كنا نتوقع أن يرتبط بتيار العولمة اتجاه يتوازي معه يدعو إلي ديمراطية العلاقات الدولية, ولكن ذلك لم يحدث بل علي العكس أصبح تصنيف الدول معتمدا بالدرجة الأولي علي عوامل القوة وأسباب النفوذ خروجا علي السياق الذي كنا نتوقعه وفقا للنظرية التقليدية صوت واحد للدولة الواحدة, فالذي حدث يكاد يشير إلي احتمال نهاية الدولة بعد أن سبقه حديث عن نهاية التاريخ, وهنا لابد أن يثور تساؤل هو: هل باستطاعتنا أن نكون جزءا لا يتجزأ من العالم المعاصر بينما نعاني من كل هذه المخاوف والاحتمالات التي توحي بأن ماهو قادم يختلف تماما عما مضي وأن هزة عنيفة تجتاح الفكر الانساني لتعيد تشكيله علي أسس جديدة وفقا للتغيرات المذهلة والتطورات المتتالية؟ إننا هنا في الوطن العربي ننظر أحيانا بحذر شديد للطرح الجديد حول فكر العولمة لأننا نشعر أن ذلك ـ برغم استحالة الفكاك منه ـ هو خصم تلقائي من رصيد الشخصية القومية والهوية الذاتية, ولسنا وحدنا الذين نعاني من هذه الحساسية, فهناك الكثيرون ممن لديهم نفس المحاذير لأنهم يتوقعون تحديات تأتيهم من التركيبة الجديدة للعالم كما يطرحها مؤشر الانتقال من مرحلة الانفتاح إلي مرحلة الاندماج.
نزيف المعرفة
حمل القرن الحادي والعشرون معه قضية تستحق التأمل تقوم علي تقدم أهمية الانتاج العقلي ـ بشكل غير مسبوق ـ علي سواه من منتجات أخري تعودتها المسيرة الانسانية منذ البدايات الأولي لها, فلم يعد حشد المعلومات أمرا يستحق أن يصرف فيه الانسان سنوات من عمره إذ يكفي أن يتعامل مع أدوات العصر وأجهزة التقنية الحديثة وفي مقدمتها الكمبيوتر لكي يكون قادرا علي تداول كل أشكال المعرفة, فالتزاوج بين المعلومات والإدارة هو الذي فتح آفاقا جديدة تسمح للانتاج العقلي أن يكون رائدا وقائدا علي جميع المستويات, ولابد من التنويه هنا إلي أن التدريب يمثل هو الآخر بعدا ثالثا يسمح بتقدم مستوي الانتاج العقلي إذ لا توجد مهنة معينة تستعصي علي انسان بذاته ولكن الفارق فقط يكمن في معدلات التدريب ونوعيته, ونحن في عصر تشير جميع الدلائل فيه إلي أن كل شئ قابل للاكتساب فالمهارات المختلفة والخبرات المتعددة تصب كلها في خانة التنمية البشرية وتفوق العنصر الانساني وتميزه ونحن نقصد هنا بنزيف المعرفة تلك الشلالات المتدفقة من المعلومات التي تحتاج إلي ادارة راقية فالعلاقة بين المعلومات والادارة هي التي تسمح بتعظيم الانتاج العقلي الذي أصبح هو العلامة المميزة لهذا العصر, بل إنني أظن أن الانتاج العقلي كان هو العامل المؤثر في تاريخ الحضارة البشرية كلها وهو الذي وقف وراء التحولات والانجازات عبر مسيرة الانسان منذ فجر التاريخ, لذلك فنحن حين نتحدث اليوم عن نزيف المعرفة فإننا نشير بشكل محدد إلي ذلك التدفق الهائل من مصادرها الذي يحتاج فقط إلي عملية تنظيم حتي أن التعليم ذاته أصبح الآن فقط هو عملية ادارة التعلم باتباع أساليب جديدة للاستفادة من المعلومات المتوافرة وفقا لمناهج بحث مستحدثة وأساليب فكرية مبتكرة بل إننا نحسب أن تطور الدول ومكانتها في عالمنا المعاصر سوف يعتمدان بالدرجة الأولي علي امكانية التوظيف الأمثل والادارة الأرشد للمعلومات الأدق والمعارف الأعمق.
هجرة العقول
يسيطر هذا الموضوع علي اقتصاديات الدول النامية منذ عشرات السنين عندما بدأت قوافل العلماء تنزح من بلادها متجهة ناحية الشمال والغرب في عملية هجرة عكسية كأنها اعتذار تاريخي عن الظاهرة الاستعمارية التي كانت تتجه نحو الجنوب والشرق, وهجرة العقول إنما تعطي من يملك الكثير خصما ممن لا يملك إلا القليل بفعل جاذبية الحياة الأفضل والامكانيات الأكبر والشهرة العالمية الواسعة ولقد عانت مصر ـ مثل دول نامية أخري ـ من ذلك النزوح الذي سلبها جزءا كبيرا من رصيدها الفكري وقدراتها البشرية وبرغم كل المحاولات لتنظيم هجرة العقول ودعوة الطيور المهاجرة إلي العودة إلا أن جاذبية الغرب لا تزال تسيطر علي ما يحدث في هذا المجال, فبرغم الاستثمارات الضخمة التي توفرها مصر للتعليم الجامعي إلا أن جزءا كبيرا من عائده يتم اهداره من خلال عمليات الهجرة التي تستقطب علماءنا وباحثينا بل ومفكرينا أحيانا, حيث تحتفظ العواصم الغربية والمدن الأمريكية الكبري بكواكب لامعة ونجوم ساطعة من أبناء مصر الذين يرصعون سماء العالم مخترقين سحب الاغتراب والابتعاد عن الوطن حتي بلغ بعضهم افاقا عالمية بشهادة نوبل وما في مستواها من درجات التقدير الدولية, فنحن نتصور ـ أو دعنا نقل أننا نأمل ـ أن تقدم العولمة ايجابية ننتظرها تتمثل في وقف هجرة العقول علي اعتبار أنه لن يضير العالم الجديد أن يبقي العلماء في أوطانهم مادامت جهودهم سوف تكون تحت سمع الدنيا وبصرها في ذات الوقت, ولعل ذلك يذكرني بما قرأته عن العلاقة بين الاتصالات والمواصلات في ظل تكنولوجيا المعلومات فلقد رأي البعض أن الكثافة الضخمة في عالم الاتصالات سوف تؤدي بالضرورة إلي تخفيف الضغط علي عالم المواصلات وضربوا بذلك مثالا عن شيوع استخدام التليفون المحمول الذي يمكن أن يخفف أزمة المواصلات داخل الوطن الواحد, وقاس بعضهم علي ذلك عالميا من حيث سهولة الاتصال عبر شبكة المعلومات الدولية ومن خلال الانترنت وهو ما سوف يسمح للمفكر أو العالم أو الباحث أن يبقي في موقعه بأحد أركان الدنيا أو ربوعها النائية ولكن علي اتصال كامل مع قلب العالم يشارك في تطوره وينال من شهرته لا تحجزه حدود ولا تحول دونه موانع, ولقد شاهدت شخصيا تجربة تقترب من ذلك عندما رأيت المنظمات الدولية في فيينا تتوقف أحيانا عن استقدام بعض المتخصصين في عملية الترجمة التحريرية والأكتفاء بالتعامل معهم أثناء انعقاد المؤتمرات وهم في بلادهم الأصلية من خلال أرسال النصوص بالفاكس
واستعادتها بعد وقت قصير مترجمة للغة المطلوبة موفرين بذلك نفقات الإقامة والمواصلات نتيجة تقدم وسائل الاتصالات, إنه عالم جديد بكل المعاني يبدو فيه كل شئ متحركا ولا يعبر عن حالة السكون لأنها تقوم علي افتراض نظرية مستحيلة التطبيق لأن حياة العصر تشبه العوم ضد التيار فإما أن نتقدم وإلا فإن التراجع حتمي لأن حالة الثبات مستحيلة, وهذا يقودنا إلي مسألة لن أتوقف عن تكرار الاشارة اليها والإلحاح عليها وأعني بها مسألة التدريب المهني والحرفي وحاجاتنا الماسة اليهما إذ أن مصر لا تحتاج إلي حملة الدرجات الجامعية العليا بقدر حاجتها إلي التدريب الجيد في المهن المختلفة فالمشكلة الحقيقية تكمن في اختفاء الكوادر المدربة علي المستويين المهني والحرفي حتي اختفي التجويد وضاعت المهارة وتقلص تاريخ الخبرة, فذاكرة الأمم لاتحوي قضايا سياسية ومسائل اقتصادية وأمورا ثقافية فقط ولكنها تمثل مختزن الخبرات والتقاليد الفكرية والعلمية هو التي تشكل برصيدها الباقي جزءا مهما من ذاكرة تسعفها بالمهارات والكفاءات في كل مراحل التطور, لذلك فإنني ادعو إلي ضرورة التركيز علي التعليم الفني والدراسات نصف الجامعة( علي غرار معاهد البوليتكنيك) لإمداد معركة التنمية البشرية في مصر بمدد لا ينقطع ممن يقودون عملية الانتقال من عصر المعلومات الثابتة إلي عصر المعلومات المتحركة, فالتدريب هو الذي يسلح أجيالنا الجديدة بأدوات العصر الحقيقية, ولعل أشد ما يزعجني أحيانا بل ويؤرقني دائما أن يأتيني بسطاء الناس يطلبون فرص عمل لأبنائهم وبناتهم ممن يحملون شهادات جامعية ولكن لا يجيدون لغة أجنبية ولا يتعاملون مع الكمبيوتر عندئذ أشعر أن هذا عرض للعمالة مستمد من سوق الستينيات بالقرن العشرين يريد أن يجد مكانه في طلب العمالة في سوق مطلع القرن الحادي والعشرين وهو أمر يعكس أزمة التعليم في بلدنا ويوضح بجلاء أننا لم ندرك بعد أن التعليم يجب أن يكون في خدمة التنمية وليس العكس هو الصحيح.
هذه بعض الرؤي التي تجول بخاطري في إلحاح شديد وأنا أرقب قطار الانسانية وهو يجري بسرعة الطيران ونتحدث عنه دائما بعبارات فخمة وكلمات ضخمة دون أن نتمكن من الالتحاق بإحدي عرباته, بل إنني انتقل من ذلك لمناقشة بعد خطير للغاية وهو تأثير العولمة التي ترتكز علي تكنولوجيا المعلومات في نسيج الحياة الاجتماعية لدي التجمعات الحضارية المختلفة,وأساليب الحياة وطبيعة الأطر التي تتشكل منها الأعراف والتقاليد, وهذه قضية تحتاج إلي معالجة منفصلة حيث يجب أن نبحث بشجاعة في العلاقة بين التغيرات والتطورات والتحولات التي يشهدها عالمنا وبين منظومة المعتقدات الدينية والقيم الاخلاقية بما يمكن أن يؤدي إلي نقلة نوعية ضخمة في طبيعة الأسرة وشخصية المجتمع وبناء الحضارات.
إن الأمر أكبر بكثير مما نتصور, وأخطر تماما مما نتوقع, إذ أن الانتقال من مرحلة الانفتاح إلي مرحلة الاندماج والخروج من سيطرة الآلة الصماء إلي سيطرة التفوق العقلي والبحث في تيار المعرفة المندفع إلي حد النزيف المتصل كما أن تأمل مسألة هجرة العقول وحرية انتقال الأفراد والسلع ورؤوس الأموال والعلاقة العكسية بين الاتصالات والمواصلات كلها تضعنا أمام حقيقة جديدة وهي أننا محتاجون لحلول غير تقليدية لمشكلات لم تعد بطبيعتها مستجيبة لأفكار القرن التاسع عشر أو نظريات القرن العشرين ولكنها أصبحت تحتاج إلي تصور مختلف, ورؤية بعيدة المدي, ونظرة بلا حدود.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/8/28/WRIT1.HTM