لقد لقد تساءلت كثيرا في مقالات سابقة عن جدوي ما نكتب بل وجدوي مانقول, ولقد كان هذا التساؤل يعكس دائما درجة من الإحباط الذي يختفي مبرره كلما توالت ردود فعل تؤكد أن هناك من يقرأ ويناقش, كما أن هناك من يستمع ويحاور, والصيف الساخن تغري أمسياته بالجدل مثلما تحفل أيامه بالقلق, وفي هذا المقال أعاود تقليدا بدأته منذ أكثر من عام بمقال كان عنوانه القراء يكتبون, ذلك لأنه يسعد الكاتب والمتحدث أيضا أن يشعر برجع الصدي, وإلا أضحت كلماته وأقواله كالهشيم تذروه الرياح, وهاهي بعض كتابات القراء التي تناقش مقالات سابقة, وتتعرض لأفكار تضمنتها أو معلومات وردت فيها أسوق أجزاء منها, استكمالا لما كتب وتأكيدا لروح الحوار الحر, التي مازالت تفتقدها ثقافة الديموقراطية أحيانا.
وأبدأ بالتعليق الذي ورد لي من الولايات المتحدة الأمريكية من المهندس جورج اسحق حكيم وقد كان صديقا قريبا لي وللمئات من المثقفين ورجال الأعمال, غادر مصر منذ سنوات ولكنها ظلت في قلبه تثير لديه أحيانا شجون الوطن الغائب, وأحيانا أخري أوهام الزمن الغادر, ولقد كان اهتمامي به لعدة سنوات نابعا من حجم المعلومات العامة التي كان يحملها مع متابعة ذكية لمجريات الأمور إلي جانب حس وطني كان يتمتع به خصوصا عندما يظهر شعوره التلقائي بالوحدة الوطنية المصرية والخروج من إطار الطائفية الضيق إلي صعيد الوطن الرحب, وهاهي كلماته تأتيني في رسالة مطولة, وردت منذ أيام لتمسح عني كثيرا من الحزن الشخصي والعتاب البعيد, يستهل المهندس جورج حكيم رسالته قائلا: أهنئك علي مقالك الأخير صفحة مطوية من الذاكرة السياسية, بل وأطالبك بمزيد من صفحات غيرها, كما أهنئك لاستخدام تعبير رجل الدولة عن أنور السادات لأن ذلك مصطلح ممتاز لمخاطبة ساسة العالم شرقا وغربا كما أنه تعبير يتخطي المحلية إلي العالمية, كما أهنئك مرة أخري لأنك حطمت بفكرك الصائب قيود وثوابت لاوجود لها الآن في ظل العولمة والانفتاح السياسي والاقتصادي في عالمنا, وأشكرك علي استخدام عبارة صديقك محمد بن عيسي وزير خارجية المغرب عندما يتحدث عن شجاعة الجاهل الذي لايدري مايراد به ومالايريد فهو يتصرف بتلقائية وعفوية قد يدفع ثمنها كما قد يجني ثمارها, أما تعبيرك عن السادات الذي قلت عنه كان قابعا في مزارع القصب السياسي فإنني أفضل تعبير مزارع الذرة السياسية لأن المقولة الشعبية تشير إلي عبارة مختبيء في الذرة وليس القصب! إلا إذا كنت تستخدم وصفا معاصرا حيث إن المتطرفين قد استخدموا في السنوات الأخيرة مزارع القصب في الصعيد للاختباء, وسوف يهاجمك البعض ولكن لايصح إلا الصحيح, ولعلك تذكر يوم أن كتبت أنت ترد علي مقال في صحيفة الحياة وكان عنوان مقالك الشهير شمس لاتغيب وقد تباري الكتاب والمفكرون والسفراء في الرد عليك وتأكد أنه لولا تدخل كبير الأهرام يومها لكانت المحاكمة مستمرة ضدك لسبب بسيط وهو أنك في رأيي قيمة كبيرة سياسيا وفكريا, وإذا جانبك التوفيق فإن السيوف والخناجر والسكاكين تأتيك بدون رحمة من كل اتجاه وكأنهم نسوا مقولة ياناطح الجبل أخاف عليك لاعلي الجبل, وبهذه المناسبة أدعوك للتأمل والتفكير في فكرة جاءت علي خاطري استلهمتها من قولك في المقال الذي نتحدث عنه عندما ذكرت بالحرف الواحد( ثم انتقل السيد علي صبري يومها إلي الحديث عن الانقلاب العسكري ضد الرئيس نكروما في جمهورية غانا والذي كان حدثا مدويا وقتها يعكس دور القوي المعادية لحركة التحرر الوطني) وهنا يواصل المهندس جورج حكيم تعليقه بالإشارة إلي القوي المعادية لحركة التحرر الوطني التي نشطت نشاطا ملحوظا منذ أوائل الستينيات وكان من مظاهرها حسب رصده لها:
1 ــ سقوط لومومبا وقتله وصعود موبوتو وتشومبي.
2 ــ متاعب الجيش المصري في اليمن ومحاولة استنزاف قدراته.
3 ـــ سقوط سوكارنو وصعودسوهارتو ومذبحة300,000 يساري في إندونيسيا.
4 ـــ الانقلاب ضد نكروما وتولي الجنرال انكراه مكانه.
5 ـــ سقوط انديرا غاندي في دائرتها الانتخابية وتولي موراجي ديساي رئاسة الوزارة الهندية مع ماكان معروفا عنه من توجهات يمينية.
.. والأمثلة كثيرة ولكن يبقي السؤال الذي يلح علي, وهو: هل كانت هذه المظاهر العالمية سببا في زيادة قبضة الدولة في مصر حينذاك بدءا من المحاكمات السياسية إلي قضايا التنظيمات المتطرفة مرورا باتهامات التجسس ولجان تصفية الإقطاع والتوسع في الحراسات والعزل السياسي, هل أستطيع أن أقول إن استعجال الرئيس الراحل عبدالناصر في غلق الخليج والاستعداد للحرب مع إسرائيل بعد سحب القوات الدولية كانت كلها ردود فعل هدفها الأول والأخير هو الرد علي القوي المعادية للتحرر الوطني خصوصا وأن عبدالناصر كان قد تخطي المجال المصري والعربي وأصبح جزءا من التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا؟
... كانت هذه بعض خواطر مصري بعيد عن وطنه, نأمل أن يعود إليه بعد طول غياب قد نتفق مع مايقول أو نختلف ولكننا دائما نبض مصر في عروق أبنائها وهم بعيدون عنها.
أما الرسالة الثانية فقد جاءتني من الأستاذة أنيسة عصام الدين حسونة حيث تقول في تعليقها علي مقال جدوي الكلام إنه لكي يكون للكلام جدوي يجب أن يرتبط بحرية التعبير التي تتلازم مع حرية التفكير ولكن إذا كانت هناك خطوط حمراء للموضوعات المطروحة فإن ذلك يعني أننا جميعا ــ نجتر نفس الطروحات والأفكار محاذرين أن نخرج عن الخط الأحمر وإلا رمينا بقائمة سابقة التجهيز من الاتهامات التي يصعب الإفلات من أحدها, لأنها تتراوح بين كونك شيوعيا في أقصي اليسار إلي كونك سلفيا أو متطرفا في الجانب الآخر مع تشكيلة متنوعة في المنتصف تشمل كونك ناصريا أو من دعاة التطبيع أو علي العكس من دعاة الإثارة والقلاقل وعدم الاستقرار, إننا نبدو في واقع الأمر مقولبين مثل أطفال الصين الذين كان يقال أنه يضعون أقدامهم في أحذية من الحديد حتي لاتكبر عن مقاس معين, وبالمثل أفكارنا لها مقياس محدد لاتتعداه, ثم تنتقل الأستاذة أنيسة عصام الدين حسونة للتعليق علي مقال آخر كان عنوانه زهرة المدائن من الحقائق السياسية إلي الدعاوي الدينية مؤكدة اتفاقها معنا في أن الإحلال الدائم للنظرة الدينية للقدس محل النظرة السياسية هو أمر قد لايخدم الأهداف القومية وكأننا نطلب بالمقدسات للصلاة والشعائر الدينية فقط وليس لأنها أيضا أرض عربية فلسطينية محتلة عام1967, ثم تتطرق بعد ذلك إلي تأثير عامل الزمن بالنسبة لإسرائيل فتري أنها لاتستطيع الاعتماد علي الأبد علي مد خيوط الاتصال الاقتصادي والسياسي مع كيانات تبعد عنها آلاف الاميال بينما هي تناصب جيرانها الأقربين العداء وتثير ضدهم الرأي العام العالمي, ورغم بشاعة القهر الاسرائيلي للشعب الفلسطيني فإن الرأي العام الغربي وفقا لما تعرضه معظم وسائل إعلامة يسوي بين إسرائيل والفلسطينيين في المسئولية عن العنف الدائر إن لم يكن الكثيرون منهم يرون أن عرفات هو مصدر كل الشرور وأن العرب هم مجموعة من الإرهابيين, ثم تنتقل في الجزء الأخير من رسالتها إلي التعليق علي مقال قديم لنا كان عنوانه الاختيار الصعب مؤكدة أن مجلس الشعب الحالي يثير الكثير من التكهنات الإيجابية أو السلبية وأن الأمل فيه أن يكون خطوة إلي الأمام علي الطريق الصحيح لا أن يكون مناسبة لبعض الرتوش التجميلية لزوم الصورة الديموقراطية, ثم تختتم رسالتها بالإشارة إلي أن وصول أحد أبناء الجيل المسروق إلي مسرح الحياة العامة يمثل فرصة تستحق التحية والتهنئة.
أما التعليق الثالث في هذه المجموعة التي وصلتني مؤخرا ـ وأنشر اليوم مقتطفات منها ـ فقد جاء من أجد أبناء المؤسسة القضائية والمعار بالسعودية وهو المستشار حامد الجرف تعليقا علي مقالنا الفرد والمؤسسة وقد وضع رده في صورة مقال بعنوان هو بين إغريقية الدراما ورشادة السلطة وقد جاء فيه:
طبيعي أن تثير كتابات الدكتور مصطفي الفقي اهتمامات قارئيها, فما بالنا إذا كان صاحبها قد ألقي حجارة ثقالا في مياه رواكد, وماظننا بتأثيرها إذا كان صاحبها لم يكتف بأهميتها في ذاتها, بل أخذ نفسه بتحريض قارئه علي التحاور معا, وهومانوافقه عليه ونستجيب له.
ومع تسليمنا بصحة ماقال به الدكتور الفقي, فإن الانطلاق من اهمية السلطة كسبب لايبلغنا وجه الحقيقة في أمر هذه الظاهرة( علاقة الفرد بالمؤسسة), إذ لايعد منتجا بذاته لها, فالسلطة لها ذات الأهمية في كل بني الدول وأشكال الحكومات, وإذا كان للمجتمع النهري خصوصية, بل وللنشأة الإلهية للسلطة في مصر الفرعونية, وماتركتا من ظلال علي طبيعة السلطة تاريخيا في مجتمعنا فإنهما لايكفيان في تحري جذور الظاهرة, فثمة أسباب أخري تتكفل بإنتاجها علي نحو مباشر فيما نظن, وهو مايقودنا لملاحظته الثالثة الاساسية, ونعني بها قوله: بأن إطلاق يد الفرد في إدارة المؤسسة يعطيه في النهاية صلاحيات واسعة بحيث يبدو وكأنه هوهو. وهي ملاحظة صائبة ولكنها لاتشكل سببا منتجا للظاهرة وإنما هي وصف لظاهر السبب ولعرض تال علي وجوده وإنتاجه لأثره, فالتساؤل الذي ينبغي أن يطرح هنا هو تساؤل عن الكيفية, يصيغ قولنا وكيف تطلق يد الفرد في المؤسسة إذن, رغم وجود قواعد قانونية ضابطة للاختصاص ومبنية لحدوده, ورغم وجود جهات اخري مستقلة عن المؤسسة وموازية لها, تقاسمها الاختصاصات, بما يحد من سلطان الأولي والمسئول عنها, ورغم وجود جهات رقابية يفترض ألا تغمض العين عن أي تجاوز من ذلك المسئول لجملة تلك الحدود؟
السبب الحقيق يكمن إذن في منطقة الممارسة الفعلية للسلطة في بيئة تنظيمية وقانونية بعينها, وفي محيط مجتمع معين وزمان ومكان محددين, وليست في منطقة الابعاد التاريخية السلطة كظاهرة, ولا في منطقة التنظيم القانوني الاستاتيكي لها.
فالممارسة الفعلية في دينامياتها مع محيطها السوسيولوجي, هي وحدها, التي تدلنا إذن علي كيف تفلت سلطة الفرد ـ المفترض أنها محكومة بقواعد وضوابط ـ لتنطلق من أي قواعد وضوابط, إلي الحد الذي يبلغ بالعلاقة بين الفرد والمؤسسة لقران كاثوليكي, فلا ينفك المبصر لأيهما أن يستحضر الآخر, وكأنهما كيان واحد أو صنوان لاينفصلان من منا ينسي أن طه حسين كان نقلة نوعية عن نمط التفكير الأزهري السائد بما دفع بالمؤسسة للجنوح لخيار الإقصاء؟ ومن منا ينسي أن محمود شاكر كان كذلك تجاوزا لفكرطه حسين, بما دفع أيضا باتجاه ذات الخيار؟ بل ومن منا لم تستوقفه حملة شعواء مستترة استهدفت الدكتور أحمد زويل إبان حصوله علي جائزته الامريكية المرموقة الأولي قبل حصوله علي نوبل؟.
فهذه النماذج تجاوز أبطالها المفهوم السائد في مؤسساتها وفي أزماتهم, فإقتصتهم مؤسساتهم, ولولا أنصافا أتاهم أو إعترافا حازوه من بعد ولايمكن إنكاره لكان الإقصاء هو خاتمة المطاف والنماذج لذلك كثيرة.
هذه ملاحظات القراء وخواطرهم وكلها تعكس الرغبة في الحوار والقدرة علي الجدل, وتؤكد حقيقة أؤمن بها دائما وهي أن الذين يكتبون ليسوا هم بالضرورة أفضل من يكتب, كما أن كل من يتحدثون ليسوا هم بالضرورة أفضل من يتحدث, ولكن هناك نماذج كثيرة لأولئك الذين لم يحترفوا الكتابة ولم يقبلوا علي القول رغم أن لديهم موهبة التعامل مع القلم وقدرة الحديث مع الآخر, وعندئذ يتأكد للجميع أن للكتابة والكلام جدوي في عصر تباينت فيه الرؤي واختلفت الأفكارو وأصبح علي البشر أن يؤمنوا بالحوار الذي يمثل اللغة الوحيدة للحياة, والأسلوب العصري للتعايش, والمبرر الإنساني للتواصل بين الأمم والحضارات وبين الشعوب والثقافات.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/8/14/WRIT1.HTM