حظي سفير الولايات المتحدة الأمريكية في جمهورية مصر العربية دانيال كيرتزر والمنقول سفيرا لبلاده في إسرائيل بقدر غير مسبوق من حفلات التوديع ومناسبات التكريم وهو ذاته السفير الذي تعرض أيضا لحملة رفض غير مسبوقة عندما بدأ مهمته في القاهرة منذ أكثر من ثلاث سنوات, حيث انطلقت اقلام صحفية وقتها لكي تغمز من قناة يهوديته ووصلت إلي حد التعليق علي طعامه وملبسه برغم أنه لم يكن جديدا علي القاهرة فقد خدم في السفارة الامريكية بها منذ أكثر من عشرين عاما, ولقد تابعت درجة الحفاوة الزائدة التي ودعت بها الدوائر المصرية المختلفة السفير الأمريكي المنقول وقرينته, والتي ربما تجاوزت حجم المساحة الشعبية التي تمتع بها منذ أكثر من عقد كامل من الزمان ـ سفير أمريكي آخر في القاهرة هو فرانك ويزنر, ولكن تبقي القيمة الحقيقية في ظني للسفير الأمريكي المنقول الآن إلي إسرائيل أنه قد حقق نجاحا كبيرا في العاصمة المصرية لأنه لم يبدأ عمله من الصفر ولكنه بدأ دونه بعشرات الدرجات وكان عليه ان يبني جسور الثقة المفقودة أولا قبل أن يبدأ بعد ذلك مهمته الدبلوماسية في عاصمة أكبر دولة عربية.
وربما كانت أدواته التي اعتمد عليها درجة عالية من الهدوء والصبر مع دماثة الخلق فضلا عن قدر كبير من الموضوعية في الرأي والتجدد في الفكر والرصانة في الأداء إلي جانب الانفتاح علي شرائح المجتمع المختلة وقطاعاته المتعددة, ولكن الأمر تجاوز ذلك كله ليعطي في النهاية شهادة رفيعة للشعب المصري, فهو ذلك الشعب العظيم الذي يتعامل مع البشر بغض النظر عن دياناتهم واجناسهم مركزا فقط علي المواقف التي يتخذونها والأفكار التي يحملونها والآراء التي يعبرون عنها, فالشعب الذي حمل تراث التسامح الديني والأخلاقي عبر القرون لا يمكن أن يتهمه أحد يوما بعداء السامية أو بنظرة معادية لليهودية التي يضعها الإسلام ــ دين غالبية المصريين ــ في مكانها اللائق دينا سماويا له احترامه برغم الاختلاف الذي لا ننكره ولكننا لا نستخدمه, فالفارق واضح تماما لدي المصري بين موقفه الإيجابي من اليهود عموما ورفضه علي الجانب الآخر لسياسات إسرائيل العدوانية وانتهاكاتها لقواعد القانون والدين والأخلاق, والذي يهمني في مغزي توديع السفير دانيال كيرتزر هو تلك الدلالات العميقة التي يطرحها ذلك التكريم الكبير الذي تلقاه ذلك الأمريكي اليهودي الذي تبني دائما وجهات نظر معتدلة لا تخلو من نظرة متوازنة تجاه طرفي الصراع الدامي في الشرق الأوسط, فهو الذي انسحب من مجموعة مساعدي المبعوث الأمريكي في المنطقة عندما اكتشف كيرتزر أن اراءه ومواقفه لا تنسجم مع مسار مهمة المبعوث وظروف عمله.
إنه كيرتزر الذي يحمل خبرة فريدة تشكل رؤيته تجاه الصراع في الشرق الأوسط فهو المسئول الذي خدم في كل من مصر وإسرائيل دبلوماسيا عاديا ثم أصبح سفيرا فيهما علي التوالي, وهي تجارب أتاحت له أن يمتلك ناصية الفهم الصحيح لطبيعة ذلك الصراع الذي امتد لعشرات السنين ودفع فيه الفلسطينيون, وغيرهم من العرب في الأرض المحتلة الأخري واحدة من أغلي فواتير النضال الوطني والتحرر القومي في التاريخ المعاصر, لذلك لم يكن غريبا أن يتسابق المثقفون والدبلوماسيون ورجال الأعمال والشخصيات العامة بل والمسئولون إلي الحفاوة بالسفير الأمريكي الذي يغادر العاصمة المصرية ليصبح معتمدا في العاصمة الإسرائيلية حتي أن أمين عام جامعة الدول العربية الجديد السيد عمرو موسي أقام له مأدبة غداء حرص علي أن يوضح فيها أن ذلك التكريم يأتي منه بصفة شخصية تقديرا لمكانة كيرتزر وتاريخه الدبلوماسي الذي يعتمد علي أسس أخلاقية يدركها الجميع, ويشيد بها كل من تعامل معه, وقد يبدو مثيرا للسخرية أن ذلك السفير الأمريكي اليهودي الذي واجه حملة إعلامية معادية عند تعيينه في القاهرة يواجه الآن حملة مماثلة في إسرائيل تتهمه بالتعاطف مع وجهة النظر العربية, وتفهم ظروف الشعب الفلسطيني برغم ديانته اليهودية وجنسيته الأمريكية! ولكن يبدو أنه قدر كيرتزر أن يكون ذلك هو استقباله عندما يبدأ مهمة كبيرة في إحدي دول الشرق الأوسط خصوصا, أن الظرف العام الذي يمر به النزاع العربي ـ الإسرائيلي يبدو ملتهبا إلي حد التوهج, مضطربا إلي درجة الغليان, متوترا إلي مستوي الإحباط, والأمر في مجمله يفرض علي أن أشير إلي عدد من الملاحظات المرتبطة بالتحول الذي ارتبط بدرجة قبول السفير الأمريكي الذي يغادر اليوم مصر تاركا فيها رصيدا كبيرا من الصداقة والاحترام الذي ربما لم يتمتع به سفير أمريكي سابق عليه, ولعلي أوجز هذه الملاحظات في النقاط التالية: ــ
*أولا: إن الشعب المصري العريق صاحب التقاليد الفكرية الراسخة ووريث الحضارات المتعاقبة يملك عبقرية دائمة تفرق بين عناصر القضية الواحدة فهو لا يخلط بين ديانة شخص ومواقفه ويدرك دائما أن الدين علاقة بين الفرد وخالقه, لا تؤسس بالضرورة لأفكار وسياسات ذات طابع عدائي أو منطق استفزازي, فالتسامح المصري الكبير جعل شعب الكنانة يحتضن الوافد إليه بغض النظر عما يقال عنه او يتردد حوله, والعبرة دائما لديه بالممارسة الفعلية والمواقف الواضحة, وهو شعب متحضر يؤمن بأنه لا تزر وازرة وزر أخري.
* ثانيا: إن المسألة اليهودية لم تعرف طريقها إلي البنيان المصري المتين, فمصر التي خرج منها موسي خائفا يترقب, هي التي عرفت التوحيد قبل الدنيا كلها, وآمنت بالله عندما كانت البشرية غارقة في عبادة الطواطم والاوثان, إنها مصر التي عرفت الديانات السماوية الثلاث وحظيت بالتقدير والعرفان في كتبها المقدسة, كما أنها مصر الحديثة التي لا تبدو طرفا في المسألة اليهودية علي الإطلاق, هل ننسي أن وزير مالية مصر العربية المسلمة كان يهوديا منذ قرابة سبعين عاما فقط عندما تولي قطاوي باشا تلك الوزارة المهمة في ظل حكومات العصر الليبرالي الواقع بين الثورتين(19 ــ1952) ولم يكن هناك وقتها من يشير إلي ديانته أو يغمز علي يهوديته, بل لقد تمتعت العائلات اليهودية بنصيب وافر من الثروة المصرية في مراحل مختلفة من تاريخ الدولة الحديثة علي ضفاف النيل, وكان المصريون البسطاء يذهبون في ثقة إلي الطبيب والجواهرجي ورجل الأعمال دون أن ينظروا إلي يهوديتهم أو يفكروا في ديانتهم, انها تقاليد مصر الرائعة التي خرجت منذ أسابيع قليلة تودع المحامي المصري اليهودي هارون شحاته إلي مثواه الأخير لكي يضمه تراب مصر ويحتويه ثراها الطاهر لأنه كان إبنا بارا بوطنه, متمسكا بالانتماء إليه, محافظا علي رؤية عادلة لصراع يبدو هو فيه طرفا تلقائيا لدي الجانبين في وقت واحد دون أن يسعي هو لذلك ولكنه القدر الذي جعل منه منتميا للوطن المصري ومنتسبا للديانة اليهودية التي استخدمتها إسرائيل تزييفا وتشويها لكي تولد في أحضانها الحركة الصهيونية العالمية.
* ثالثا: إن تجربة دانيال كيرتزر تسجل للمواطن المصري البسيط عمق الرؤية وسلامة النظرة وهي رؤية لا تحمل العداء لكل يهودي كما أنها نظرة لا تتحفظ علي كل أمريكي ولكنها تتسع أيضا لكي تستوعب الإطار الحقيقي للواقع في الشرق الأوسط, والذي يشير بجلاء ووضوح إلي جرائم الاستعمار الاستيطاني في فلسطين والانحياز الأمريكي المتواصل للسياسات الإسرائيلية, فالتفرقة بين عناصر النزاع وعوامل الصراع هي جزء من السمات التاريخية للشعب المصري الذي لا يخلط الأوراق ولا تتداخل لديه الامور ولا يصاب بعمي الألوان.
* رابعا: إن تجربة العمل الدبلوماسي للسفير الأمريكي الذي ينهي عمله في مصر ليبدأ مهمة أخري في إسرائيل سوف تكون بالضرورة عملا غير تقليدي لأن الرؤية المزدوجة للجانبين والفهم المباشر للواقع في الدولتين سوف تتيح له منظورا اوسع يتأمل به ما جري, ويفكر معه فيما يجري, ويتوقع منه ما سوف يجري في هذه المنطقة شديدة الحساسية بالغة الخطورة من خريطة الدنيا, ولاشك أن كيرتزر سوف يتمكن بتدفق آرائه واتساع رؤيته من التواصل الدائم مع الرأي العام المصري والعربي لكي يكون قناة أمينة تعكس نظرة عادلة ــ أو علي الأقل غير منحازة ــ تجاه أطراف الصراع في الشرق الأوسط.
* خامسا: ليتنا نتعلم القيمة الحقيقية للفرصة المتكافئة التي تتاح للدبلوماسي المصري, وهو يتابع أطراف الصراع الدولي أو الإقليمي فمن يري الطرفين أفضل بالضرورة ممن يتعامل مع أحدهما فقط, ولعلي أظن أن جزءا كبيرا من مقومات وزير الخارجية المصري الجديد أحمد ماهر ــ وهي كثيرة ــ أنه كان الدبلوماسي المصري الوحيد الذي خدم سفيرا لبلاده في موسكو ثم واشنطن فرسخت لديه تجربة فريدة للعمل في دولتين كانتا قطبي صراع الحرب الباردة فضلا عن الاختلاف الجوهري في النظم الاجتماعية بينهما, ولاشك أن ثراء تجربة الدبلوماسي إنما تصدر عن خبرته المباشرة وتعامله الواقعي مع الأحداث اليومية في البلد الذي يخدم فيه.
...... إننا إذ نودع السفير الأمريكي الجنسية, اليهودي الديانة, وهو يتجه إلي موقعه الجديد في إسرائيل فإننا نقدر أن له رصيدا كبيرا في بلد لا ينتمي إليه بالديانة علي نحو قد يفوق ذلك الرصيد الذي سوف يناله في الدولة العبرية التي يشارك ابناءها ديانتهم السماوية, ولعل الجميع يدركون أن الدين ليس طرفا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي, ولكن جري استخدامه تاريخيا من جانب إسرائيل علي نطاق واسع لتشويه الحقائق والدخول في متاهات تبدأ بالحديث عن عداء السامية, وتنتهي إلي اضطهاد اليهود في أوروبا, وكأن علي الشعب الفلسطيني أن يدفع بالإنابة عن البشرية فاتورة المسألة اليهودية عبر التاريخ كله! بل إنني أزعم أن دانيال كيرتزر كان يشعر أحيانا بحساسية تتصل بموقعه وشخصه أيضا عندما تكون هناك إشارات نقدية للشخصية اليهودية في الصحافة المصرية انطلاقا من ممارسات إسرائيل وسياسات حكامها ولكن الرجل ــ وهذه شهادة له ــ كان يواجه ذلك بالحوار الهادئ والمناقشة الواقعية, ولقد حضرت له حديثا في الغرفة التجارية المصرية ـ الأمريكية أشار فيه إلي شئ من ذلك واتسع صدره خلال محاضرته لتعقيب مكتوب مني كنت أشير فيه إلي ممارسات مماثلة تجاه العرب في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية, بل إنني عندما تلقيت دعوة منذ اسابيع قليلة لكي أكون متحدثا أمام ذات المحفل فإنني قلت للحاضرين علي موائد الغداء الشهري للغرفة المصرية ـ الأمريكية ــ وقد كانوا خليطا مصريا وأجنبيا من الدبلوماسيين ورجال الأعمال ــ إن الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل سوف يظل عقبة أمام القبول الطوعي للمواطن العربي بالسياسات الأمريكية في المنطقة حتي فيما يتصل بما هو خارج إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي ذاته لأننا ننتظر من الولايات المتحدة الامريكية دورا أكثر موضوعية وأقرب للعدالة مما تنتهجه الآن تجاه طرفي النزاع في الشرق الأوسط ولا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتخلي عن مسئولياتها أو تنسحب من دورها لأن تلك هي ضريبة القوة الأعظم منذ أن سيطرت يوما علي مقادير العالم القديم الإمبراطورية الرومانية إلي أن دخل العالم عصر السيطرة الأمريكية بكل ما لها وما عليها... فليدرك الآن العالم المتحضر من النظرة الرسمية والشعبية في مصر تجاه الدبلوماسي الأمريكي الرفيع دانيال كيرتزر درس الموضوعية التي ترثها الشعوب, والحكمة التي تتحلي بها الأمم, حتي يتوقف الجميع عن المزج الأحمق بين العوامل المتصلة بالجوهر وبين الظروف الشخصية علي الجانب الآخر, فالمهم دائما ان يكون الخيط الرفيع بين العناصر المتداخلة في المكون الواحد أمرا واضحا لا يعتريه خلط, ولا يحيط به جدل, ولا يقف أمامه تعصب, ولقد حرصت من جانبي ــ كمصري معني بالشأن العام ــ أن أقوم ببادرة لم أفعلها من قبل وهي أن أتوجه بموعد لزيارة دانيال كيرتزر بمكتبه بالسفارة الأمريكية بالقاهرة مودعا ومتمنيا تواصل العطاء ومؤكدا روح الشعب المصري التي تتميز بالسماحة والانفتاح وهو ما شعرت به, ونحن نلهث وراء السفير الأمريكي المغادر من حفل توديع إلي آخر, ومن مناسبة تكريم إلي أخري علي امتداد الأسابيع الماضية بشكل يضع وساما جديدا علي صدر الشخصية المصرية التي تعتز بمن ولا تعاقب من لايستحق, تضع الرجال وفق أقدارهم وتحكم عليهم بمواقفهم لأن الأمر في النهاية يتصل بقضية الإنسان الواحد خليفة الله في الأرض الذي عرف الصراع مبكرا منذ أن بدأت جريمة أول قتل في التاريخ أطاح فيها الأخ بأخيه حيث مازال أحفاد إبراهيم يتصارعون فوق أرض الأنبياء منذ جاءت إسرائيل لتحتل وطنا بغير حق, وتطرد شعبا بغير سند, وتمارس انتهاكات اجرامية وتصرفات لا إنسانية, وتستبدل المسألة الفلسطينية بالمسألة اليهودية ب
ينما تتقدم قوافل الشعب الفلسطيني في جسارة وبطولة وبسالة لا نكاد نجد لها نظيرا في التاريخ المعاصر برغم فداحة فاتورة الدم وضراوة آلة الحرب الإسرائيلية, وسقوط الشهداء كل يوم, ولكن تبقي الآمال في سلام شامل وعادل قائمة, وتظل إرادة الشعب العربي صامدة, ويستمر النضال الفلسطيني إلي يوم العودة رغم ويلات الحروب, وعنف المواجهات.
.. فليذهب دانيال كيرتزر إلي إسرائيل, ولكن يبقي الشعب المصري في عقله, حتي ولو كان الشعب الإسرائيلي في قلبه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/6/19/WRIT1.HTM