ذاع صيت رواية الكاتب السوداني الطيب الصالح موسم الهجرة إلي الشمال وهانحن نقتبس عنوانا موازيا نتحدث فيه عن المسألة السودانية التي تمثل شأنا مصريا له أهمية بالغة, كما أن مصر تمثل للسودان شأنا لايمكن إغفاله أو تجاهله حتي أن ملف العلاقات المصرية ـ السودانية قد ظل مفتوحا ومؤثرا منذ منتصف القرن التاسع عشر ولا أظن أنه سوف يغلق أبدا, فالنيل الذي جري بين شطري الوادي ربط بينهما في توءمة أزلية, وقد انصرف الشماليون والجنوبيون إلي التغني الدائم بوحدة الوادي والروابط الوثيقة والعلاقات المتينة ومع ذلك خضعت جسور الاتصال بين القاهرة والخرطوم لموجات شد وجذب بصورة ترتبط بالمناسبات والأحداث وكأنما هي صدي إنساني للأمطار الموسمية علي هضبة الحبشة حيث ينبع النيل, ولعلي أريد أن أعالج في هذا المقال الموجز أهم ملامح العلاقات المصرية ـ السودانية بطريقة غير تقليدية.. دعونا نخرج من إطار المسلمات وعبارات التوءمة والأخوة ووحدة الوادي وتكامل الأشقاء, ودعونا أيضا نقم بعملية غوص في اعماق تلك العلاقة الاستراتيجية المهمة للبلدين معا, والأمر في ظني يبدأ بملاحظات لابد من الإشارة إليها:
أولا: إن التاريخ المشترك بين مصر والسودان يقول أشياء كثيرة بعضها إيجابي والآخر سلبي ولكنها في مجملها تصنع إطارا حاكما لعلاقة طويلة المدي عميقة الجذور راسخة البنيان, حتي بقيت تعبيرات تاريخية تفرض نفسها علي طبيعة العلاقة لتوزع قدرا لا بأس به من الحساسيات المترسبة من مثل فتح السودان والإدارة الثنائية والحكم المصري وغيرها من لوازم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, وهي عبارات مازالت أصداء تأثيرها قائمة حتي اليوم.
ثانيا: إنه علي الرغم من ارتباط عروبة السودان وإسلامه بشمال الوادي في مصر إلا أنه لحسن الحظ فإن علاقات مصر التاريخية بجنوب السودان لاتقل أهمية وارتباطا حتي لو كانت العروبة غائبة والإسلام محدودا, والفضل يرجع في ذلك إلي نظرة تاريخية ثاقبة أدركت بها مصر مبكرا أهمية وحدة التراب السوداني والارتباط العضوي بين شماله وجنوبه, إنها نظرة حكيمة برزت في مقدمة السياسات المصرية المتتالية تجاه السودان ولم تقف عند حد النظرة الدينية أو الرؤية القومية, إذ ظلت للسودان خصوصية لدي المصريين يتمتع بها في كل الظروف.
ثالثا: إن دعوة وادي النيل مازالت تمثل نداء عاطفيا يربط مصر بالسودان ويجعل حدود مصر تبدأ استراتيجيا من منابع النيل بينما تمتد حدود السودان استراتيجيا إلي شاطيء البحر المتوسط ومع ذلك فإنني أدعي أن البلدين لم يتمكنا من ترجمة هذه المشاعر إلي واقع ولو محدودا والسبب أيضا هو تراكمات الزمان وحساسيات التاريخ والتدخلات الخارجية, فضلا عن تفاوت النظرة تجاه المصلحة المشتركة إذ أن كلا البلدين يتناولها من جانب مختلف.
رابعا: دعنا نعترف أن انخراط مصر في النهج العروبي ودورها الرائد في دفع التيار القومي ظل له تأثيره السلبي علي الروح المشتركة بين شطري وادي النيل, وتقودنا هذه النقطة بالذات إلي مسألة خلافية حول ثورة1952 في سنواتها الأولي وتأثيره في التباعد الذي جري بين مصر والسودان بدءا من رقصة صلاح سالم الشهيرة في الجنوب إلي التحول الذي طرأ علي ارتباطات إسماعيل الأزهري, ونحن نزعم ـــ ويختلف معنا البعض ـــ أن الصراع علي السلطة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر كان له أثره في تغليب توجهات مصر نحو المشرق العربي علي حساب توجهاته التقليدية تجاه جنوب الوادي.
خامسا: إنني أري أن مصر الثورة لم تستوعب ــ لأسباب تتصل بالصراعات والتحديات والمواجهات ــ أن وحدة وادي النيل لا تتعارض مع التيار القومي العربي بل تعتبر أحد مكوناته وروافده شأنها في ذلك شأن دعوة الهلال الخصيب في إطار سوريا الكبري أو ما تشكل مؤخرا من مجالس إقليمية تحت مظلة القومية ودون تناقض مع شعارات الوحدة العربية الشاملة, لذلك فإنني أتصور أن خطأ التباعد بين مصر والسودان قد تحول إلي خطيئة مع تعاقب النظم وتقدم حركة الأجيال الجديدة.
.. هذه ملاحظات مبدئية أردت أن أقدم بها للمسألة السودانية التي تمثل جوهرا حاكما في مستقبل الدور المصري وسياسته الخارجية, فأنا ممن يظنون ـــ ومعي جمهرة من المعنيين بهذا الشأن ـ أن السودان يجب أن يتصدر أولويات سياستنا الخارجية, وإذا كان الصراع العربي ـ الإسرائيلي قد شدنا بالضرورة نحو الشمال الشرقي فإن منطق التاريخ وثوابت الجغرافيا لابد أن تشدنا للنظر جنوبا, فالسودان الذي يعاني من مشكلات عديدة ومتداخلة تؤثر علي استقراره وتهدد وحدة ترابه الوطني وسلامة أرضه الواحدة, يحتاج من مصر دائما إلي أن تكون شريكا متكافئا وطرفا نديا وشقيقا حقيقيا أمام كل التحديات التي تواجه السودان وما أكثرها, وأمام كل العقبات التي تعترض طريقه وما أشدها.
إن الشعب السوداني في نظري يعتبر من أكثر الشعوب العربية والإفريقية إحساسا بالحرية وإيمانا بالديموقراطية ورغبة في التعبير المباشر عن الرأي وإقرار حق الاختلاف دون أن يفسد ذلك للود قضية, ومازلت أذكر أن الرئيس السوداني السابق جعفر النميري حين كان ضيفا علي مصر بينما تطالب السودان باستعادته لمحاكمته, فقد كانت دهشتي كبيرة كلما رأيت زواره ـــ من مختلف الطوائف السياسية السودانية بل ومن السفارة السودانية في القاهرة ـــ يترددون عليه بينما يطالبون رسميا وإعلاميا حينذاك بعودته للمحاكمة!
بل إنني أذكر من طرائف الأدب السياسي السوداني الحديث ما يروي عن حضور أحد أبرز قادة الحركة الشيوعية السودانية إبراهيم النقد لاحتفال بالمدرسة الثانوية التي تخرج فيها مع رئيس الجمهورية الأسبق نميري وذلك في مناسبة يوم للخريجين فيها وبينما كانت السلطات السودانية تتعقب القطب الشيوعي سمحت له مساحة التسامح السوداني التقليدي والروح الديموقراطية التلقائية بأن يلتقي برئيس الجمهورية ـــ زميل دراسته ـــ في الحفل ثم يعاود الاختفاء لكي يكون مطلوبا من جديد للتحقيق معه أمام السلطة السودانية التي تتعقبه, كما أنني أقرر هنا بكل حياد أن ذلك الشعب الشقيق الذي يجيد لغة الحوار ويدرك أهمية الجدل هو شعب مثقف, رفيع القدر, عالي المكانة, ومازلت أذكر من سنوات دراستي للدكتوراه بجامعة لندن أن كتابا للدكتور جمال محمد أحمد وهو سياسي سوداني وصل إلي ارفع الدرجات كان مرجعا يعتد به لاينازعه أحد في موضوعه, كما أنني قد حضرت محاضرة للسيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وحفيد الإمام المهدي ـــ الذي حزن لمقتل جوردون لأنه كان يريده أسيرا يقايض به بريطانيا لاستعادة عرابي من منفاه في يوم كانت فيه مصر والسودان كيانا تاريخيا واحدا لايجادل فيه أحد ــ في قاعة الأمير البرت الكبري في العاصمة البريطانية في مطلع السبعينيات وكان المتحدث هو الصادق المهدي الذي لفت الأنظار يومها وجعلني شخصيا أشعر بالفخار لانتمائنا المشترك لواد واحد وهو يتحدث بإنجليزية رصينة وفكر ثاقب عن السودان وقيمته وأهميته ودوره, إنه شعب يتميز دائما بالعطاء الثقافي والتميز الإنساني
كما أن الله قد منحه روح الإحساس بالمساواة التي لاتفرق كثيرا بين حاكم ومحكوم إذ أنه لحسن حظ السودانيين أن كهنوت الفرعونية لم يصل إلي تقاليدهم السياسية ولم يضع قيدا بين من يملكون السلطة ومن يفتقدون السطوة.
... وهنا دعني أضع أمام القاريء عددا آخر من الملاحظات حول السودان كما أراه اليوم:
1 ـــ إن السودان بلد مستهدف تتطلع قوي كثيرة دولية وإفريقية إلي العبث بشخصيته ذات التعددية وهويته زاهية الألوان, وتحاول الدخول إليه من ثغرات مفتعلة تتوهم دائما وجود صراع تاريخي بين الأصول العربية والأصول الإفريقية أو بين الأغلبية المسلمة في الشمال والأغلبية المسيحية واللادينية في الجنوب, مع التركيز علي اصطناع عدد غير محدود من القيادات ذات الاتجاهات المتناقضة بحيث تصبح السودان في النهاية مركزا دائما للصخب السياسي والضجيج الإقليمي والتدخلات الأجنبية مع شغب متواصل من دول الجوار تجاه دولة شاسعة المساحات, مترامية الأطراف, واسعة الحدود.
2 ـــ إن السودان يربض علي أرض كلها ثروات طبيعية ضخمة, فالنيل يخترقه, والأرض القابلة للزراعة تمتد بآلاف الكيلومترات المربعة والأيدي العاملة متوافرة ولاينقصها إلا الرغبة في العمل والتدريب الحديث عليه, فضلا عن ثروة حيوانية ضخمة وغابات خشبية هائلة, ومع ذلك يتعرض هذا البلد بين الحين والآخر لأزمات اقتصادية واختناقات مادية وانخفاض في مستوي المعيشة قد يصل إلي حد المجاعة في بعض أطرافه الحدودية, وتبدو الدولة التي كانت مرشحة لكي تكون سلة الحبوب للعالم العربي وشرق إفريقيا عاجزة أحيانا عن الوفاء بالتزامات الحياة العصرية ومستوي المعيشة اللائق وهذه معادلة يجب أن يركز عليها الساسة السودانيون جهودهم إذ أن البناء الاقتصادي هو الذي يحدد بالضرورة درجة التقدم الديموقراطي.
3 ــ إن المسرح السياسي السوداني في الشمال يعج بعشرات الرموز ومئات القيادات التي يبدو بعضها أحيانا خارج دائرة العصر, فالأجيال السودانية الجديدة قد لا يعنيها الانتماء إلي الختمية أو الأنصار أو حتيالجبهة الإسلامية لأنهم يتطلعون إلي دولة عصرية تقوم علي احترام التعددية والاعتراف بالغير والتعامل الندي مع الآخر وفقا لقواعد الديموقراطية الصحيحة وأطرها السليمة التي تحافظ علي شخصية السودان وتتصدي لمحاولات ضرب وحدته الوطنية أو تقسيم ترابه الوطني تحت شعارات براقة ظاهرها مقبول ولكن جوهرها خبيث ولعل من أشهرها شعار حق تقرير المصير في الجنوب.
4ـــ إن القيادات السودانية في الشمال والجنوب تدرك بغير استثناء أن صالح السودان في وحدته وتماسك أبنائه ولكن الذي يؤرقني أحيانا هو أن بعض قيادات الشمال التاريخية وزعاماته التقليدية يعنيها أحيانا مصالح ضيقة واهتمامات محدودة يمكن أن تأتي علي حساب المصلحة العليا للسودان دون إدراك حقيقي للمخاطر التي تهدده أو إحساس عميق بالمخاوف التي تحيط به, فهم يتطلعون أحيانا إلي شمال عربي مسلم تستمر فيه أدوارهم وتتواصل زعاماتهم بغض النظر عن القضية الكبري لشعب واحد, وهنا أزعم أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية والإفريقية مازالت تلعب بالورقة السودانية في محاولة للضغط علي الخرطوم في مناسبات عديدة ومواقف مختلفة.
5 ـــ إن شخصية السودان تتجسد أمامي أحيانا في عدد من النماذج ارتبطت بصداقة طيبة مع بعضها فالسيد الصادق المهدي نموذج مبهر للقدرة علي التحليل والرغبة في التنظير مع الاحتفاظ بهامش من حرية الحركة التي تسمح له بوضع متوازن وأبواب مفتوحة مع معظم دول الجوار العربية والإفريقية, وإذا كان العقد الأخير منذ قيام ثورة الإنقاذ قد أتاح لحفيد زعيم الثورة المهدية أن يقترب أكثر من مصر وأن يدرك حب شعبها للسودان بغير تفرقة فإنني أزعم أن القاهرة قد فتحت معه صفحة جديدة سقطت منها كل الحساسيات التاريخية والأوهام المتبادلة, أما السيد محمد عثمان الميرغني وهو زعيم روحي سوداني له وزنه وارتباطه بمصر كأحد الثوابت التاريخية للعلاقة بين شطري الوادي فإنه قد أعطي للمعارضة السودانية صفة العمومية والشمول عندما ترأس التجمع الذي يضم المعارضة الشمالية والجنوبية في وقت واحد برغم الاتفاق أو الاختلاف معها, إلا أن مجرد وحدتها هي مظهر إيجابي يعبر عن كل السودان كما نريده متحدا مترابطا, ولست أنسي في النهاية شخصية ذلك السوداني النابه الذي تربطني به صداقة أعتز بها برغم بعض الاختلافات في وجهات النظر وأعني به الدبلوماسي صاحب الكفاءات العالية والقدرات المشهودة ابن الشمال المسلم الدكتور منصور خالد ــ وهو يعمل مستشارا لجون جارانج ذلك الزعيم الجنوبي المسيحي الذي يحرص علي أن يردد في كل عاصمة يزورها ما تريد أن تسمعه ــ الذي يملك أعدادا كبيرة من مفاتيح اللعبة وقنوات الاتصال مع قبول أمريكي وغربي عام يمكن توظيفه هو وغيره لصالح السودان الجديد.
إنني أكتب هذه السطور وقلبي يخفق لعشرات من العلاقات الوثيقة التي تربطني بأصدقاء من السودان الشقيق عرفت بعضهم في سنوات الدراسة الجامعية والبعض الآخر في معترك الحياة السياسية والبعض الثالث من خلال الملفات الدبلوماسية, ولكنني شعرت دائما بأن العلاقات بين شطري الوادي حقيقة وليست شعارا, وحتمية وليست اختيارا, ولكن يدي علي قلبي عندما أفكر في الأجيال الجديدة في مصر والسودان حيث تبدو المعرفة المتبادلة بينهما أقل والروابط التي تجمعهما أضعف لأن سنوات طويلة من التباعد قد أوجدت مساحات من الفراغ بين الأجيال في البلدين قد تصل إلي حد الجفوة أحيانا أو سوء الفهم أحيانا أخري, وأظن أنها مسئوليتنا الأولي لكي نجدد التواصل ونعيد العروة الوثقي بين البلدين, ولن أختتم مقالي بغير مشاهد ثلاثة أسجلها أمام القاريء الأول عندما كنا نودع سفير السودان في نيودلهي إبراهيم طه أيوب ــ وزير الخارجية في منتصف الثمانينيات ــ يومها خرج السلك الدبلوماسي الأجنبي والإفريقي والعربي في الهند عن بكرة أبيه يودع دبلوماسيا متألقا وشخصية غالية علي الجميع بغير استثناء, أما المشهد الثاني فعندما ذهبت ضمن مجموعة السفراء العرب إلي مطار فيينا نستقبل السفير السوداني الجديد الدكتور أحمد عبدالحليم ـــ سفير السودان الحالي في القاهرة ـ وقام العميد بتقديم السفراء العرب إلي القادم الجديد فصافحهم جميعا ولكن عندما تقدم منه سفير مصر خرج عن المألوف واحتضنه مقبلا في وقت كانت فيه العلاقات بين البلدين لاتؤدي إطلاقا إلي ذلك ولكنها دماء النيل التي تجري في الشرايين, أما المشهد الثالث فهو عندما وقفت الدبلوماسية المصرية بتعليمات قوية من الرئيس مبارك ضد تجديد العقوبات علي السودان في وقت كانت فيه الجراح مفتوحة وعتاب القاهرة شديدا ولكن مصر فرقت بين أوجاع القلب التي تفصل بين الشقيقين وبين رؤية العقل التي تربط بينهما دائما ما ظل النيل يجري, وما بقيت ونسات الخرطوم تتحدث بالحب عن جيران الشمال, وما ظلت ندوات القاهرة تفكر وتتطلع إلي السودان, رفيق الزمان, وقرين العصور وتوءم التاريخ.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/5/22/WRIT2.HTM