هل يجري علي الدول ما يجري علي الافراد عندما تثور بينها صدامات دامية ونزاعات طويلة أم ان منطقا آخر يحكم مستقبل العلاقات بين الدول بعد تسوية عادلة او اتفاق مقبول الواقع ان هذا الامر يشغلني كثيرا كلما تأملت تطور العلاقات الدولية المعاصرة والخطوة الانسانية الضخمة التي تحدث عند الانتقال من ويلات الحروب بآثارها الاجتماعية والنفسية الي حالة السلام بتوابعها ونتائجها ولعلي أسوق هنا مشهدا يجسد ما افكر فيه فلقد شاهدت ذلك اللقاء التاريخي بين الرئيس الامريكي السابق' كلينتون' وحشد من الشباب الفيتنامي عندما زار بلدهم قبيل تركه موقعه بأيام قليلة عندما كان يبحث عن ختام مشرف لفترتي رئاسة مثيرة للجدل فريدة الحدث في وقت كانت لعبة احصاء الاصوات في' فلوريدا' تمضي بين الديمقراطيين والجمهوريين علي نحو سوف يبقي في ذاكرة التاريخ الدستوري للولايات المتحدة الامريكية.
لقد تابعنا ذلك اللقاء بين' كلينتون' وابناء وبنات من قصفتهم الطائرات الامريكية وحصدتهم غاراتها علي' فيتنام' في الستينيات ومطلع السبعينيات وقد لاحظت ان اللقاء كان وديا للغاية وأن ترحيب الفيتناميين برئيس الولايات المتحدة الامريكية- الذي شارك في المظاهرات الطلابية المعادية للحرب في مطلع السبعينيات- كان ترحيبا شديدا برغم جراح لم تندمل وذكريات لن تضيع ولعلي اوضح من بداية صدر هذا المقال ان مسار الصراع العربي الاسرائيلي يبدو مختلفا وان كاتب هذه السطور يدرك جيدا الفارق بين طبيعته وبين غيره من النزاعات المعاصرة لأن في صراعنا التاريخي الطويل حقوقا ضائعة وشعوبا متصارعة ومخزونا من المرارة صنع أزمة ثقة ضخمة تحتاج الي جهود اجيال قادمة حتي يكون الحديث وقتها عن النسيان محتملا وعن الغفران واردا ومع ذلك يبقي منطق العلاقات الدولية مختلفا عن منطق العلاقات بين الافراد لأن الدول يمكن لها ان تتخلص من آثار الصراع نتيجة تتابع الاجيال دائما او تغيير القيادات احيانا وهل ننسي المواجهات العسكرية بين بريطانيا وفرنسا في معارك بحرية منذ قرنين من الزمان وهل ننسي حدة العداء بين فرنسا والمانيا في سبعينيات القرن التاسع عشر لذلك فإنني أجازف بالقول بأن ذاكرة الامم تستوعب اكبر التغييرات كما ان روحها تمتص اشد الخلافات ولو كان الامر غير ذلك ما استمرت مسيرة العلاقات بين الدول الي الوفاق والسلام خصوصا أن الاغلب الاعم من النزاعات الدولية هي بين الجيران بكل ما تحمله الكلمة من دلالات البقاء المتصل تاريخيا وانعدام القدرة علي تغيير الموقع جغرافيا فالدول لا تبرح مكانها علي خريطة الدنيا ولا تترك ارضها مهما ضاقت بخلاف مع دولة جار او تعرضت لمتاعب اقليمية لذلك قد يكون الغفران علاجا ولو بعد حين كما يصبح النسيان ضرورة لا بديل عنها احيانا وما اهدف اليه الان هو ان أناقش هذا المنطق الذي تنفرد به علاقات الدول في هذا الشأن وما تتميز به مواقف الامم في هذا السياق ولعلي اوجز ذلك في عدد من الملاحظات اهمها:
اولا: ان مسألة الكرامة الوطنية والحساسية القومية تأتي غالبا في مرحلة لا يكون النزاع بين الدول فيها محسوما كما تكون استجابة لرأي عام منفعل امام عدوان طارئ او موقف لا يقبله ضمير الوطن ولكن اعتياد الشعوب علي ما يحدث ينقلها احيانا من مرحلة اعمال المشاعر الي مرحلة الاعتراف بالحقائق حيث تطفو اعتبارات المصلحة المباشرة فوق اعتبارات الانفعالات العابرة وقد تصحو الامم علي قرارات عقلية لا تخلو من قسوة الواقع ولا تقف عند حدود هزة نفسية مريرة.
ثانيا: ان حيوية العلاقات الدولية تحتوي عوامل الصراع واسباب الوفاق معا ومن تفاعلها المشترك تتحدد مسيرة المجتمع الدولي التي تتعرض لموجات متتالية من الصعود والهبوط لذلك فإن الحرب والسلام ظاهرتان متلازمتان واكبتا تطور الانسانية منذ فجر التاريخ واذا كان مؤرخو العسكرية الدولية قد تحدثوا طويلا عن استرايجيات الحرب النظامية الا انهم قد تجاهلوا دائما الدوافع والظروف التي تفرق بين حروب العدوان وحروب التحرير.. بين حروب العصابات والكفاح المسلح لذلك يبقي دائما العامل الانساني الذي يقف وراء الحرب ويرتبط بالظاهرة البشرية في تفاعلهما وجموحها وفي انفعالها وتضحياتها.
ثالثا: إن العلاقات بين الدول تملك ميزة لا تتمتع بها العلاقات بين الأفراد إذ تستطيع الدولة إذا غيرت نظامها السياسي- رغم إدراكنا لمفهوم التوارث وتواصل الالتزامات- أن تتنصل من خطايا نظام معين أو تحمل ملكا راحلا أو رئيسا سابقا تبعة التصعيد في نزاع مع دولة أخري والأمثلة علي ذلك كثيرة في تاريخ العلاقات الدولية حيث يؤدي غياب حاكم أو تحول نظام الي انفراج واضح في علاقة دولة بجيرانها أو حتي أعدائها ولذلك فإنني أظن أن المخرج المتاح للدول دائما لا يتاح للأفراد أبدا.
رابعا: إن شخصية الأمة ومزاج الشعب يتحكمان بالضرورة في درجة التسامح الإنساني الذي يؤدي الي روح الغفران أو درجة النسيان فهناك شعوب عصية بطبيعتها تختزن الكراهية وتجيد الثأر ولا تنسي ماحدث ولو بعد مئات السنين هل نسي الأرمن مذابح1915 وهل ينسي اليابانيون ضرب' هيروشيما' و' نجازاكي' عام1945 بل وهل يمكن ان ينسي الفلسطينيون' دير ياسين' أو' صابرا وشاتيلا' إن الحديث سهل ولكن من كانت يده في النار ليس كمن يده في الماء.
خامسا: إنني أزعم أن الإطار الفلسفي لفكر العولمة والتطبيق المؤسسي لآثارها الدولية والاقليمية سوف ينعكس علي روح الغفران الذي نتحدث عنه فالصدام بين ما جاء به مفهوم التدخل الإنساني في القانون الدولي المعاصر من جانب ومبدأ سيادة الدولة من جانب آخر يمكن أن يلعب دورا جديدا في التقريب بين الدول نتيجة سقوط الحواجز وفتح الحدود والحديث المتكرر عن وحدة العالم وحرية انتقال الأفراد والأموال والسلع, حيث تصبح البيئة العالمية أكثر استعدادا لقبول روح الغفران لما حدث. ونسيان الماضي بكل ما له وما عليه.
.. إنني أطرح هذه القضية الآن لكي أناقش بصوت مرتفع شيئا مما يجري في هذه المنطقة من العالم, كما أنني أتساءل هل تطول ذاكرة شعوب الشرق الأوسط لكي تستوعب في المستقبل دروس الماضي وهل تتسع لديها مساحة التسامح لتفتح يوما فاصلا جديدا في حياة الإقليم الذي قدم للعالم الديانات السماوية الثلاث وصدر للبشرية نزاعات طويلة وصراعات دامية لقد كتب الرئيس الأمريكي السابق' جيمي كارتر' يوما عن الصراع الملتهب بين' أحفاد ابراهيم' ولكن بقي أن يعلم أن النزاع يتجاوز ذلك ليكون أيضا بين' أبناء إسماعيل'!
إنني أعترف أن الأمر ليس بالسهولة التي نكتبه بها فالرواسب التاريخية تخلق حساسيات طويلة المدي بين الأقوام والشعوب ومن العبث أن نتصور أن الاتفاقيات تحيل فورا علاقات الأمم من العداء الي الغرام فالمسألة أعقد من ذلك بكثير وهي تتوقف في النهاية علي درجة المصداقية القائمة والثقة المتبادلة والإحساس الواحد بالمصلحة المشتركة في مستقبل يسوده السلام والعدل مع إمكانات التعاون الاقتصادي والتفاعل الثقافي ولكن تظل القضية في النهاية محكومة بشكل التسوية ودرجة العدالة فيها وإحساس كل طرف بحد أدني من التوزان وانعدام الشعور بالإجحاف لأن المانيا الهتلرية اتجهت لغزو دول الجوار الأوروبي معلنة بداية الحرب العالمية الثانية للثأر من هزيمة المانيا الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولي ولعلي أجازف مرة أخري بالتطرق- تحت عنوان هذا المقال- لكي أشير الي الحالة بين العراق والكويت دون أن تكون لدينا شبهة انحياز أو سابقة لموقف مختلف لأن كل ما نسعي إليه هو جو عربي صحي تزدهر فيه الروح القومية ولا تتجاهل فيه الالتزامات الدولية لأنني لا أتصور أن الجوار بين العراق والكويت سوف يظل مصدرا للقلق ومبعثا للتوتر بل قد يكون المطلوب هو العكس بشرط ان يحاسب كل طرف ذاته عن أخطائه وان يعترف بها كمقدمة ضرورية لمصالحة شاملة تعتمد علي أسس رصينة ومبادئ ثابتة وقيم مستقرة تحترم فيها كل دولة سيادة الدولة الأخري في إطار من التفاعل البشري الذي يصنع شبكة مصالح دائمة. تضمن ألا يتكرر ما حدث مهما كانت الظروف خصوصا أن الخلافات بين الدول تنتهي والحساسيات بين الشعوب تزول فما بالنا بدولتين جارتين تنتميان لأمة واحدة وتجمعهما كل روابط الحياة وأسباب الوجود. وإن كنا لا نتجاهل ما يحيط بهذه المسألة من ملابسات وتعقيدات ترتبط بالثقة المفقودة والمصداقية الضائعة ونحن حين نتحدث عن الغفران والنسيان فإننا لا نريدهما أداة لضياع الحقوق أو إجهاض المشاعر أو طمس معالم القضايا الوطنية بل نريدهما علاجا لمرحلة ما بعد قبول التسويات وإقرار الاتفاقات فعندها يكون الحديث عن المستقبل متاحا ويطل الأمل مشرقا وتبتسم الحياة من جديد..
إن خلاصة ما أسعي لإقراره من هذا المقال هو أن الحياة- بكل أبعادها وآفاقها- تقوم علي روح التعايش والخضوع لنظرية الضرورة لأن الحياة في النهاية هي' حلف الأحياء' بكل ما يحمله التعريف من تواصل وتعاون واندماج ولكن حين يتابع المرء قوافل شهداء الانتفاضة وممارسات اسرائيل العدوانية يغمره شعوره بأن الغفران ليس سهلا وأن النسيان يبدو مستحيلا وأن أمام اسرائيل ان تفعل الكثير من أجل تحسين صورتها والحصول علي قبول طوعي بها لان الأمر غاية في التعقيد فالإنسان كيان عاقل يشعر ويفكر وينسي ويتذكر لذلك فإن ما يجري حولنا وما يدور في منطقتنا يثير التساؤل الكبير حول مستقبل التسوية في الشرق الأوسط فضلا عن السلام المنشود ولكن يظل الأمل قائما في نقلة نوعية لهذه المنطقة من العالم حتي تسود روح جديدة ومناخ مختلف يمكن أن يمهد في المدي الطويل الي قبول الغفران والقدرة علي النسيان.. ففي النهاية ينتصر الإنسان.
|