بدعوة من اتحاد المحامين العرب ألقيت محاضرة يوم افتتاح مؤتمرهم بالعاصمة اللبنانية في الأسبوع الماضي وهو مؤتمر دوري جامع ينعقد كل عامين وقد تميز مؤتمر هذا العام بالظروف القومية المحيطة بالمنطقة فضلا عن اكتمال هيكل رئاسة ذلك الاتحاد بوجود نقيب المحامين المصريين وهو يتولي تلقائيا رئاسة اتحاد المحامين العرب بقوة لائحة ذلك الاتحاد الذي يضم عشرات الألوف من رجال القضاء الواقف في مختلف الأقطار العربية وقد طلب مني أمين عام المؤتمر ـ وزير خارجية السودان الأسبق ـ أن يدور حديثي حول آفاق المشروع القومي العربي وفي جو مفعم بروح عربية مسيطرة وشعور قومي غالب تحدثت الي نقباء المحامين وأعضاء النقابات الفرعية وهم خليط من كل الدول العربية بغير استثناء.
ثم جاء الحوار بعد ذلك حرا ومفتوحا حتي امتد اللقاء لأكثر من ثلاث ساعات ويهمني من حصيلة هذا اللقاء أن أسجل شعوري بالمأزق الحقيقي الذي نواجهه نحن العرب في هذه المرحلة وهو ما سوف ينعكس بالضرورة علي العروبة الرسمية التي تلتقي اليوم في أول قمة عربية بالعاصمة الأردنية في ظل نظام الدورية السنوية ولقد قسمت حديثي أمام ذلك العدد الضخم من المحامين العرب في بيروت الي فصول ثلاثة يتحدث الأول فيها عن الشروط المطلوبة مسبقا للحديث عن مشروع قومي عربي وخصصت الثاني لركائز ذلك المشروع بينما افردت الثالث لآليات تحقيقه.
أولا: شروط وجود التصور المبدئي لمشروع قومي عربي:
يذكر التاريخ العربي الحديث مشروعين قوميين للعرب في القرن العشرين أولهما هو مشروع الشريف حسينالذي تطلع لأن يكون ملكا للعرب ثم مشروع جمال عبد الناصرالذي قاد حركة المد القومي لأكثر من خمسة عشر عاما مازالت آثارها باقية في الفكر السياسي المعاصر خصوصا في المشرق العربي وإذا كان المشروعان قد تعرضا للانتكاس لأسباب معروفة إلا أن الحديث الآن عن أي مشروع قومي يقتضي بالضرورة مراجعة أمينة للماضي العربي القريب والأخذ في الاعتبار بكافة التطورات التي جرت علي الساحتين الاقليمية والدولية خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة ويمكن أن نوجز ذلك في النقاط التالية:
1 ـ الحداثة وهي تعني وجود فكر جديد متطور يستوعب المتغيرات ولا يتخلي عن الثوابت ويستلهم روح العصر ولا يعيش في غياهب الماضي وأحلامه.
2 ـ المعاصرة أي أن تكون لهذا المشروع ارتباطات مباشرة بمعطيات عالم اليوم ومفرداته وألا يستند الي فكر انعزالي محاصر يوصد الابواب ويغلق النوافذ.
3 ـ الانتقال من مرحلة العاطفة القومية إلي مرحلة المصلحة المشتركة فالشعوب قد تطربها الشعارات حينا وتستهويها الأحلام العريضة حينا آخر ولكنها تفيق يوما لتنظر حولها بحثا عن شبكة مصالح غائبة أو تركيبة منافع متبادلة لم يتحقق منها شئ ملموس.
ثانيا: ركائز المشروع القومي العربي:
يتعين علي كل عربي مخلص أن يضع النزاع العربي الاسرائيلي في مكانه الطبيعي بغير تهويل أو تهوين ودون انسياق وراء موجة تفاؤل عارضة أو استسلام لروح التشاؤم العابر فالأصل في العلاقات الدولية هو الصراع الدائم والنزاع المستمر والسلام برغم أنه حالة طبيعية إلا أنه لا يكتمل دائما ولا يستمر أبدا لذلك فإن الركيزة الأولي لأي مشروع قومي عربي يجب ان تأخذ العلاقات بين العرب واسرائيل- وفي قلبها القضية الفلسطينية- من منظور واقعي يحتوي كل المستجدات ويدرك كل التحولات ولا يعيش أسيرا لفكرة طارئة أو هرولة ساذجة أو تشنج محموم أما الركيزة الثانية فهي مسألة ذات أهمية بالغة ونعني بها ضرورة إعادة ترتيب أوضاع البيت العربي من الداخل فالعرب مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضي بالنظر الي داخلهم قبل التطلع الي خارجهم لأن عددا كبيرا من الدول العربية قد اوقف مسيرة الديموقراطية وعطل برامج التنمية وقام بتأجيل خطوات الإصلاح الاقتصادي والسياسي مكتفيا بتغييرات دستورية شكلية انتظارا ليوم يفتح فيه الستار عن سلام شامل وعادل في المنطقة! وفي ظني أن مثل ذلك الفصل الجديد من مسرحية الشرق الأوسط لن يتحقق بهذه الصورة أو في وقت قريب لأن أقصي مانتطلع اليه هو الوصول لاتفاقية سلام شامل وعادل تقبلها الأطراف المعنية وذلك لن يكون بالضرورة هو نهاية المطاف للصراع الذي يتخذ صورا أخري أو أشكالا مختلفة من هنا فإن الحلقة الشريرة التي وضع العرب أنفسهم فيها بغياب الدولة العربية العصرية في مواجهة الدولة العبرية المتقدمة أقول إن هذه الحلقة يجب كسرها بصحوة عقل وقرار إرادي يتحرك به العرب تجاه مساحة واسعة من الديموقراطية وقدر كبير من المشاركة السياسية مع فتح أبواب الحريات العامة فتلك هي نغمة العصر ومعزوفة المستقبل أما الركيزة الثالثة فهي تلك المتعلقة بطبيعة العلاقات العربية/ العربية وما يعتريها من مشكلات وما يلحق بها من حساسيات فلقد حان وقت تغليب المصلحة العربية العليا والتوقف عن المضي في سياسات قطرية ضيقة الأفق مع ضرورة الانطلاق نحو غايات واسعة تحتوي الحاضر وتستعد للقادم وتخرج من إطار التخلف السياسي والهوان القومي أما الركيزة الرابعة فهي تلك المتصلة بالقوي الخارجية وتأثيرها في المنطقة خصوصا أننا لا ننكر أن تيار العولمة قد حمل معه اجتهادات لعل أبرزها هو موضوع' التدخل الانساني في القانون الدولي المعاصر' بما ينطوي عليه احيانا من مساس بنظرية سيادة الدولة بكل اطمئنان أن انهيار مشروعي الشريف حسين و جمال عبد الناصر قد جاء نتيجة تدخلات القوي الخارجية وعبثها بالساحة القومية من خلال أدوات مختلفة وأجهزة متعددة.
ثالثا: الآليات:
كلما جري حديث عن العمل العربي المشترك فإنه يستخدم في الغالب لغة التمني وعبارات هي أقرب الي الشعارات المطاطة منها الي الافكار المحددة بحيث يتحول الأمر الي حديث مرسل لا معني له لذلك فإن فصل الخطاب في الانتقال من مرحلة العموميات الي الدخول في مرحلة الأفكار المدروسة والاجراءات الواضحة يستلزم بالضرورة الانتقال ايضا من الحديث عن الشروط العامة والركائز الاساسية الي الحديث عن الآليات وعلي الرغم من أن هذه الكلمات جديدة علي اللغة العربية فإنه لا بديل عنها للتعبير عن العلاقة بين البرامج في المدي القصير وعنصر الوقت ذلك لأن الآليات ترتبط بجدول زمني محدد ولا تكتفي بأن تكون إعلانا مبهما أو شعارا غامضا من هنا فإننا نرصد منها امام القمة العربية التي تنعقد في عمان بالأردن مايلي:
1 ـ ضرورة إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للعمل العربي المشترك وهو أمر يدعو الي البحث في الاوضاع المختلفة لجامعة الدول العربية بدءا من الميثاق مرورا بالأمانة العامة وصولا الي موقف الدول العربية المختلفة من تلك المنظمة التي نطلق عليها بيت العرب وهنا لابد ان نلفت النظر الي ان جامعة الدول العربية ليست هي الأمين العام وحده بحيث لا نتصور أن مجرد تغيير الأمين العام يعني الارتقاء بتلك المؤسسة الجامعة فالأمر فيما أعتقد يتجاوز ذلك بكثير ويبدأ أساسا من ضرورة توافر عنصر الإرادة السياسية لدي الدول العربية المختلفة ورغبتها في تنشيط الجامعة وتأكيد دورها وتجديد روحها بحيث تصبح منظمة إقليمية عصرية تضع للقضايا الاقتصادية والثقافية والاجتماعية أهمية لا تقل عن القضايا السياسية كما أنه قد حان الوقت لتفعيل المؤسسات الاقتصادية للعمل العربي المشترك والتفكير جديا في إقرار مسألة محكمة العدل العربية وعلي الذين يهاجمون جامعة الدول العربية ويصفونها بأنها ثلاجة علي ضفاف نيل القاهرة أن يدركوا أنها الرمز الوحيد الباقي لكيان عربي مشترك في ظل ظروف بالغة الحساسية شديدة التعقيد.
2 ـ إن البحث في تكتل اقتصادي عربي قد اصبح ضرورة ذات أولوية واضحة فالعالم يسعي الي التجمعات الاقتصادية المؤثرة ويحرك السياسات الدولية من خلال الشركات متعددة الجنسية أو عابرة القارات ولا يمكن تصور أوضاع أمتنا العربية من الناحية الاقتصادية بالصورة التي هي عليه الآن فأرقام التجارة البينية بين الدول العربية متدنية للغاية كما أن معظم الاقتصاديات العربية متشابهة وهو ما يؤثر سلبا علي حجم التبادل التجاري بينها ولكن الأمر يختلف في ظني إذا تناولناه من زاوية واقعية تقتنع بالبدايات المتواضعة وتمضي وراءها بجدية واستمرارية تسمح لها بالاستقرار والتقدم وعلي سبيل المثال فإن مسألة التجارة البينية بين الدول العربية يمكن ان تخضع لدراسات محايدة تعطي لكل قطر عربي حق التركيز علي ميزاته النسبية اقتصاديا في مواجهة الأطراف العربية الأخري كما أن مسألة البحث- ولو بخطوات بطيئة ـ في توحيد النظام الجمركي والضريبي بين الدول العربية وهي مسألة أولوية, نحن ندرك مسبقا صعوبة مثل هذه الخطوات في ظل البيروقراطية الوظيفية ولا أقول الحساسيات القطرية أيضا لأننا نعلم جميعا ان حركة انتقال الافراد والسلع ورؤوس الاموال بين الدول العربية تبدو احيانا اصعب بكثير من انتقالها بين تلك الدول العربية والعالم الخارجي وتلك نقطة جديرة بالتأمل اذ لا يعاني المواطن العربي ما يعانيه في المطارات العربية المختلفة وذلك نتاج لأزمة ثقة كامنة وحصاد لحساسيات صامتة تراكمت بالممارسة عبر السنين كما ان الحديث عن السوق العربية المشتركة هو الآخر حديث ذو شجون فقد طال ترديده الي حد اليأس وتكرر الاعلان عنه الي درجة الملل فالاوروبيون الذين احالوا تجمع الفحم والصلب الي اتفاقية للسوق الاوروبية المشتركة في روما عام1957 ثم مضوا بخطوات ثابتة وئيدة وبقرار ديمقراطي داخل كل دولة قد تمكنوا في النهاية من الوصول الي الاتحاد الاوروبي الذي نشهده الآن ونحن في الدول العربية نتحدث صباح مساء عن السوق العربية المشتركة ولكن الارادة السياسية لا تخدم ذلك الهدف ولا تسعي جديا لتحقيقه فالبعض يريدها والبعض الآخر لا يتحمس لها واغلبية بينهما تكتفي بالايماء ولا تفكر جديا في اي موقف فاعل لذلك فإن الدعوة الي قمة اقتصادية عربية في نوفمبر من هذا العام قد تكون فرصة تاريخية للدخول عمليا في مقدمات ما نطلق عليه السوق العربية المشتركة وليس ذلك امرا بعيدا عن المسرح السياسي في الشرق الاوسط فعندما يتحول العرب الي قوة اقتصادية تستند الي ركيزة ديمقراطية فانني ابشر عندئذ فقط بتفوق في كل صراع مع قدرة علي مواجهة اي نزاع.
3 ـ ان شبكة خدمات تربط بين الاقطار العربية المختلفة هي المقدمة الضرورية والطبيعية لخلق المصلحة المشتركة التي نعتبرها اليوم جوهر المسألة القومية فعندما يمتد الربط الكهربائي وخطوط الغاز وشبكة الطرق بين الدول العربية المختلفة فإننا نكون بذلك قد اضفنا الي التجمع الاقليمي العربي علي مستوي الانتاج تجانسا اقليميا عربيا اخر علي مستوي الخدمات لا يقل عنه بل قد يزيد ولابد هنا من الاشارة لنقطة لا يمكن اغفالها وهي ان اية محاولة للتكتل او الاندماج او صنع شبكة من المصالح انما تقتضي بالضرورة درجة من التنازل المتبادل بين الاطراف الراغبة في ذلك التكتل او الساعية الي ذلك الاندماج وهنا تبرز من جديد قضية الارادة السياسية التي تقف خلف كل قرار اقتصاديا كان ام ثقافيا علي كل المستويات العربية.
4 ـ ان التجمعات الاقليمية العربية من نوع مجلس التعاون الخليجي او الاتحاد المغاربي او تجمع دول الشام الكبير ومعها العراق او وادي النيل ومعه ليبيا ان كل هذه التجمعات هي سند للتكتل العربي وتعبيد للطريق نحو المستقبل و يجب ألا نتصور ابدا ان مثل هذه التجمعات هي خصم من دور جامعة الدول العربية او منافس لها او عبء عليها.
وأسجل هنا انني قد لاحظت من محاضرتي الاخيرة في بيروت حماسا عربيا مشرقيا يعيد الي الاذهان افكار الهلال الخصيب ويجدد اطروحات زعيم الحزب القومي السوري انطون سعادة ونحن لسنا ضد ذلك بشرط الا يكون فيه ولو من بعيد شبهة تكريس عزل مصر عن المشرق العربي لان ذلك هدف للسياسة الاسرائيلية تسعي اليه منذ سنوات.
هذه بعض الرؤي والتصورات طرحتها في العاصمة اللبنانية ونحن نرنو بابصارنا نحو العاصمة الاردنية نتحمس للقمة العربية العادية ونأمل منها التغلب علي تحديات هذه المرحلة الحاسمة في تاريخنا وازاحة عقبات هذا الزمان العربي الصعب كما ندرك ايضا ان الطريق ليس سهلا وان الاجواء ليست صافية وان الغيوم ماسزالت تحجب شمس التضامن العربي الي جانب مناخ التوتر الذي صنعته الاحداث التي تدور حاليا في الارض الفلسطينية المحتلة ولكن يبقي الامل كبيرا في قمة عربية نرجو ان تتسم بقوة الحكمة وحزم الارادة ووضوح الرؤية مع خطاب سياسي جديد يعكس الواقع ويستوعب المتغير ويخاطب الآخر اننا نريد من عمان الاردن قمة جديدة للعقل العربي ولا نريد منها مظاهرة اخري للحماس القومي.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/3/27/WRIT1.HTM