يثير دهشتي تصور صناع السياسة الاسرائيلية لمستقبل الدولة العبرية وأتساءل أحيانا عن جدوي الممارسات الحالية وأساليبها القائمة, إنني أدرك مسبقا أن مصلحة أية دولة هي التي تحدد أهدافها وترسم سياستها ولكني أشعر بالتناقض عندما أكتشف أن تلك السياسات لاتخدم الاهداف المطلوبة ولا الغايات المنتظرة, وإسرائيل في ظني نموذج واضح لذلك فقد ظلت لعقود طويلة تتحدث عن التعايش المشترك والتعاون الإقليمي والقبول بها عضوا في شرق أوسط جديد, وحين اقتربت من تحقيق بعض هذه الأهداف نكصت علي عقبيها وعادت في هرولة واضحة إلي المربع رقم واحد, ألم تنعم اسرائيل باتفاقيتي سلام مع دولتين عربيتين وحزمة من الاتفاقات مع السلطة الفلسطينية وأربعة مكاتب تجارية في دولتين من دول الخليج العربي ودولتين في الشمال الافريقي العربي فضلا عن علاقة دبلوماسية مفاجئة جاءت من دولة عربية علي شاطئ الاطلسي في قفزة فوق الزمان والمكان؟.
وكان المنتظر من إسرائيل والأمر كذلك وفي ظل حديث مكثف عن تسوية دخلت مرحلتها النهائية يعد ان تجاوزت مرحلتها الانتقالية, كان المنتظر منها ان تستثمر هذه النتائج ايجابيا وان تسعي للحصول علي قبول عام في المنطقة بعد ثلاثة مؤتمرات للتعاون الاقتصادي مع الجيران تحت رعاية غربية وقف وراءها شيمون بيريز داعيا للتعاون الإقليمي ورافعا شعاراته تحت مظلة الاشتراكية الدولية احيانا والشرق أوسطية أحيانا أخري, ولكن جاءت النتيجة مختلفة تماما, ففي الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل تكتسب أرضية في بعض الأقطار العربية وبرز دعاة التطبيع يتحدثون عن المستقبل بمنطق التعايش وفلسفة الجوار الآمن, في ظل كل ذلك فوجئنا بزيارة شارون الاستعراضية الاستفزازية للمسجد الاقصي والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلي اندلاع انتفاضة الأقصي وهي لم تكن نتيجة لزيارة شارون وحدها ولكنها جاءت تعبيرا عن الضيق من المماطلات الاسرائيلية في التفاوض والانتهاكات الاسرائيلية علي الأرض, ولم تأخذ إسرائيل رسالة الانتفاضة بجدية ووعي ولكنها فضلت النزول بآلة الحرب الاسرائيلية لسحق الأبرياء وإعدام الأطفال, حتي دخلت بالمنطقة الي أجواء العنف والتوتر ودوائر القلق واليأس, ويهمنا ان نسجل هنا ملامح الموقف الراهن في محاور ثلاثة يتحدث الأول فيها عن العلاقة بين السلام والأمن ويشير الثاني الي سياسة تغيير الواقع علي الأرض خروجا عن الشرعية الدولية بينما يتطرق الثالث الي الرؤية المشتركة للمستقبل.
السلام والأمن
إن الخلط الاسرائيلي بين هذين الأمرين يبدو سببا رئيسيا في جزء كبير مما تواجهه المنطقة وماتعانية منه شعوبها فاسرائيل تعطي الأمن أولوية علي السلام بينما القضية عكسية إذ أنه لا أمن بدون سلام, وهنا يثور تساؤل هل تريد اسرائيل السلام حقا؟ نعم هي تريده ولكن بمنطق مختلف وفهم مغاير فإسرائيل تريد سلاما يضمن لها الأمن والأرض والمياه فضلا عن السيطرة العسكرية والاقتصادية في المنطقة وهذه صفقة يصعب تمريرها لأن منطق الصفقة في حد ذاته يعني حصول كل طرف علي جزء مما يريد ولايعني أبدا أن يستأثر طرف بكل شئ وأن يصفق له الطرف الآخر ويردد معه شعارات السلام ويجاريه في التحدث عن المستقبل المشترك. إن إسرائيل يمكن أن تبيع السلام الحقيقي للعرب لتشتري به الأمن علي الجانب الآخر, ولكن الواقع يشير الي أنها قررت شراء الأمن دون أن تبيع السلام والملاحظ المدقق في كل مواقف إسرائيل المعلنة وأساليبها التفاوضية يدرك أنها تسعي إلي تسكين الأوضاع وتجميد محاولات الحل السلمي من أجل هدف واحد يبدو قصير النظر غير مضمون الاستمرار وأعني به الأمن الوقتي للمواطن الإسرائيلي وهي لاتدرك ـ ولعلها تدرك ولكنها تتجاهل ـ
إن الأمن الحقيقي لا يصنعه إلا منطق القبول بالآخر ورضا الغير به, أما سياسة فرض الأمر الواقع والتلاعب بالمواقف والخروج عن مظلة الشرعية الدولية واستخدام عامل الوقت وتوظيف سياسة توزيع الأدوار, أقول إن ذلك كله لن يحقق لإسرائيل أمنا ولن يمهد لها سلاما, وسياسة اللجوء الدائم إلي القوة ـ في ظل تفاوت إستراتيجي بين إسرائيل والفلسطينيين ـ قد يحقق أحيانا نوعا من القمع ويوحي لإسرائيل بشيء من الأمن ولكن هذه الصورة مؤقتة وتقوم علي الحمق وقصر النظر وغياب الرؤية, وقد يقول قائل كيف غاب ذلك عن إسرائيل ولديها رصيد ضخم من العقول المفكرة في كل الاتجاهات, وهنا يكون الرد بأن القضية ليست في العقل الإسرائيلي ولكنها تكمن في وجدانها الذي تشبع بفلسفة الجيتو وتراكمت عليه المخاوف التاريخية وعبثت به التجارب في مراحل مختلفة بصورة أدت إلي ما نراه اليوم, وخلاصة القول في هذه النقطة هي أن العلاقة بين السلام والأمن ليست علاقة تبادلية ولكنها علاقة تؤكد تبعية الأمن للسلام لأن الأخير هو المتغير المستقل الذي تتبعه مظاهر الحياة الآمنة وكل حديث عن الأمن في غياب التسوية السلمية هو حديث مغلوط يقوم علي تفكير طائش ورؤية موقتة ونظرة ضبابية, إذ كيف يتحقق الأمن في ظل اغتصاب طرف لحقوق آخر وانتهاك سيادته والاستهانة بمقدساته.
الأرض والشرعية
يجب أن أعترف بأن إسرائيل قد نجحت في تغيير معالم الأرض المحتلة وضربت بالشرعية الدولية وقراراتها المتتالية عرض الحائط, ولعل وضع القدس هو واحد من هذه الأمثلة الصارخة فنحن حين نتحدث عن القدس لا نعرف تحديدا عن أي قدس نتحدث إن قدس عام1967 تختلف عن القدس الآن فقد سارعت إسرائيل بالتلاعب المستمر في خريطة المدينة أفقيا ورأسيا وتمكنت من القيام بعملية تشويه مستمرة للجزء الشرقي منها بحيث أصبحت مساحة الضفة الغربية كلها موضعا للجدل ومثارا للنقاش, ولست أنسي أنه في مفاوضات عام2000 علي المسار السوري أبدي الإسرائيليون ــ بعد إنكار طويل ـ استعدادا للتسليم بشيء مما سمي بوديعة رابين حول حتمية الانسحاب الإسرائيلي إلي خطوط الرابع من يونيو حزيران عام1967 ولكن إسرائيل أعلنت في الوقت ذاته عن مطالب أخري علي شاطيء بحيرة طبرية وكأنها تأخذ بالشمال ما وافقت علي إعادته لأصحابه باليمين, فعندما لم تتمكن من المجاهرة صراحة بحدود سوريا عام1967 فإنها لجأت تحت بند المياه إلي طلب نفس التغييرات بصورة غير مباشرة, وتلك هي إسرائيل دائما, مراوغة مستمرة بالانتقال من بند إلي بند دون اكتمال للتفاوض حول أي منها مع لعب مستمر بين المسارات بل والقيام بعملية مقايضة للمسائل المختلفة داخل المسار الواحد, ومادمنا نتحدث عن الأرض الشرعية فإن سياسة الاستيطان الإسرائيلي ـ الذي ينتشر بصورة سرطانية مبعثرة في أرجاء الأرض الفلسطينية المحتلة, ـ تلك السياسة الاستيطانية العدوانية هي نموذج صارخ لسعي إسرائيل نحو تغيير المعالم علي الأرض وتمزيق الدولة الفلسطينية قبل أن تولد, وإسرائيل تتصور وهما أن الجرافات تصنع أمنا, وأن المستوطنات تقيم سلاما, وأن الصدام اليومي مع الشعب الفلسطيني يمكن أن يحقق قبولا بالأمر الواقع ونزولا عن سقف المطالب الفلسطينية المستندة إلي الشرعية الدولية التي تجسدت في قرارات مجلس الأمن وغيرها من القرارات ذات الصلة, إن إسرائيل في ظني تملك سياسة طويلة المدي تقوم علي دحر الطرف الآخر وإرهابه وترويع كل من يحاول مواجهة إسرائيل فالتهديدات تشير إلي الأهداف السورية في لبنان بل وتتجاوز كل الخطوط الحمراء لكي يتحدث بعضهم هناك عن إمكانية ضرب السد العالي, وهي في ظني تصريحات غير مسئولة تكشف عن حالة الاضطراب في العقل الإسرائيلي وتشير الي نياته العدوانية وروحه الآثمة, ولعلنا نلاحظ أيضا أن إسرائيل تحاول اللعب بعامل الوقت تحت وهم أن ما يرفضه العرب اليوم سوف يقبلونه غدا وأنه كلما طال الوقت فإن الفلسطينيين سوف يتم تدجينهم بحكم العادة وتقادم الزمن وتواتر الممارسة اليومية, وهذه كلها خصائص للفكر العنكبوتي الذي تستند اليه اسرائيل في التعامل مع الطرف الآخر من الصراع الطويل ويعزز هذا التصور لجوؤها الي أسلوب الصفقة المنفردة للتفاوض المباشر مع كل طرف عربي علي حدة, ذلك لأنها لا تريد مظلة الشرعية الدولية بل وتسعي الي التخلص نهائيا من القرارات242 و338 و194 باعتبارها مراجع حاسمة فيما يتصل بالأرض المحتلة وحق العودة وهي أمور تجادل فيها اسرائيل علي مائدة المفاوضات وفوق الأرض في آن واحد.
رؤية المستقبل
لقد نشطت جماعات السلام المشتركة بين اسرائيل والعرب وظهرت مجموعة من أميز المثقفين المصريين ـ الذين لا يجادل أحد في حسهم القومي وشعورهم الوطني ـ في محاولة للالتحام بقوي نظيرة من المثقفين وقدامي الساسة في إسرائيل, وظل ذلك الجهد لسنوات مضت مصدر جدل وموضع نقاش ولكننا لاحظنا أنه منذ انتفاضة الأقصي فإن صوت تلك الجماعات المشتركة قد خفت الي حد الاختفاء بحيث جري فرز تلقائي وضع كل جماعة في معسكرها الأصلي وبرغم اتصالات محدودة ومراسلات قليلة بين طرفي تلك الجماعات إلا أن جهدها من أجل مواجهة الموقف المحتدم لم يكن له وجود ظاهر ولعل أحد أسباب ذلك ـ في رأيي ـ أن تلك الجماعات المشتركة قد ركزت دائما علي تصور المستقبل بعد التسوية بكل احتمالاته الوردية دون النظر الي عقبات الوصول الي التسوية ذاتها, ولذلك فإن دورها قد توقف عندما بدأت الحاجة اليه, ولقد سألت واحدا من أقرب أصدقائي وله دور رصين في جهد تلك الجماعات المشتركة فكان رده عن تفسير غياب دورهم في الشهور الأخيرة أن ذلك يرجع الي أن الظروف غير مواتية للحديث عن السلام في ظل الرصاص الاسرائيلي ودائرة العنف التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم فوق الأرض المحتلة, ولقد أكبرت فيه ذلك الرد الذي يعكس الروح القومية قبل أن يتعلق بالتسوية السلمية, ولعلني هنا أوضح نفسي صراحة لكي أقول أنني لست ضد القبول الطوعي الآمن بإسرائيل دولة في الشرق الأوسط أو الدخول في مراحل من التعاون الاقليمي في ظل فلسفة التعايش المشترك بين الشعوب المجاورة ولكني أبادر وفي نفس اللحظة لكي أسجل أن القبول بذلك كله يبدو مستحيلا بغير حصول الفلسطينيين علي حقوقهم المشروعة وانسحاب اسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة عام1967 مع وجود ضمانات محددة لحدود الدولة العبرية في اتفاق تعاقدي مع كل أطراف النزاع, وفي ظني دون اغراق في التشاؤم أو استسلام لمنطق اليأس أن ذلك الأمر يبدو الان أبعد من أي وقت مضي خصوصا في السنوات العشر الأخيرة منذ ميلاد صيغة مدريد حتي الآن, فلقد ضربت اسرائيل روح التعايش المشترك في مقتل حتي أن عرب اسرائيل ممن يقيمون داخلها منذ عام1948 ويحملون جنسيتها لم يسلموا من عدوانها, وعلي الجانب الآخر فإن المستوطنين الاسرائيليين قد مارسوا نوعا من الإرهاب اليومي ضد المدنيين الفلسطينيين, لذلك فإنني أزعم أن الشهور الأخيرة قد صنعت حاجزا نفسيا جديدا بين اسرائيل والعرب كنا نتصور وهما أنه كان يتجه الي زوال, وعندما يتحدث الاسرائيليون عن السلام البارد مع مصر فإن عليهم أن يتأملوا هذه النقطة بالذات وهي المتصلة بمصداقية اسرائيل ونظرة الشعوب العربية لجديتها في السعي نحو السلام ورغبتها الحقيقية في أن تكون عضوا متكافئا مع غيرها من دول الشرق الأوسط دون تمييز لها علي حساب الغير ومع تسليم منها بالأطر الصحيحة لقرارات الشرعية الدولية دون تلاعب في التفسير أو مراوغة في التفاوض أو مماطلة في التنفيذ, فالشعب المصري الذي كان أول من وقع يبدو الآن وكأنه آخر من طبع! والسبب ببساطة هو أنه كلما بدأت إجراءات بناء الثقة بين الطرفين فإن اسرائيل تهرول بالعودة الي الوراء وتعيد المنطقة الي أجواء العنف والتوتر والمواجهة اليومية الدائمة, وفي ظني ـ وأرجو أن أكون مخطئا ـ أن أقصي ما يمكن أن تسعي اليه إسرائيل هو تحقيق تسوية تعاقدية مع الدول العربية فرادي ولكنها ليست جادة حتي الان في الوصول الي سلام عادل وشامل في المنطقة.
خلاصة القول أنني أزعم أن اسرائيل تخلط دائما بين السلام والأمن,. وبين الأرض والشرعية, وتوظف المستقبل المجهول لخدمة الحاضر القلق, وفوق ذلك كله وربما قبله فإنها تسعي لعملية خلط واضحة بين التسوية التعاقدية والسلام الشامل وكأنها لا تدرك أن التعايش المشترك والتعاون الاقليمي ربما تصنعهما روح جديدة تقوم علي الثقة المتبادلة والمصداقية القائمة, والالتزامات المشتركة, فالتسوية السلمية شأن الحكومات أما السلام فهو دائما نتاج الشعوب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/3/13/WRIT1.HTM