أريـد أن اطرح في هذا المقال قضية تدعو إلي الدراسة وتستحق التأمل وأعني بها المقارنة بين دور الفرد ودور المؤسسة في الحياة العامة المصرية, ولقد ثار هذا الأمر في ذهني واحتل مساحة من تفكيري بعد حوار مع باحث أجنبي يترأس احدي الهيئات الدولية في القاهرة, لقد قال لي محدثي إنه قد شعر من خلال تعامله مع المثقفين المصريين سواء كانوا مسئولين أو شخصيات عامة أو مفكرين ومبدعين, وعمله يقتضي منه كثرة التعامل معهم والارتباط بهم ـ أن لدينا في مصر خصوصية تعتبر دراستها مدخلا رئيسيا لفهم شخصية مصر المعاصرة, اذ يبدو دور الفرد واضحا وقويا, بينما يتواري خلفه دور المؤسسة التي يتحدث باسمها ويعبر عن فكرها, وينسحب الأمر في ذلك علي المؤسسات الرسمية والأهلية أيضا, وتلك ظاهرة تعبر عن سيادة النمط المصري تاريخيا وسطوته علي السلطة والمجتمع المدني في آن واحد.
ولقد أثار الحوار مع ذلك الباحث واسع الخبرة غزير الثقافة رد فعل عميق لدي وأكاد أزعم أنه وضع يدي من غير أن يشعر علي قضية حاكمة ومفتاح أساسي في كثير من القضايا والمسائل التي أفكر فيها ولا أصل إلي رؤية واضحة بشأنها, ولعله من المفيد هنا أن أوضح الأمر أكثر فأقول إنني سوف أتناول هنا العلاقة بين الفرد والمؤسسة في إطارها الموروث وتداعياته المستمرة, لذلك فإنني اطرح هنا بعض الأفكار التي قد تعين في فهم ذلك الأمر المهم والذي تتجسد من خلاله مشاكلنا الكبري وقضايانا المعاصرة ولعلي أوجز هذه الأفكار في الملاحظات التالية:
أولا: إننا لاننكر دور الفرد في التاريخ, وندرك جيدا أن أفرادا قد صنعوا نقاط تحول حاسمة في تاريخ الأمم والشعوب, بل كان منهم من يعتبر نقطة تحول كبري في تاريخ الجنس البشري, كله لذلك فإننا لانتصور أن دور الفرد شيء لا وجود له, كما أننا نعترف بالبصمة القوية للفرد في مسيرة الحياة ولكننا نقول هنا وبكل صراحة: إن حجم الفرد في المنطقة التي نعيش فيها من العالم يبدو أكثر مما يجب ويتجاوز حدود التوازن بينه وبين المؤسسة التي يجلس علي قمتها, ومصر بالذات باعتبارها مجتمعا نهريا زراعيا قديما عرف الإدارة مبكرا, فإننا نستطيع القول إن دور الفرد فيه كان هو الآخر مؤثرا وواضحا علي مر العصور, بل إن الخطاب الديني في الكتب المقدسة يتحدث عن الفرد علي قمة المؤسسة المصرية ويشير إليه باعتباره رمز التعامل وطريق الوصول, فالتراث المصري حافل بالسجلات الطويلة لطغيان دور الفرد علي المؤسسة وبروزه كمتحدث قوي باسمها ومعبر اساسيا عنها.
ثانيا: إن التركيز علي دور الفرد ظاهرة مصرية وأنا لاأنكر هنا رمزية اسم الفرد في تشكيل شخصية المؤسسة فنحن حين نتحدث عن رواد التنوير فإننا نذكر رفاعة الطهطاوي وحين نتحدث عن الفلاح المصري في الجيش فإننا نتذكر أحمد عرابي وحين نتحدث عن بنك مصر فإننا مطالبون بالضرورة بالاشارة إلي طلعت حرب ولانذكر الجامعة المصرية دون أن نشير إلي أحمد لطفي السيد وطه حسين, وحيث نتحدث عن المؤسسة الدبلوماسية المصرية فإننا نتذكر اسماء مثل محمود فوزي واسماعيل فهمي وعمرو موسي ولذلك فاننا لاننكر بشكل مطلق ارتباط الفرد بالمؤسسة وتجسيده لها وأهميته فيها وهل نستطيع أن نتحدث عن الطب المصري دون أن نتذكر اسماء أخري مثل علي باشا ابراهيم ونجيب باشا محفوظ وعبدالوهاب باشا مورو وغيرهم من الرموز الشامخة في مسيرة مؤسسة الطب المصري الحديث, لذلك فإنه يجب أن يكون واضحا تماما أن ارتباط الفرد بالمؤسسة قضية مسلم بها ولكن طغيان دوره علي المؤسسة ذاتها هو موضع النقاش ومحل الجدل.
ثالثا: إن جزءا كبيرا من تعظيم دور الفرد علي حساب المؤسسة في مصر يرجع في أصله إلي أهمية السلطة كظاهرة في تاريخ هذا البلد العريق, فالسلطة هي مركز الجاذبية الأولي في حياة المصريين, حولها يلتفون, وإليها ينظرون, ومنها يستمدون كل اسباب القوة ومظاهر المهابة, لذلك فإن لهفة المصريين علي من يشغل الموقع تبدو أكبر بكثير من لهفتهم علي دراسة المؤسسة التي يديرها ومناقشة ما جري فيها وما طرأ عليها, إننا في هذه المنطقة من العالم مولعون بدور الفرد الذي نختزل فيه حجم المؤسسة وننظر إليه باعتباره نقطة الارتكاز وإشارة المرور وعلامة الوجود ذاته.
رابعا: إن إطلاق يد الفرد في إدارة المؤسسة سواء كانت تنتمي إلي هيكل السلطة ونظام الحكم أو تنتمي إلي المجتمع المدني وهيئاته المختلفة يعطي الفرد في النهاية صلاحيات واسعة ويدا شبه مطلقة خصوصا إذا كانت شخصية الفرد من القوة والتأثير بحيث يبدو هو المؤسسة ذاتها وكأننا أمام لويس الرابع عشر حين اختزل فرنسا في ذاته واعتبر أنه الدولة والقياس هنا مع الفارق لأننا نشير إلي المؤسسة ولانتحدث عن الدولة.
خامسا: إن الصعود والهبوط في بورصة الحياة العامة للأفراد يرتبطان في الغالب بمؤسسات ينطلقون منها, وسلطات يتصرفون وفقا لها, وصلاحيات يحوزونها, لذلك فإن الأمر في ظني يرتبط بمحصلة حركة الفرد علي مسرح الحياة العامة وقيمته المتغيرة في سوق السياسة والإدارة واضعين في الاعتبار الركيزة التي يستند إليها, والقاعدة التي ينطلق منها, وذلك ليس أمرا جديدا فتلك قضية عرفتها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة علي السواء.
سادسا: إن تواري التقاليد المهنية وتناقض مظاهر الأعراف الوظيفية أدي بعدد كبير من المؤسسات إلي حالة من الانزواء الذي يصل إلي حد الاختفاء, فأين هي الرموز في عدد من المهن الراسخة والحرف الكبري؟
إننا باستثناء القوات المسلحة والسلك الدبلوماسي والجهاز القضائي وهيئة الشرطة لانكاد نري مؤسسات أخري تناطح نظائرها في تاريخ مصر الحديث.
سابعا: ان الاحزاب السياسية والنقابات المهنية قد اختزلت دورها هي الأخري لتصبح ممثلة في شخوص محددة وأفراد بذاتهم, وهذه النقطة بالذات تشير إلي معضلة المجتمع المدني ومايعتريه من ضعف ومايعترضه من مشكلات, فضلا عن علاقته بالسلطة في إطار الحياة العامة.
إنني أريد أن أقول إن من يتعامل مع مصر المعاصرة يدرك بعد فترة قصيرة أن التميز في الأفراد واضح ولكن قوة المؤسسات لاتبدو بنفس درجة الوضوح, ونحن هنا نتحدث كثيرا عن دولة المؤسسات ونسعي لاقامة توازن حساس بين الفرد والدولة, فلا أقل من ان يأتي هذا التوازن أولا في علاقة الفرد بالمؤسسة, ولست أشك لحظة في أن دوران النخبة هو الذي يمكن أن يسبب الحراك السياسي والاجتماعي الذي يؤدي بدوره إلي تقوية المؤسسات وفك الاشتباك بينها وبين طغيان شخصية الفرد عليها, وعدوانه أحيانا علي تقاليدها واستخدامه لها في أحيان أخري كمصدر للمجد الشخصي والتكوين الذاتي, أقول ذلك وعيني علي وطن ينتمي إلي أعرق أمم الدنيا واقدم حضارات البشر مدركا أن تميز الفرد المصري قضية يسلم بها غيرنا, ويعترف بها سوانا, فاذا ذهبت إلي ندوة علمية أو حضرت تظاهرة ثقافية فانك تدرك علي الفور أنك أمام أفراد يتألقون فكرا ويتميزون ابداعا ولكنهم لاينتمون إلي مؤسسة قوية ولايشكلون تجمعا ناجحا, ولعل ذلك يفسر إلي حد كبير لماذا يتفوق الفرد المصري إذا ما سافر أو هاجر بينما يتجمد ويترهل إذا بقي واستقر؟ أليست هذه قضية جديرة بالتأمل مثيرة للجدل؟ بل إنني أعترف هنا بانني وافقت محدثي ـ الباحث الأجنبي ـ فيما ذهب إليه لأننا نملك ثروة عقلية هائلة ولكنها موزعة علي الأفراد وليست مستقرة لدي المؤسسات التي تتأثر هي الأخري بدورات من الانتعاش والانكماش وحالات من التقدم والتقهقر وفقا لفرد يقود أو شخص يدير.
وهنا نأتي إلي جوهر القضية التي أريد أن أصل إليها وأن أخلص إلي نتائجها, وأعني بها غيبة التقاليد الثابتة والنظم المتطورة والأفكار الواضحة التي تجعل من المؤسسة كيانا لا يتأثر بالأفراد ولايرتبط بوجودهم, ولايزدهر بصعودهم ولا ينزوي بابتعادهم, فالمؤسسة في النهاية هي التي يجب أن تبقي أما الأفراد فهم عابرون مهما يطل البقاء أو تدم المواقع.
***
إننا أمام مسألة شديدة الأهمية بالغة الحساسية في تحولنا الفكري والثقافي والاجتماعي وهي ضرورة أن يدرك العقل المصري أن تقوية المؤسسة ليست دائما علي حساب الفرد ولكنها قد يكون اضافة له وليست خصما عليه, بل إننا نعود من جديد لنسأل السؤال الساذج الذي يتكرر كثيرا من الذي يصنع قيمة الموقع هل هو الفرد الذي يحتله أم أن ذلك الفرد يستمد قيمته من ذلك المنصب الذي يشغله؟ وهنا أسمح لنفسي مرة أخري بأن أكون قاطعا وواضحا عندما أقول إن اختلاط الفرد بالموقع أمر له بريقه, وإذا كنا نحاول غير ذلك عزاء لمسئول أو مجاملة لفرد فان الحقيقة تقول غير ذلك, فنحن في بلد تضرب فيه السلطة بجذورها في اعماق التاريخ, وينظر إليها الناس بانبهار شديد, ولكنه يكون قويا ذلك الذي يدرك غير هذا ويتصرف وفقا لمعطيات ذاتية لاتتأثر بالبورصة العامة في مناصب الحياة السياسية أو مواقعها الوظيفية علي جميع المستويات, فهذا المجتمع النهري العجوز الذي ننتمي إليه قد صنع عبر التاريخ شبكة معقدة من العلاقات بين المواقع المختلفة, وأعطانا واحدا من أكثر الأجهزة الادارية تشابكا وتداخلا, وجعلنا دائما نتمرغ في تراب الميري لانخرج عنه ولانشعر بالأمان دونه, اعتقاد تاريخي عريق بقيمة الموقع وإيمان شبه مطلق بمكانة الفرد, واحساس دائم بأن من يقف علي قمة مؤسسة عامة هو المؤسسة ذاتها في ظل تقاليد تتواري ونظم تتغير وأفكار تنزوي, فإذا كنا نريد بحق دولة المؤسسات الراسخة والهيئات المزدهرة والمجتمع المدني القوي فلابد من البحث في القضية التي يطرحها هذا المقال بشكل عام وهي أهمية تعزيز دور المؤسسة فوق دور الفرد واعطاء الاحزاب والنقابات والهيئات ـ حكومية وأهلية ـ دورا أكثر فاعلية باعتبار دور الفرد تابعا وليس متغيرا مستقلا تتبعه المؤسسة بمن فيها!! وإذا كان الباحث الاجنبي المرموق الذي حاورته قد بهرته اضواء العقليات المصرية المضيئة وشدت انتباهه عناصر التفوق والابداع فيها فإنه يتطلع ـ ونحن نتطلع قبله ـ إلي مؤسسات قوية نستطيع التعامل معها والانطلاق منها والبناء عليها, فالمؤسسات يجب أن تبقي وأن تزدهر, وأن يتعاظم دورها وينتشر تأثيرها أما الأفراد فهم قادمون وذاهبون تأتي بهم قرارات وتذهب بهم أيضا قرارات أخري والأبدية لله والبقاء للأوطان, فالحياة كلها تقوم علي المشاركة في التقاليد, وتداخل الأفكار مع التدابير, وامتزاج الرؤي مع الواقع والتحام البشر من أجل أوطان قوية وأمم زاهرة وشعوب متقدمة, إننا نشير لقضية ونحرض علي التفكير فيها ونسعي إلي حوار موضوعي حولها, يثري الحياة العامة, ويدعم مؤسسات الوطن, ولاينتقص أيضا من قيمة الأفراد.
|