يتطلع العرب إلي مصر كلما طرأ علي الساحة جديد أو ظهرت متغيرات لم تكن قائمة من قبل, ويركزون علي الدور المصري, المنتظر منه الواجب عليه, وقد لا تخلو النغمة المتحمسة من انتقاد يعبر عن الضيق من الوضع العام في المنطقة وتداعياته الطارئة, وهذا قدر الشقيقة الكبري أن تكون قائدة في الحرب رائدة في السلام مسئولة دائما عن الإنتكاسات, وشريك أحيانا في الانتصارات, ولقد أفرز الواقع الدولي والإقليمي في الأسابيع الأخيرة أحداثا أدت إلي تغيير كبير إلي المعادلة التي كانت تحكم أطراف التسوية السلمية في الشرق الأوسط, فنحن أمام إدارة أمريكية مختلفة وحكومة إسرائيلية جديدة وشعب فلسطيني يواصل مقاومته للاحتلال وأمة عربية يتهيأ قادتها لأول قمة عادية بعد إقرار آلية دورية اجتماعاتها سنويا.
وهذا الطرح الذي يقدم أطرافا مختلفة وأوضاعا جديدة يلزمنا بالضرورة أن نقوم بعملية تحليل موضوعي للأحداث من أجل الوصول إلي فهم صحيح لطبيعة الظروف بالغة الحساسية في هذا الظرف القومي المهم وسوف نتناول الأمر برمته عبر محاور ثلاثة يعالج الأول فيها الإدارة الأمريكية الجمهورية, وينصرف الثاني إلي حكومة شارون الإسرائيلية بينما يركز الثالث علي أهمية الروح العربية في هذه المرحلة.
الإدارة الأمريكية
مازالت كل الإشارات الصادرة عن إدارة بوش الابن تعطي انطباعات متداخلة لا تمثل في مجملها سياقا واضحا لسياسة تم اعتمادها أو الاستقرار عليها, وهناك توقعات متعددة لمسار تلك الإدارة تجاه منطقة الشرق الأوسط ويمكن إجمال تلك التوقعات فيما يلي: ـ
1 ـ اتجاه يري أن الرئيس الأمريكي وإدارته لا يريدون المضي علي نهج إدارتي كلينتون في السنوات الثماني الماضية, فهم لا يتحمسون للوجود الأمريكي المستمر في المنطقة من خلال وجود مبعوث دائم أو زيارات مكثفة للرئيس الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط بلغت في إدارة كلينتون رقما قياسيا لم تعرفه الولايات المتحدة الأمريكية من قبل.
2 ـ توحي بعض التصريحات الأمريكية ـ علي قلتها ـ بأن هناك مدرستين للتفكير أمام الإدارة الأمريكية الجديدة تبدو الأولي قريبة الشبه بمنطق إدارة كلينتون في التعامل مع المنطقة, بينما تري المدرسة الثانية الاكتفاء بمتابعة علاقات الطرفين العربي والإسرائيلي وتطوراتها عن قرب والتدخل عند اللزوم فقط دعما لإسرائيل غالبا أو دفعا لعملية السلام أحيانا, ولا حاجة هنا إلي مبعوث أمريكي خاص أو زيارات متكررة للرئيس الأمريكي أو وزير خارجيته إلي المنطقة, والواقع أن هذه المدرسة تلقي حماسا إسرائيليا صامتا يجري التعبير عنه في الكواليس الدبلوماسية دون الإعلان عنه في التصريحات الرسمية, ولكي نكون منصفين فإن هذه المدرسة الفكرية الثانية لن تسيطر علي سياسات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط وحده بل قد تنال بعض المشكلات الأوروبية التي استأثرت باهتمام الرئيس الأمريكي السابق كلينتون مثل المسألة الإيرلندية قدرا من هذا التوجه الأمريكي المحتمل الذي تمثله تلك المدرسة الفكرية الجديدة التي نشير إليها.
3 ـ هناك تصور آخر يري أن إدارة بوش الابن التي تحتوي رموزا كبيرة من إدارة بوش الأب ليست جديدة علي الصراع العربي ـ الإسرائيلي إذ يكفي أن نتذكر أن مؤتمر مدريد في مطلع التسعينيات قد انعقد بمبادرة أمريكية ودعما منها قبل إدارة كلينتون, كما أن أسماء مثل ديك تشيني نائب الرئيس أو كولبن باول وزير الخارجية تمثل قنطرة للتواصل بين إدارة الأب وإدارة الابن, فضلا عن علاقات وثيقة بزعامات الشرق الأوسط وقياداته المختلفة خصوصا في فترة حرب الخليج الثانية.
4 ـ بدأت تظهر علي استحياء نظرية جديدة تروج لها بعض دوائر الجمهوريين المعنيين بشئون الشرق الأوسط حيث يقترحون أن تأخذ إدارتهم قضايا الشرق الأوسط في إطار صفقة متكاملة يدخل فيها الوضع في العراق طرفا موازيا لتطورات التسوية السلمية حتي تحصل الولايات المتحدة الأمريكية علي تنازلات مزدوجة من الجانب العربي في منطقة الخليج وفي الأرض المحتلة في وقت واحد, وهي نظرية خبيثة لأنها تعالج مسألة الثأر الذي ورثه الابن عن أبيه في مواجهة النظام العراقي بغض النظر عن معاناة الحصار أو القلق الأمني في منطقة الخليج العربي كله, إن هذه النظرية قد تحمل في طياتها عملية تعطيل للتسوية السلمية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي كما أنها تحمل أيضا شيئا من النيات غير الطيبة التي تحملها الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه العراق, وقد لا تكون هذه السياسة مفيدة أيضا علي المدي الطويل لدول الخليج العربي وفي مقدمتها دولة الكويت و المملكة العربية السعودية
5 ـ هناك من يفترضون أن نقص خبرة الرئيس الأمريكي الجديد بالشئون الدولية سوف يجعله يسعي تلقائيا إلي مساحة زمنية طويلة لدراسة ملف الشرق الأوسط مع أركان إدارته بغض النظر عن درجة التصعيد بين طرفي المواجهة في الأرض المحتلة علي اعتبار أن عامل الزمن عنصر حاسم في تسوية النزاعات دون تدخل أطراف خارجية, وهي نظرية ابتدعها الداهية هنري كيسنجر منذ قرابة ثلاثة عقود وهي التي تري أن ترك النزاعات لفترات زمنية مختلفة قد يؤدي إلي تقارب وجهات النظر بين أطرافها نتيجة التعود علي الممارسات اليومية لمعطيات الصراع, لذلك يجب ألا تفتح إدارة أمريكية صفحات جديدة في ملف أزمة معينة إلا إذا أخذت في الاعتبار تأثير عامل الوقت وعنصر الزمن.
الوزارة الإسرائيلية
إنني ممن يؤمنون بأنه لا يجب استقبال وصول شارون إلي منصب رئيس الوزراء بشيء من الفزع أو التوتر, نعم إنه يحمل أسوأ سجل تاريخي بين قادة إسرائيل المعاصرين ولكنه في الوقت ذاته لا يختلف كثيرا عنهم, ودعني هنا أطرح وجهة نظري في النقاط التالية: ـ
1 ـ إن ظهور الوجه الحقيقي لإسرائيل أفضل للعرب والفلسطينيين من التعامل مع الأقنعة الزائفة والوعود المعسولة, فرئيس وزراء إسرائيل الجديد شارون يمثل وجه إسرائيل الحقيقي في هذه المرحلة بغير رتوش أو محاولات للتجمل وإذا قارنا بينه وبين زعيم إسرائيلي آخر مثل شيمون بيريز فسوف نكتشف أن القادة الإسرائيليين يتحركون جميعا في إطار دائرة محددة ومربع مشترك, فالأهداف واضحة, والأفكار موحدة, والاستراتيجية طويلة المدي حاضرة في أذهانهم, ولكن البراعة الحقيقية تكمن في لعبة توزيع الأدوار وتخصيص فترات الظهور والاختفاء علي مسرح السياسة والحكم في الدولة العبرية.
2 ـ إن الفارق بين التشدد والاعتدال الإسرائيلي هو فارق في الاسلوب فقط ولكنه لا يمثل مسافة حقيقية في الرؤي والأفكار, فالحمائم والصقور كلها نتاج فلسفة واحدة مع الاختلاف في الأساليب فقط, بل إنني أتساءل ـ وبحسن نية كامل ـ أين الآن الدور المنتظر لجماعات السلام المشتركة بين الإسرائيليين والعرب ؟ إنني أقول إن الذي حدث بعد زيارة شارون الاستعراضية الاستفزازية للمسجد الأقصي واندلاع الانتفاضة الفلسطينية فإن طرفي جماعات السلام ومنهم من يحملون اسم عاصمة أوروبية قد قاموا تلقائيا بعملية فرز للمواقف بحيث ناصر كل جانب طرف النزاع الذي ينتمي إليه ولم يتمكنوا معا من القيام بعمل مشترك في إطار موقف فكري موحد في هذه الظروف التي كانت تستدعي منهم ذلك باستثناء بعض الاتصالات المحدودة أو المراسلات القليلة, إنني أقول ذلك لأنني أحسب أن طرفي النزاع العربي الإسرائيلي لم يحققا بعد انتقالا فعليا من مواقعهم الأصلية تجاه رؤية جديدة لمستقبل هذه المنطقة وأجيالها القادمة.
3 ـ إن عودة الشرق الأوسط إلي أجواء قديمة بفضل السياسات الإسرائيلية في الشهور الأخيرة قد انعكس علي موقف الناخب الإسرائيلي الذي أعطي شارون صوته لا اقتناعا بأنه رجل المرحلة ولكن رفضا لأسلوب باراك في الحكم وسياسته في إدارة الصراع فضلا عن أن شارون هو اللاعب المتاح علي المسرح في هذه المرحلة, والإسرائيلي يعاني تاريخيا من عقدة الأمن ويتوهم أن تصريحات شارون العنترية وممارسته الإرهابية سوف تكونان ضمانا جديدا لأمن المواطن الإسرائيلي أمام الانتفاضة الفلسطينية والتصعيد المحتمل لها في ظل المناخ الذي جلبه وصول شارون إلي السلطة وهو يحمل أفكارا انتحارية للعلاقة بين الفلسطينيين والعرب.
4 ـ دعني هنا أكرر مرة أخري أن التعامل مع التشدد الإسرائيلي أفضل من التعامل مع قوي الاعتدال الإسرائيلي خصوصا علي المستوي الرسمي تحديدا, فالساسة الإسرائيليون الذين ينتمون إلي مدرسة التعامل الأفضل نسبيا مع العرب لم يحققوا تاريخيا نتائج عملية باهرة, فباستثناء حدوث الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في ظل حكومة العمل برئاسة باراك لا نجد في سجل غيره من زعامات حزبه إنجازات باهرة علي مسار التسوية السلمية إلا مع استثناء آخر وهو توقيع اتفاق وادي عربة مع الأردن واضعين في الاعتبار أن انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان كان إنقاذا لها من ورطة حقيقية تحت وطأة المقاومة اللبنانية في الجنوب ولم يكن تجاوبا مع الشرعية الدولية أو المطالبة العربية, كما أن اتفاق السلام مع الأردن كان متاحا ويسيرا لا يحتاج إلي جهود كبيرة أو مفاوضات شاقة, بينما لو نظرنا علي الجانب الاخر فإن الليكود هو الذي وقع اتفاقية السلام مع مصر وهو أيضا الذي واصل الانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينية في ظل حكومة نيتانياهو تنفيذا لاتفاق أوسلو وتوابعه رغم كل مااتصفت به من جمود.
5 ـ إن لهجة الحملات الانتخابية قبل الوصول إلي الحكم تختلف عن لغة القرارات السياسية أثناء ممارسة السلطة. ومع ذلك فإن تصريحات شارون كانت ولاتزال وسوف تظل استفزازية بالطبيعة, فالرجل الذي يقترب عمره من ثلاثة أرباع القرن لا يريد أن يري أبعد من قدميه أو يستشرف المستقبل برؤية عميقة تدرك أن الأمن نتيجة للسلام وليس سببا له, لذلك فإنني لا أتصور أن المسيرة السلمية سوف تحقق خطوات إيجابية في المرحلة القادمة التي لا أتصور لها أن تستمر طويلا, ولكنني أدرك في الوقت ذاته أن الانتفاضة لن تتوقف في ظل تصريحات إسرائيلية ملتهبة أو ممارسات عدوانية مستمرة, وكل مانأمل فيه الآن هو أن تعود الأوضاع إلي مرحلة صيف عام2000 بكل مالها وماعليها. ولكن يبدو أن الظن سوف يخيب فشارون لم يكن عبر تاريخه كله موضع حسن الظن أو صدق النية.
الروح العربية
إذا انتقلنا إلي الصعيد القومي فسوف نجد أننا مطالبون الآن بصحوة حقيقية ووقفة موضوعية للتعامل مع المستجدات التي طرأت علي الساحتين الدولية والإقليمية, ولعلنا نوجز تصورنا لذلك بإيجاز في النقاط التالية: ـ
1 ــ إن الرد العملي والرسالة الواضحة التي يجب أن يوجهها العرب الآن للأطراف الأخري تتمثل في حد أدني من وحدة الصف العربي وتنقية الأجواء بحيث تصبح قمة عمان القادمة وهي أول قمة عربية عادية بعد إضافة ملحق لميثاق الجامعة العربية في هذا الشأن وهو أمر غير مسبوق لم يتحقق طوال خمسين عاما, إن هذه الروح الجديدة سوف تكون هي رد الفعل الإيجابي علي الجانب العربي في هذه الظروف وليس من شك في أن الجهود التي جرت في العام الأخير سوف يكون لها حصادها علي مستقبل العمل العربي المشترك ببعديه السياسي والثقافي. ولا يجب أن تظل مسألة العراق قيدا دائما علي حرية الحركة العربية فقد جاء الوقت الذي يجب أن يرتفع فيه الجميع إلي مستوي مايحدث حتي تكون المصلحة القومية هي صاحبة الكلمة العليا في النهاية.
2 ـ إن تمسك العرب بالسلام ـ العادل والشامل ـ كخيار استراتيجي يجب أن يستمر, فإسرائيل برعت في الحديث عن السلام وهي تمارس العنف والإرهاب الذي يصل إلي حد الحرب الداخلية, ونتحدث نحن العرب عن المواجهة والقوة بينما قد توحي الشواهد بغير ذلك, من هنا فقد جاء الوقت الذي يجب أن يوجد فيه خطاب سياسي عربي يتسم بالذكاء واستغلال المواقف وانتهاز الفرص إذ يجب ألا نظل دائما أسيري العواطف والانفعالات بل والتشنجات بينما الأرض تميد تحت أقدامنا, والفرص تضيع أمامنا, وصوت الحكمة يختفي بيننا.
3 ـ إن الانتفاضة الفلسطينية المشتعلة هي رمز للمقاومة العربية أمام سياسات إسرائيل وممارستها وسوف تظل كذلك لأنها لم تبدأ فقط كنتيجة مباشرة لزيارة شارون الاستعراضية ولكنها قبل ذلك وبعده جاءت نتيجة طبيعية لتراكم الإحباط الذي أدرك العرب وأصاب الفلسطينيين باليأس وأحال المنطقة إلي دائرة العنف من جديد, والانتفاضة هي الرمز الباقي لهذه الأمة ولقد علمتنا التجارب أن إسرائيل لا تتحرك إلا تحت وطأة الضغوط مهما حاولت الخلط بين مفهوم الأمن ومعني السلام.
4 ــ إن الحوار المتصل بين العرب والعالم يجب أن يتحول إلي اتصال مكثف بلغة تصل إلي العقول التي لا تؤمن بالضرورة بأهدافنا, ولا تعتنق مواقفنا, فسياسة عزل المعارضين, الابتعاد عن غير المتعاطفين معنا, بل ومقاطعة المعادين لنا هي سياسة تجافي روح العصر وتركن إلي السلبية وتتعارض مع المصلحة.
5 ــ إن مايجري في إسرائيل هو شأن داخلي يجب ألا نتوقف أمام رئيس حكومة جديد حتي ولو كان هو ارييل شارون الذي يحمل في أوراق اعتماد ملفات الحروب والمذابح كما يحمل وسام الخطيئة في صابرا وشاتيلا فالذي يعنينا في النهاية هو أن نتعامل مع الموضوع وليس الشخص, مع الموقف وليس الشعار, مع الفعل وليس التصريح.
*****
هذه رؤيتي التي لا يمكن أن تكون متكاملة لأن الأحداث تجري والمواقف تتلاحق والرواية عادت إلي فصلها الأول ويجب ألا نكون دائما في حالة انتظار لسلام يهبط علينا لأنه في النهاية استجابة لإرادة مشتركة تمضي علي طريق ذي إتجاهين, ولعلي أتساءل هنا هل آن الأوان لكي لا تصبح إسرائيل هي المتغير المستقل الوحيد في المنطقةبينما الآخرون يمثلون متغيرات تابعة؟ هل جاء الوقت الذي يتحرك فيه العرب بأفكار إيجابية تحاصر إسرائيل دوليا, وبمنطق إنساني يفضح جرائمها العنصرية وبحوار متصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة بلغة مختلفة وروح جديدة كي لا يفوتنا قطار المستقبل حتي ولو كانت محطته الأولي هي إرييل شارون؟
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/2/13/WRIT2.HTM