بدعوة من ادارة حقوق الانسان بوزارة الخارجية المصرية, التقيت أخيرا برئيس مكتب الحرية الدينية الدولية بالولايات المتحدة الأمريكية
'ThomasFarr'
بحضور نخبة محدودة من الأمريكيين والمصريين من مختلف التوجهات والمواقع والديانات, وكان الحديث ثريا في أعماقه, صريحا في أبعاده, يدور حول مفهوم الحرية الدينية المعاصرة مع اتخاذ مصر كخلفية دائمة طوال المناقشة, ولقد لفت نظري أن تطورا ملموسا قد طرأ علي الفهم الأمريكي لطبيعة النسيج الاجتماعي المصري والتطور التاريخي للعلاقة بين أطراف التكوين السكاني في مصر, خصوصا أنني- فضلا عن اهتمامي الدائم بهذه النقطة- كنت قد فرغت من قراءة كتاب الأستاذ سمير مرقص الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط وهو الذي أفرد فصلا كاملا عن القانون الأمريكي المتحرر من الاضطهاد الديني الذي صدر في أكتوبر عام1998 يوضح فيه أن دوافع صدور هذا القانون قد بدأت بجهود مشتركة من الأصوليين اليهود والبروتستانت انطلاقا من تراث مشترك بينهما ينظر أحيانا بقلق الي الغير سواء كان مسيحيا أو مسلما.
ويهمني أن أسجل في هذه المناسبة ملاحظات حول مسألة الحريات الدينية في العالم المعاصر خصوصا أننا قد قطعنا في مصر شوطا علي الطريق الايجابي للخلاص من هذه المشكلة, كما أن مسألة الحرية الدينية في مصر هي في نظري جزء من قضية التنمية البشرية والتطور الاجتماعي ويجب ألا يتم انتزاعها من سياق التطور الطبيعي للحياة العامة في مصر بل إنني أضيف الي ذلك أن تنامي الديمقراطية الحقيقية وازدهار ممارستها يحتوي ضمنيا علي الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذه المسألة, ويكفي أن نتذكر أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة قد جاءت بثلاثة نواب من المسيحيين في القاهرة ذاتها- برغم أية ملاحظات عليها أو تأويلات لها- إلا أن احترام الرئيس مبارك للدستور وتسليم العملية الانتخابية للقضاء المصري الشامخ قد بدأ يعيد الوجه الحقيقي للشعب المصري ويمسح عنه تراب الماضي بكل ما اعترض مساره التاريخي الطويل, وهنا اتعرض للملاحظات المرتبطة بهذا الشأن الوطني المهم:
1- لقد بدا لي- ومن معي- في حوارنا مع مدير مكتب الحريات الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية أنهم يدركون جيدا في واشنطن أن المناخ العام في مصرأفضل بكثير مما يتحدث عنه بعض غلاة المتعصبين في الخارج, كما أنهم يدركون أيضا أنه لا توجد في مصر مشكلة طائفية بالمفهوم الشائع لها, فقد تطفو أحيانا علي السطح بعض الأحداث السلبية ولكنها لا تعبر عن تيار عام يشير الي معاناة غير المسلمين في مصر, إذ أن المعاناة مشتركة والمشاكل واحدة والظروف القائمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا تحيط بالجميع بغير استثناء في مجتمع واحد.
2- لقد استمع المسئول الأمريكي في حوار امتد طويلا علي مائدة الغداء الي قراءتنا لقضية الحريات الدينية في مصر وسمع عن تواري ما كان يسمي بالخط الهمايوني واذاعة قداسي عيد الميلاد والقيامة في القنوات الرئيسية بالتليفزيون ومحطات الاذاعة المصرية, كما عرف عن استعادة الكنيسة القبطية لمئات الأفدنة من أوقافها لدي الدولة وتطرق الحديث الي الانتخابات الأخيرة التي أصبحت وساما يرصع جبين الديمقراطية المصرية, ولكن جوهر الحوار هو أين تقف الدولة خصوصا عندما تتعرض مسيرة الحياة في مصر لأحداث سلبية من نمط الكشح واحد والكشح اثنين وقد كان واضحا للمسئول الأمريكي أن الدولة تقف مع المصريين جميعا بغير تفرقة أو تجاوز أو تساهل.
3- انعكست ظروف ظهور القانون الأمريكي الخاص بالاضطهاد الديني الذي صدر منذ أكثر من عامين استجابة لحملة طويلة بدأت بلقاء بين الأصوليات اليهودية والبروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية لكي يتضمن ذلك القانون فرض عقربات علي الحكومات بعد مراقبتها اذا لم تقم بتغييرات يكون من شأنها إصلاح أوضاع من تسميهم المضطهدين دينيا, وواقع الأمر أن أخذ هذا القانون في اطاره المرتبط بظروف العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بوظيفة من يقوم بدور المسئول الأول عما يجري في العالم وداخل حدود دولة بذاتها منذ أن أتاح فكر العولمة ومفهوم القرية الكونية لأقوي دولة معاصرة أن تضع أصابعها عبر الحدود السياسية والجغرافية داخل الدول وأن تدس أنفها في أخص شئونها بعد ما تعرضت نظرية سيادة الدولة لضربات موجعة في العقد الأخير من القرن الماضي تحت أعلام الأمم المتحدة ورايات الحلف الأطلنطي, لذلك فان حديث المسئول الأمريكي يمضي في سياق الاحساس بالمسئولية الأولي عما يجري في كل مكان بغض النظر عن المسميات المستخدمة أو الشعارات المرفوعة, وهي قضية تحتاج الي تأمل ومسألة تستوجب المراجعة.
4- لاحظت كما لاحظ رفاق الحوار أن هناك معلومات مهمة غائبة عن الأطراف الأخري أو ربما مغيبة عمدا, فالأصوات التي ترتفع في المهجر تنقصها المعلومات وتعيش في ظل مرارة الخروج من الوطن والابتعاد عن واقعه كما أنها مازالت أسيرة مراحل مضت من تاريخنا لم يعد ممكنا القياس عليها اليوم, لذلك فعندما تحدثت مع المسئول الأمريكي عن نماذج من فكر رئيس الدولة المصرية وسماحته ورحابة صدره واتساع دائرة التسامح لديه فانه استمع جيدا ومؤيدا لما ذهبت اليه باعتباره علامة صحة يدركونها تماما في مثل هذه القضايا لأن ولي الأمر هو رئيس كل المصريين الذي ينعكس فكره علي القرار السياسي وتتأثر برؤيته جميع الأحداث الجارية.
5- تعرضنا في الحديث عن روح الوحدة الوطنية المصرية الي المسار التاريخي لها إذ لا توجد مرارة ترسبت لدي طرف تجاه الآخر, فمصر ليست الهند التي يتهم كل طرف فيها غيره بمسئوليته عن تقسيم شبه القارة الهندية, كما أن الواقع في مصر يشير بوضوح الي الأصول المصرية المشتركة للأقباط والمسلمين علي السواء لذلك ذكرت للزائر الأمريكي أن منهج دراسة الأقليات المتعارف عليه لا ينطبق علي المسيحيين في مصر لسبب بسيط وهو أنهم لا ينفردون بخصائص عرقية أو اجتماعية تميزهم عن غيرهم, كما أن الانصهار التاريخي علامة مميزة لوحدة المجتمع المصري وتماسك نسيجه المشترك.
ولقد شعرت من الحوار مع المسئول الأمريكي أن فيضا من الأكاذيب يتدفق أحيانا الي بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من دوائرهم الانتخابية دون تمحيص أو مراجعة فيندفعون الي إثارتها في نوبات مفتعلة من أجل كسب الرضا العاجل لبعض ناخبيهم في المناطق التي يمثلونها, وهو أمر يجب أن يكون واضحا لكل من يتابعون الحملات الموسمية حول قضايا الاضطهاد الديني خصوصا في توقيت يرتبط بزيارة كبار المسئولين المصريين للولايات المتحدة الأمريكية, هنا لابد من الاشارة الي الحلول غير التقليدية للمسألة الطائفية التي يجب أن تستند الي الحوار المفتوح والمناقشة العامة, إذ أن التشخيص الصحيح لمرض هو نصف الطريق الي العلاج ذاته, ولن يتحقق الانفراج الصحيح إلا بفهم كل طرف للطرف الآخر بموضوعية ودون حساسية بل إن الطائفية في رأينا هي نتاج طبيعي لانتشار الضباب الفكري ونقص الشفافية وغيبة روح الفهم المتبادل, فهي كما رآها مؤرخ الجغرافيا العظيم جمال حمدان غرس استعماري وأداة سياسية لتدعيم وجوده, لذلك فان تطبيق نظريات الغرب علي واقع الدول الأخري هو قياس ظالم لأنه ينطلق من مقدمات تحكمية تريد أن تصل الي نتائج محددة سلفا, ولقد ذكرت للمسئول الأمريكي أرقاما حول نصيب المسيحيين في حجم الاستثمارات ومستوي النشاط الاقتصادي في بلادنا وكيف أن ذلك يفوق بكثير النسبة العددية لهم لأن الأمر في ظنني لا يقف عند حدود المشاركة السياسية وحدها ولكنه يتجاوز ذلك أيضا الي غيرها من جوانب الحياة ودرجات النشاط العام علي جميع الأصعدة, فالثروة لا تحكمها قواعد سياسية أو دينية ولكن دوافع اقتصادية ومالية.
ولقد أثار لقائي مع المسئول الأمريكي ومعاونيه روح التأمل لدي حول طريقة التفكير الأمريكية وأسلوبها في التعامل مع الدنيا حولها, فالنظام التشريعي الأمريكي يسمح لنائب في الكونجرس بمفرده أن يتقدم بمشروع قانون دون الحاجة الي توقيع عدد معين من الأعضاء مما يتيح لذلك العضو الواحد أن يطرح مشروعا للمناقشة دون أن تكون لذلك المشروع أهمية محددة أو قبول عام, لذلك فان المحاولات الأمريكية في هذا الشأن قد اتخذت مسارا ارتبط بعدد من الأسماء من أمثال فرانك وولف وأرلين سبكتر وغيرهما في مسيرة خاصة تعرض لها في عرض رصين الدكتور سمير مرقص في كتابه الذي أشرنا اليه في البداية وشاركهما في ذلك طرح مماثل حول نفس الموضوع تحت مسمي قانون دون ينكلز وهو يقضي بتعيين سفير أمريكي متجول يختص بشئون الحريات الدينية الدولية, بعد موافقة مجلسي الكونجرس واقرار ذلك القانون, وأعود فأقول هنا مرة أخري إن الفهم الأمريكي لمسألة الحرية الدينية هو جزء لا يتجزأ من الفكر المعاصر الذي جاءت به أطروحات معاصرة تتحدث عن وحدة العالم وكونية الأفكار وعولمة السياسات.
إن اللقاء الذي سعدت بقبول الدعوة لحضوره بوزارة الخارجية هو مؤشر للحوار البناء بيننا وبين الطرف الآخر من أجل إيجاد أرضية مشتركة, وفهم متبادل, ووضع المعلومات الصحيحة والأفكار الواضحة أمام الغير حتي لا يظل نهبا للشائعات والمبالغات والأقاويل, ونحن بذلك لا نقدم تقريرا لغيرنا ولا نسمح له بالتدخل في شئوننا, ولكننا ندرك في الوقت ذاته شفافية واحدة من علامات العصر, وأن الحوار المباشر هو نهج حضاري لا يجب الامتناع عنه, كما أن حجب المعلومات أصبح أمرا يثير السخرية لأن عين العالم المعاصر تجول في كل أطرافه وأذنه تسمع دقات قلبه, وقد كان من المدهش لي, علي الأقل- أن أثار المسئول الأمريكي المعني بقضية الحريات الدينية مسألة تتصل بطائفة مسيحية محدودة إذ لا يتجاوز عددها العشرات كلهم من غير المصريين حيث يطلب المسئول الأمريكي من باقي الطوائف المسيحية في مصر وفي مقدمتهم الأقباط الاعتراف بتلك المجموعة ويستأذن الدولة في السماح لهم ببناء كنيسة صغيرة برغم أنهم يمارسون شعائر مذهبهم حاليا بحرية كاملة, وهنا أدركت أن مسألة الاضطهاد الديني لا تقف عند حدود المواجهة العابرة بين أصحاب الديانات المختلفة ولكنها قد تحتدم أكثر بين أبناء الدين الواحد ولعل الصراعات التي عرفها تاريخ أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت هي خير شاهد علي ذلك.
لقد انتهي لقاؤنا كمجموعة حوار من المصريين- مسلمين وأقباطا- مع المسئول الأمريكي ومعاونيه الي نتيجة أكثر موضوعية, وفهم عميق الأبعاد, ورؤية واسعة الآفاق, مع احساس بمستقبل يقوم علي الوعي المتبادل, والفهم السليم, والتعايش المشترك.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/1/30/WRIT1.HTM