تعودت في مثل هذا اليوم من كل عام ـ وهو يوم مولدي ـ ان أقوم بمراجعة مامضي والتفكير فيما هو قائم والتطلع الي ماهو قادم, ولقد كتبت في مثل هذا اليوم من العام الماضي مقالا بعنوان اعترافات ذاتية حاولت فيه ان أنحو نحوا صادقا مع النفس أمينا مع الغير, وأجريت فيه عملية نقد ذاتي كان لها وقع طيب لدي كثير من الأصدقاء والقراء, لأنني أبرزت فيها الجوانب السلبية قبل الجوانب الايجابية في حياتي الشخصية علي نهج يقترب ـ مع الفارق ـ من المفكر المصري الراحل الدكتور لويس عوض في سيرته الذاتية( أوراق العمر), ولكن الأمر يبدو مختلفا هذا العام, فهموم الوطن اكبر من هموم الذات, والصراع الذي تواجهه أمتنا العربية يحتدم في هذه الفترة ليضع المنطقة في مأزق يعلو علي أية مشاعر شخصية أو انفعالات فردية ويجعل القضية العامة تسبق بكثير أية قضية خاصة.
لذلك آثرت ان يكون مقالي اليوم حول الاعترافات السياسية بعد ان كان مقالي منذ عام في ذات الزمان والمكان حول الاعترافات الذاتية, فالهم العام يفرض نفسه قبل الهموم الخاصة ويدعونا الي حالة من التفكير فيما يجري واحتمالات المستقبل القريب بما يحمله من مخاض منتظر أو مفاجآت محتملة, فالصراع في المنطقة يبدو شديد التعقيد حيث تتداخل عناصره وتتشابك ابعاده ويختلط فيه الدين بالسياسة وتضطرب معه الأرض بالسكان, وإذ أنتمي شخصيا الي جيل بدأت صحوته علي الحياة السياسية في مطلع الستينات ومع سنوات المد القومي الذي ملأ النفوس بالآمال الواسعة والأحلام الكبيرة في ظل عملية تعبئة كاملة ضد الوجود الاسرائيلي ومن ورائه الحركة الصهيونية بتاريخها المعروف, فقد كنا نتصور ايامها ان لدينا من أسباب القوة وعوامل النصر مايجعل استرداد الحقوق امرا يسيرا مع اعتقاد راسخ بأن ميزان القوي يبدو في صالح الجانب العربي كما وكيفا بصورة لاتحتاج الي تفكير طويل حتي جاءت حرب يونيو1967 فأحدثت انقلابا ضخما فيما كنا نؤمن به ونمضي وراءه وأدت بجيلنا وربما بجيل آخر بعدنا الي نوع من القلق الذي لم نتخلص منه مع معاناة ظلت تلازمنا حتي الآن, فقد اختلطت امامنا القيم وتداخلت الصور وتعرضنا لاحباط شديد امام غطرسة اسرائيلية تتحدث عن السلام بلغة الحرب, وتفكر في التعاون الاقليمي بمفهوم السيطرة, وتتشدق بالرغبة في التعايش المشترك بينما هي تضرب ذلك في جوهره صباح مساء, وبرغم ماتحقق في انتصار اكتوبر العظيم واستعادتنا الثقة المفقودة بالذات, والأمل الضائع في المستقبل, إلا ان اسرائيل علي الجانب الآخر لم تحسن استقبال الرسالة, واعتبرت انهاء حالة الحرب تراجعا, وخيار السلام العربي ضعفا, وبوادر التطبيع هوانا, ولكن الذي يعنينا اليوم هو ان نتلمس حدود المربع الذي نقف فيه وكيفية محاصرة اسرائيل بالسلام الذي تتهرب منه, ولا تريد الالتزام به, في ظل متغيرات دولية لا يمكن الاقلال من شأنها, أو تجاهل تأثيرها, وهنا يكون من الواجب ان نذكر الاعترافات الخمسة ةالتالية:
أولا: إني اعترف بإن مدعاة القلق فيما جري علي الأرض الفلسطينية في الأسابيع الأخيرة هو انه يعطي انطباعا بالعودة الي اجواء العنف ومظاهره المعروفة في فترة كنا قد تجاوزناها ـ أو هكذا توهمنا علي الأقل ـ فاذا الصورة قاتمة والتداعيات خطيرة, فالقوة تقهر الحق, وآلة الحرب تهزم الشجاعة, والأبرياء هم الحصاد المتاح في ظل ظروف شديدة البؤس, ولكن أكثر مايلفت النظر ويدعو الي القلق هو ان أحداث الأسابيع الأخيرة تمثل ضربة قوية لمستقبل التعايش اليهودي/ العربي, وتعتبر انتكاسة لمسيرة طويلة في ذلك الاتجاه, فقد ظهر حجم كراهية المستوطنين الاسرائيليين للشعب الفلسطيني, وتصاعدت حدة المواجهة بين فلسطينيي1948 والسلطات الاسرائيلية برغم ان أولئك الفلسطينيين يحملون جنسية الدولة العبرية, وذلك يعني ان ذاكرة الصراع مازالت نشيطة وحدة العداء لاتزال مؤثرة, كما ان التعايش بين العرب واسرائيل يواجه اختبارا صعبا بعد أكثر من خمسين عاما من قيام دولة اسرائيل, وهذا يعني ان الجهود المبذولة من اجل السلام لم تستطع حتي الآن ان تنتزع روح العداء المتبادل بين المغتصب والمغتصبة حقوقه, فضلا عن إحساس جديد باليأسب المرحلي الذي أصبح يلازم كل من يعنيه الشأن القومي العام.
ثانيا: إني اعترف ان الأصل في فلسفة السلام انه يجب ان يقوم علي التوازن بين الحقوق والالتزامات, والتكافؤ بين الطرفين من حيث المسئوليات والواجبات, ولايقوم ابدا علي ترويع المدنيين, وجرافات الهدم, وآلة الحرب التي تحصد الأطفال والمواطنين الأبرياء, فالقهر لا يصنع سلاما, والعنف لايحقق أمنا, والغطرسة لاتحمي مستقبلا, وتجارب الصراعات عبر التاريخ كله تؤكد ان صفقات التسوية غير المتكافئة لم تدم طويلا, وتحولت الي هدنة مؤقتة خرجت منها الشعوب بروح العنف ورغبات الانتقام وهذا مالانريده في هذه المنطقة شديدة الحساسية من عالمنا المعاصر, فالسلام يجب ان يتأسس علي العدل بحيث يشعر كل طرف بحد أدني منه, لأن السلام لابد ان يحتوي علي مضمون للتعايش المشترك, ومفهوم للتعاون الاقليمي المحتمل, والتهيؤ لنقلة نوعية جديدة في الشرق الأوسط كنا نتصور وهما اننا شديدو القرب منها.
ثالثا: اني اعترف ان المسافة بين انفعال الشعوب ودبلوماسية الحكام مازالت واسعة في كثير من الأقطار العربية, وهذا أمر طبيعي, لأن المواطن العادي قد يملك ترف التعبير عن مشاعره بغير ضابط أو رابط بينما الحاكم يقف امام مجموعة معقدة من الالتزامات والارتباطات, كما قد يري من التفاصيل مالايراه المواطن العادي, ثم ان مسئولية الحاكم في النهاية هي أن يستجيب للتيار العام السائد بين محكوميه بشرط ان يكون واعيا بالمحاذير مدركا لحجم المسئولية, فالمواطن له ان ينفعل بينما علي الحاكم أن يحدد طول المسافة بين الانفعال والقرار وهي مسافة انسانية مدروسة يعرفها البشر في المواقف المختلفة إذ لايستطيع الانسان الذي يقف في المقدمة ان يستجيب لعواطفه بنفس الدرجة التي يستجيب بها من هم وراءه, فالمسألة ليست بهذه البساطة بل انها بالغة التعقيد شديدة الحساسية, وتحتاج الي حسابات منضبطة, وتقديرات واعية, واختيارات مناسبة, ولعل هذه القضية تعكس جزءا كبيرا من أزمة النظم السياسية العربية وغياب قنوات الديمقراطية الصحيحة في بعضها, ولعل الانتقادات التي استقبل بها جزء من الشارع العربي قمة شرم الشيخ الدولية أو قمة القاهرة العربية انما هي تعبير عن الثقة المفقودة احيانا والصورة الناقصة احيانا اخري, فضلا عن أن حماس الانفعال قد يحجب الرؤية ويصنع مسافة اكبر مما يجب بين المواطن العادي في جانب وصانع القرار في جانب آخر.
رابعا: إني اعترف ـ وبكل أسف ـ بان الرأي العام العالمي هذه المرة لايقف كما يجب بجانب الشعب الفلسطيني علي الرغم من انتهاكات اسرائيل غير المسبوقة له بدءا من اعدام الأطفال وصولا إلي حصار المدن مرورا باغلاق المعابر, فالذي حدث هو ان السياسة الاعلامية الاسرائيلية قد نجحت في تقديم صورة مغلوطة امام صانعي القرار في كثير من الدول الأجنبية بدءا من مقولة أن باراك قد قدم للفلسطينيين عرضا لم يسبقه اليه مسئول اسرائيلي قبله, ألم يعرض دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية بغض النظر عن الخلاف المتصل بالمقدسات الاسلامية والمسيحية؟!
وهذا التصور يبدأ بتجاهل سلسلة التنازلات الفلسطينية التي بدأت منذ عام1948 حتي يصل الي الادعاء بأن مسئولية العنف الأخير تقع علي الفلسطينيين وحدهم وعلي عرفات وقيادته بالدرجة الأولي الي حد عودة عبارة البحث عن قيادة فلسطينية بديلة مرة اخري, وفي ظني ان الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد اسهمت فيما جري لأن عامل الزمن يبدو حاكما للغاية, وهنا أضيف ايضا ان الانحياز الأمريكي المعروف لاسرائيل قد حرم واشنطن جزءا لابأس به من مصداقية التأثير علي الطرفين بدرجة متكافئة وسمح لقوي التطرف في الشرق الأوسط بأن تتخذ مواقف معادية للمصالح الأمريكية في المنطقة حتي أصبحت قضية تأمين تلك المصالح هي الشاغل الأول لادارة امريكية تقف علي باب الرحيل, كما ان دول الاتحاد الأوروبي ـ وهي المانحة الأولي للسلطة الذاتية الفلسطينية ـ قد جري علي مواقفها السياسية تحول غير منظور يلقي باللوم علي الفلسطينيين برغم اعترافهم بقسوة رد الفعل الاسرائيلي وضراوته, أما روسيا الاتحادية فقد قررت ان تتخذ موقفا محايدا بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وهي التي كانت تؤيد الحق العربي عبر العقود الماضية.
خامسا: إني أعترف ـ بوضوح ودون تردد ـ بإن مشكلة الدولة الفلسطينية القادمة هي أنها سوف تكون كيانا سياسيا قائما ولكنها ليست كيانا اقتصاديا مستقلا, فلقد تمكنت اسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة من اثبات حقيقة يجب ان ندركها وهي ان اعتماد الشعب الفلسطيني, في اغلب شرائحه العاملة, علي مصادر الرزق المستمد من العمل لدي اسرائيل الدولة أو الاسرائيليين الأفراد انما يكشف النقاب عن ان جوهر المشكلة ليس سياسيا أو دينيا فقط ولكنه اقتصادي بالدرجة الأولي ايضا, فلقد أوقفت اسرائيل اكثر من مائة وثلاثين ألف عامل فلسطيني عن العمل نتيجة لاجراءات متصلة بالحصار الداخلي والتطويق الأمني واغلاق المنافذ, كما أن اسرائيل هي المتحكم الوحيد في تصدير المنتجات الفلسطينية للخارج وهي صاحبة القرار الأول في تحديد مستوي الرزق بعد ان اصبحت هي المؤثرة في مفهوم الحق!, وهذه حالة نادرة في العلاقات الدولية المعاصرة لدولة فلسطينية وليدة تريد الاستقلال السياسي ولكنها تفتقد مقومات الاستقلال الاقتصادي, وأنا لاأنكر هنا أن العرب قد وعوا شيئا من ذلك, وأن صناديق دعم الشعب الفلسطيني جاءت لتلبي هذا الاحتياج ولتسد هذه الثغرة, ولكن القضية في النهاية لاتزال معلقة حيث ان الاعتماد الاقتصادي للفلسطينيين علي مصادر اسرائيلية في جزء كبير منه يحرمهم بالضرورة ميزة الاستقلال الحقيقي, والندية السياسية المطلوبة بين دولتي جوار في المستقبل.
.. هذه ملاحظات عابرة تأخذ شكل اعترافات ليست بالضرورة جديدة ولكن التذكير بها هو أمر واجب في هذه الظروف فاذا لم يكن كل ماورد فيها جديدا فان معظم مااحتوته يبدو صحيحا, وبين الجديد والصحيح تقف الحقيقة دائما مهما تكن درجة المرارة أو حجم الاحباط, ثم تبقي هنا نقطة تتصل بالدور المصري لاأجد غضاضة في الحديث عنها بشعور قومي صريح واحساس عربي لاتردد فيه, وهي ان مصر قد تحملت مسئولياتها كاملة في هذه الظروف, وسعت بكل الطرق الي وقف نزيف الدم فوق الأرض المحتلة وكسر دائرة العنف الذي أطل بوجهه من جديد علي المنطقة, فلم تكن قمة شرم الشيخ ـ برغم أي انتقادات عاطفية لها أو ملاحظات حماسية ضدها ـ سوي محاولة ضرورية لاستعادة الأوضاع الي ماكانت عليه تمهيدا للقمة العربية التي تلتها في القاهرة, ولكن الثقة المفقودة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي في جانب, والضعف النسبي لهيبة الادارة الأمريكية في الجانب الآخر قد لعبا دورا في الاقلال من قدرة قمة شرم الشيخ علي حسم الأمور وفض الاشتباك بين اصحاب الحق وبين ملاك القوة, كما ان الدبلوماسية المصرية قد وقفت داعمة للشعب الفلسطيني بشكل ايجابي لايزايد عليها احد ولا يسبقها اليه آخر, فمصر تدرك دائما ومن خلال تجربة طويلة ومعاناة استمرت علي امتداد العقود الخمسة الأخيرة ان الحق الفلسطيني لايقبل المساومة, ولكنه ليس ايضا موضوعا للمزايدة, ويجب الا يبتئس المصريون ـ شعبا وحكما ـ من بعض التجاوزات عند تقويم دور مصر أو صدور عبارات التطاول عليها لأن ذلك دائما هو قدر الشقيق الأكبر ومسئولية الدولة المركزية في ادارة الصراع علي الجانب العربي, وقد يجد الأشقاء احيانا في لوم كبيرهم متنفسا لابد منه وعزاء يسحب قدرا من ضغط الغضب الكامن في الصدور, ولكنني أزعم صادقا ان كل عربي يدرك في ضميره ان مصر تسعي مخلصة ـ إن اصابت أو اخطأت ـ وأن دوافعها قومية, وأن مسئوليتها تاريخية, وأن مواقفها علنية.
هذه خواطري في اعترافات سياسية بديلا لاعترافات ذاتية اقترن كلاهما بيوم مولدي, وعلي الرغم من أنها مناسبة شخصية إلا أني رأيت توظيفها هذه المرة للشأن العام والهم الوطني ومازلت اتذكر بهذه المناسبة كيف كانت تستهويني اثناء دراستي قراءة دواوين الحماسة في الشعر العربي, بينما كان التفكير يردني الي دواوين الواقع في المنظور الانساني, انها قضية الصراع الدائم بين العاطفة والعقل, والمسافة الطبيعية بين مايصدر عن الوجدان الملتهب وماينتج عن التفكير العميق, وكلاهما جزء من كيان الانسان الواحد, إبن الأرض, ورفيق التاريخ, وشاهد العصور, وهنا أريد ان أسجل حقيقة يجب ان يدركها الجميع وهي ان من يصنعون القرار هم أيضا عرب يلتهبون احساسا ويمتلئون شعورا, ولكن ذلك لايحرمهم مراجعة الصراع الطويل, والتفكير في تضحيات جسام, وتصور مستقبل لايزال في ضمير الغيب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/11/14/WRIT2.HTM