لم تنل مدينة في التاريخ المعاصر مانالته القدس من تركيز واهتمام, ولم تحتل بقعة من العالم مااحتلته زهرة المدائن من مكانة ومنزلة, أذ يفوح منها عبق التاريخ كما تنطلق عنها القصص والادعاءات... وتختلط الحقائق بالدعاوي وربما أيضا بالأساطير والأكاذيب, فالحديث عمايطلق عليه جبل المعبدكإشارة لهيكل سليمان ـ في محاولة لإلغاء الهوية الإسلامية لذلك المكان المقدس الذي يربض فوقه الأقصي بكل دلالاته الروحية والتاريخية ـ هو حديث يفتقد الدليل ويعوزه البرهان, بل إن كاتبا يهوديا مثل ديورانت في سفره الضخم عن تاريخ الحضارة يشير إلي أنه لايوجد مايثبت أن هيكل سليمان يقبع في ذلك المكان إن كان للهيكل وجود أصلا.
فالقصة كما يذكرنا بها شيخ أساتذة القانون الدولي المعاصرين الدكتور عز الدين فودة لاتعدو بدايتها أن تكون مجرد هدية من الأخشاب النادرة أرسلها ملك صور إلي الملك سليمان ولكن لاتوجد رواية تاريخية مؤكدة تعزز قصة بناء سليمان لهيكل فضلا عن ذلك المكان الذي تتحدث عنه اسرائيل تحديدا, والواقع أن اختلاط الروايتين التاريخية والدينية مسئول إلي حد كبير عن صنع عدد من أساطير الشرق الأوسط عبر عصوره الغابرة حيث يجري التنقيب عن الأثر التاريخي لتعزيز القصص الديني, وهو أمر لايعبر بالضرورة عن حق يجري البحث عنه أو حقيقة لابد من إثباتها فعندما تختلط المصالح بالمعتقدات نكون أمام تركيبة معقدة وموقف صعب, لذلك نري من المناسب أن نرصد هنا عددا من الأفكار والملاحظات المتصلة بهذا الموضوع الذي أصبح يمثل بؤرة المواجهة بين الفلسطينيين ووراءهم العرب والمسلمون والمسيحيون من أصحاب الرؤي العادلة في جانب وبين إسرائيل ومن يدعمون سياساتها بالحق أو الباطل في جانب آخر:
أولا: إن المصادمات الدامية في الأرض الفلسطينية المحتلة خلال الأسابيع الماضية هي تعبير حاسم عن محاولة إسرائيل الهروب من المسيرة السلمية, لأنها تظن أن لها الحق في كل شيء وأن الآخرين لايستحقون شيئا! منطق يعتمد علي استعراض القوة وانتهاك حقوق الإنسان لأن من يأخذ به يتصرف وفي أعماقه شعور بالاستعلاء والتميز والخصوصية وكأن باقي البشر من نوعية مختلفة وتكوين آخر, لقد كنا قاب قوسين أو أدني من احتمال صدور إعلان مشترك للنيات يكون بمثابة الإطار السياسي الذي يسمح باستمرار المفاوضات النهائية حول القضايا الجوهرية حتي تصور الجميع أننا ندخل في المراحل الأخيرة للتسوية علي الأرض بين الفلسطينيين وإسرائيل, ولكن الذي حدث أن النتائج جاءت مختلفة حيث تعرضت عملية السلام لضربة قاصمة أخرجت جميع الأطراف من مجري النهر الهاديء الي طوفان الغضب وبركان التوتر وفاحت في الأجواء رائحة الماضي بمواجهاته الحادة وصدماته العنيفة ودمائه المهدرة.
ثانيا: إن القدس مدينة فلسطينية الأصل عربية التاريخ دينية التأثير, ومع ذلك فانه يتعين النظر إليها باعتبارها جزءآ لايتجزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الخامس من يونيو1967 يجري عليها ماجري علي الأراضي العربية المحتلة الأخري, وينسحب عليها قرارا الأمم المتحدة338 و242 وغيرهما من القرارات الدولية ذات الصلة بالأراضي المحتلة, فضلا عن مبدأ الأرض مقابل السلام الذي تضمنته صيغة مدريد, لذلك فإنني ممن يعتقدون أن إحلال النظرة الدينية للقدس محل النظرة السياسية هو أمر لايخدم الأهداف القومية, إذ الصحيح هو أن القدس الشرقية أرض فلسطينية محتلة عام1967, بالإضافة إلي القيمة الروحية والدينية للمقدسات التي تحتويها تلك المدينة ذات الخصوصية الواضحة والفرادة المتميزة, من هنا ينبغي أن تتحرك الدبلوماسية العربية ووراءها رأي عام إقليمي ودولي يدعمها لكي تضع قضية القدس في إطارها الصحيح ببعديها السياسي والديني دون أن يفتئت أحدهما علي الآخر خصوصا أن إسرائيل تتجاهل عن عمد الانفصال بين العاملين وتركز علي دعاوي تاريخية باطلة وروايات دينية لاتستند إلي دليل بل وتفتقر أي برهان.
ثالثا: إن تجاهل البعد السياسي لقضية القدس والتركيز علي الجانب الديني هو أمر يمثل خطورة حقيقية علي مستقبل كثير من المناطق في العالم لأن الاستناد علي ادعاءات تاريخية ومعتقدات دينية يفتح علي الجميع بابا قد يستحيل إغلاقه لأنه مامن بقعة في العالم إلا وتوافدت عليها أقوام وعبرت منها مجموعات بشرية عبر العصور المختلفة, ولو أخذنا بالمعيار التاريخي, فإننا سوف نمضي في طريق بلا نهاية ونسمح لدوافع عنصرية وأفكار عرقية بأن تسيطر علي تحديد حقوق الشعوب ومصائر الأمم, فهذا النوع من التفكير يقود الي تداخلات شائكة في المصالح نتيجة التشابك بين المراحل المختلفة للتاريخ.
رابعا: ان أطماع اليهود التاريخية في انتزاع وطن قومي قد مرت بمراحل عديدة ولكنها كانت دائما تخضع لاستراتيجية طويلة المدي تعتمد علي مجموعة من المعتقدات والادعاءات التي يمتزج فيها الدين بالسياسة ويختلط معها التاريخ بالجغرافيا, ولاشك أن دورنا الأساسي يجب ان يكون دائما هو مواجهة هذه الدعاوي والرد علي هذه الأباطيل لأن استخدام القصص الدينية والروايات التاريخية كمبرر لانتزاع أرض الآخرين والسطو علي حقوق الغير هي أمور تبدو الآن وكأنها قد أصبحت حقائق يجب ان يسلم بها الجميع وأن يقبلها الطرف الآخر في ظل دعم أمريكي خصوصا عندما يختلط دور الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط يرعي السلام مع دورها كطرف داعم لمعظم السياسات الإسرائيلية.
خامسا: إن الحل النهائي للصراع الدامي في الشرق الأوسط يلقي علي كل الأطراف وفي مقدمتها إسرائيل المسئولية الكاملة, كما يستوجب قدرا كبيرا من الشجاعة في اتخاذ قرارات مصيرية ضخمة تعتمد علي بعد النظرة وشمول الرؤية وعدالة المنطق لأن السلام خيار بشري بشرط أن يقوم علي العدل وأن يتأسس علي درجة عالية من التوازن فكل التسويات التي تمت للصراعات الكبري في تاريخ البشرية انهارت إذا غاب منها حد أدني من العدل والتوازن بين الأطراف لأن ذلك هو الضمان الوحيد لاستمرارها وشمولها, ولذلك فإن الإسرائيليين الذين يتصورون أنه يمكن أن يتحقق لهم السلام وفقا لوجهة نظرهم وحدهم وتلبية لأطماعهم في الأرض والأمن معا, إنما يعبرون عن نظرة ضيقة ورؤية محدودة وتفكير ناقص.
إن موجة العنف التي بدأت بمظاهرة
شارون الاستعراضية التي قام بها في محاولة متعمدة لخنق عملية السلام وضرب مسيرة التسوية قد سجلت أمام الإنسانية كلها نوعية العدوان الإسرائيلي علي المواطنين الفلسطينيين عندما تصدت آلة الحرب الإسرائيلية لأطفال الحجارة بالرصاص المطاطي ورشاشات الهليكوبتر وقنابل الطيران وسوف تبقي طويلا تلك المشاعر المأساوية التي تسببت في وجودها انتهاكات إسرائيل الصارخة لحقوق الإنسان في واحدة من أبرز جرائم العصر, والغريب أن يصدر ذلك عن دولة تدعي دائما أنها قد دفعت فاتورة غالية في الحرب العالمية الثانية نتيجة اضطهاد النازي لليهود, فإذا بها تحيل الفاتورة إلي الشعب الفلسطيني الأعزل لكي يدفع ثمنا فادحا لأرضه واستقراره ومستقبل أبنائه علي نحو لانكاد نجد له نظيرا في عصرنا كله, بل ان اغتيال الصبي محمد جمال الدرة سوف يبقي في ذاكرة الإنسانية تجسيدا أليما لقيام إسرائيل بما يمكن تسميته عملية إعدام طفل في سابقة حزينة لانعرف لها مثيلا وفي ظني أن دماء ذلك الشهيد الصغير يجب ان تتحول إلي إرادة واعية لاتقف عند حد التشنج العشوائي أو الغضب العابر بل يجب أن تكون نقطة تحول في حياة الأمة العربيةتدفعها نحو الأخذ بكل أسباب التفوق الحضاري واستيعاب حقائق العصر وإعادة النظر في أهداف السياسة وأساليب الحكم حتي نكون طرفا مؤهلا للوقوف في قوة أمام الصراعات الإقليمية والدولية مسلحين بالتقدم العلمي والإنجازات التكنولوجية, كما أنه ينبغي علينا أيضا أن نحاصر إسرائيل بزخم ضخم من العمل سعيا للسلام الذي تريد أن تفلت منه لكي تستمتع بغنيمة نكسة1967, وسوف تظل مهمتنا الأولي هي العمل الدءوب من أجل السلام الذي يستند إلي الحق والعدل, إذ أن إسرائيل تحاول الفكاك من التزاماتها والتهرب من تعهداتها لأنها تظن أن عامل الوقت يمضي لصالحها, وقد يكون هذا صحيحا بدرجة معينة, ولكن المدي القصير والأجل الطويل كلاهما له مقاييس ونتائج تختلف عن بعضها, وماتظن إسرائيل أنه فرصة مواتية لها قد لايكون بالضرورة نفعا كاملا, فالأمر محكوم في النهاية بالظروف الدولية والواقع الإقليمي, ولعلي أتصور هنا أن هناك ثلاثة متغيرات أساسية تحتاج إلي مراجعة وتأمل:
الأول: احتمالات التغيرات الإقليمية المفاجئة خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار ظروف العراق والدور الإيراني وأداته القوية في المقاومة ضد إسرائيل المتمثلة في حزب الله واحتمالات المستقبل أمام دورها.
الثاني: طبيعة مستقبل المصالح الأمريكية في المنطقة وردود الفعل الشعبية التلقائية تجاه السياسات الإسرائيلية, آخذين في الاعتبار احتمالات توحيد الجهود بين الحركة الإسلامية ودعاة الفكر القومي في ظل هذه الظروف.
الثالث: طبيعة التغيرات التي بدأت تطرأ علي العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية بمستوي الشارع العادي سواء في الأرض المحتلة بعد1967 أو بالنسبة لفلسطييني1948 ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية حيث احتمالات الانفجار المفاجيء وتولد موجات العنف المستمر في ظل سياسات إسرائيل التي تقوم علي العقوبة الجماعية وقهر المواطنين وإغلاق المدن وانتهاك حقوق الإنسان.
إن ماحدث في الأسابيع القليلة الماضية يؤكد ضرورة التوصل إلي تسوية سلمية عادلة لأن طبيعة الصراع في الشرق الأوسط صراع مركزي تحيط به دوائر للخطر تتجاوز حدوده الإقليمية إلي التأثير في المحيط الأوروبي والآسيوي والإفريقي, فضلا عن ارتباطه المباشر بالاستراتيجية الأمريكية وتوجهاتها المختلفة ومصالحها المنتشرة خارج حدودها.
يبقي أن نسجل هنا أن الموقف المصري في الأسابيع الأخيرة يعبر تعبيرا دقيقا عن الإنسان العربي المنفعل بتعقل, الملتهب بوعي, الذي يريد ان يغلق دائرة العنف وأن يفتح الطريق نحو مفاوضات تأخذ من زخم الأحداث الأخيرة قوة دفع لها نحو الوصول السريع لإعلان مباديء يلتزم به الأطراف كإطار شامل للتسوية القادمة, إذ يتعين علينا دائما أن نحيل الأحزان والآلام والدموع إلي فكر ورؤية وعمل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/10/17/WRIT1.HTM