كنت أكتفي بالرد مباشرة علي من يرسلون أو يتصلون لإبداء تعليقات أو تعقيبات حول مضمون ما أكتب, خصوصا أن عددا كبيرا من الردود البريدية كان يأتي متأخرا لأن الوصول إلي الكاتب الخارجي أمر صعب إذ أن الصحيفة التي ينشر بها ليست هي بالضرورة عنوان الاتصال به, ولأنني أومن بأن الحوار هو الهدف الأساسي من الكتابة وبأن الحديث من طرف واحد هو أشبه بــ حوار الطرشان, فإنني رأيت أن أنشر مقنطفات من بعض الرسائل التي تصلني حول موضوعات تطرقت اليها, وقد راعيت في الإختيار- من بين الرسائل الكثيرة ـ موضوعية المكتوب وعمق المناقشة والبعد عن الملاحظات الشخصية أو خطابات الإطراء, ولقد لفت نظري أن بعض المقالات بستأثر باهتمام يفوق غيرها, وأن توقعاتي ليست دقيقة في تصور احتمالات رد الفعل بعد كل مقال,
وعلي سبيل المثال فلقد تصورت أن يثير مقالي الإنفاق الديني في مصر جدلا وأن يفتح حوارا بسبب حيوية الموضوع وأهميته ولكن ذلك لم يحدث, بينما لم اتوقع لمقالي في جدوي الكتابة تلك الضجة التي أعقبته وإن كنت أتصور في هذا السياق أن تعليق الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش علي ذلك المقال بمقال كامل وبعنوان مثير هو الذي أكسبه قدرا من أهميته وجزءا من قيمته,
وليس الأمر كذلك دائما فلقد توقعت لمقال مصداقية التاريخ أن يفتح الشهية للتواصل مع القراء خصوصا المعنيين منهم بمناهج البحث والمتخصصين في دراسة فلسفة التاريخ وفي مقدمتهم المؤرخون بالدرجة الأولي وهو ماحدث فلقد تلقيت رسائل عديدة اخترت اثنتين منها أتبعتهما باثنتين حول مقالي في جدوي الكتابة تاركا عددا آخر من التعليقات حولها وحول مقالات سبقتهما لكي أقدمه في مناسبات لاحقة..
ونبدأ باختيار رسالتين تعليقا علي مقالنا مصداقية التاريخ, الرسالة الأولي من الأستاذ- نسيم مجلي, يقول فيها:
قرأت في مقالكم الحافل حول مصداقية التاريخ إشارات عديدة إلي الأحداث والوقائع التي تحتاج إلي مراجعة وتحقيق, ومن هذه الأمور الادعاء بحرق العرب مكتبة الإسكندرية وهل هذا ادعاء صحيح أم باطل؟
ولحسن الحظ أنني قرأت منذ سنوات رأيا للعلامة العصري الدكتور عزيز سوريال في كتابه المسيحية الشرقية يبريء فيه العرب من هذه التهمة, وقد جاء هذا الرأي في الفصل المخصص لموضوع الفتح العربي لمصر وهو بحث موضوعي نزية, بعيد عن كل التحيزات الدينية والوطنية حيث قام صاحبه بدراسة الوقائع حسب تسلسلها التاريخي بعقلانية شديدة, وموضوعية مدهشة حتي وصل إلي هذه النتيجة المقنعة أو إلي هذه المصداقية التي تغري بالاقتداء في أبحاثنا ودراستنا, ولقد ترجمت هذا الفصل لنشر ضمن موسوعة ثقافية يجري إعدادها الآن, ويشرفني هنا أن أقدم تحليل الدكتور عزيز سوريال لهذه الواقعة الهامة في تاريخنا الثقافي حيث يقول:
يتضمن غزو العرب للإسكندرية واقعة حزينة تتعلق بحرق مكتبتها العظيمة بواسطة عمرو بن العاص( ألفريد بتلر) الذي قيل إنه كان ينفذ فقط أوامر الخليفة عمر بن الخطاب, مع ذلك فإن هذه القصة الرومانسية تنتمي إلي عالم الأساطير, فقد ظهرت لأول مرة في كتابات الرحالة الفارسي( عبداللطيف البغدادي, المتوفي عام1231 م) والمطران اليعقوبي بارهيبراس المتوفي1286 م) أي بعد الغزو بستة قرون, إذ يزعمان أنه بناء علي تشاور الخليفة عمر مع قائد جيش المؤمنين في مكة فإنه أرسل إلي قائده عمرو بقراره المعروف الذي يؤكد فيه أنه إذا كانت محتويات المكتبة تتفق مع جاء في القرآن فهي أشياء لا ضرورة لها, ومن فهي ثم تافهة, وإذا كانت تختلف مع القرآن,فلا بد من التخلص منها علي اعتبار أنها خطر يهدد روح الإسلام, وفي كلتا الحالتين يجب إحراق هذه الكتب, وبعد تسلم عمرو هذه الرسالة, فإن عملية التخلص من هذه المحتويات الضخمة باستخدامها كوقود للحمامات الشعبية بالإسكندرية استغرقت ستة أشهر, وهي مدة لاتصدق ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين إلي هذه القصة, فضلا عن ذلك فمن المشكوك فيه أن تكون لمكتبة بطليموس آثار باقية حتي مجيء العرب, والمعروف أن جزءا كبيرا منها قد دمر في حروب يوليوس قيصر سنة48 ق.م. وحدث في القرن الرابع الميلادي أن المسيحيين المنتصرين قد قاموا بعمليات منظمة لإحراق المباني عمدا لإزالة كل أثر للمؤسسات الوثنية التي لابد أنها قد أصابت المتحف أو ما بقي منه, إن طبيعة لفائف البردي والمخطوطات المتراكمة في المكتبة كان لابد أن تتحلل نتيجة استعمالها علي مدي قرون عديدة قبل الفتح العربي, بعبارة أخري, فإن قصة إشعال حمامات الإسكندرية بتراث مكتبة الإسكندرية قصة يجب رفضها, باعتبارها بدعة غير تاريخية ولا أساس لها من الصحة,
والرسالة الثانية من السيدة- أنيسة عصام الدين حسونة تقول فيها:
أشارة إلي مقالكم الممتع حول مصداقية التاريخ في عدد الأهرام الصادر بتاريخ2000/9/5 فلتسمح لي بالحوار معك علي الورق حول بعض النقاط التي ثيرها هذا الموضوع:
بداية وفيما يتصل بالوصول إلي حكم علي حقيقة الحدث يصلح لمختلف العصور فإننا سنجد أن القراءات المختلفة تدل علي أن بعض ما قد نعتبره نحن, وفقا لمعايير عصرنا وحشيا أو همجيا, كان يعد مقبولا في عصور مضت فكما ذكرت في نهاية مقالك فإن القياس البشري أمر لا ينتهي إلي اتفاق ولكن كيف يتسق ذلك مع بقية الجملة التي تقول إن فهم المستقبل مرتبط بالثقة في الماضي!!
كما أن القراءة المتأنية لبعض الأحداث التاريخية تعطي الانطباع بأن بعضها لا يتفق مع المنطق العقلي المجرد إلا أن الإيمان بها قد يكون لأغراض قيمية أو أخلاقية, وفي هذا الخصوص فأنك تشير إلي أن الأستدلال في التاريخ أمر لايجوز باستثناء ما جاء بنص مقدس في الديانات, لأن روح الإيمان هي التي تتولي في هذه الحالة تثبيت الوقائع دون أثر تاريخي أو شاهد وجود,
ولكن كيف نستطيع الركون إلي ذلك مع اختلاف تفسيرات الفقهاء أو رجال الدين لمعاني النصوص ودلالاتها في كثير من الأحيانا, وما إذا كانت تشير إلي وقائع حدثت بالفعل أم أن المقصود بها هو إشارة رمزية إلي دلالات دينية أو قيمية, وأستعير هنا كمثال ما أشرت إليه في مقدمة مقالك حول فرعون موسي وبناء إبراهيم عليه السلام الكعبة فهذه منطقة شائكة ومملوءة بالمحاذير والمخاطر, مثل حقل من الألغام يفتقر إلي خريطة واضحة, ولذلك فإنني أتفق معك في أن الكثير من القصص الديني يؤدي بالقطع إلي ما ذكرته من قلق الباحث ومعاناة المفكر.
أما بالنسبة لما ذكرته حول المعاصرة في كتابة التاريخ من أنها تتيح المجال لتأثير العنصر الشخصي, وبالتالي غياب الموضوعية فلا شك في صحة ما ذهبت إليه من أن النظر إلي اللوحة من بعيد يعطي الصورة شاملة, ولكن هل تسمح لي بالقول إنه في الوقت نفسه إذا ما تحلي المؤرخ بقدر معقول من الموضوعية فإن اللمسة الإنسانية والمشاعر الشخصية تنقلنا إلي قلب الأحداث بصورة أكثر دفئا.
ولكن ما يثير القلق حقيقة هو أنه بعد كل هذا التطور والانفتاح الاعلامي عبر القنوات المختلفة مازالت التوجيهات لها أكبر الأثر في فتح الطريق- أو إغلاقه- أمام إنصاف الشخصيات التاريخية المصرية, كما أن قوالب التصنيف سابقة التجهيز التي يوضع فيها من يحاول التعرض لتقويم هذه الشخصيات تشكل عامل إرهاب فكري غير مذكور حيث يخشي الكثيرون وضعهم في أمرة معسكر معين متقل بذنوب تنسب إلي عصور ماضية خاصة في ظل مناخ ثقافي ملبد بغيوم الاتهامات الدينية والفكرية التي تكال أحيانا بشكل تحريضي, وليتنا نلتزم جميعا بالعبارة الجميلة التي وردت بمقالك حول عبد الناصر والسادات من رفضك أن يكون الحماس لأحدهما بحملة مضادة ضد الآخر. فبأي منطق يفرض علينا الإختيار بينهما, ولماذا لا نري لكل مزاياه وعيوبه ويحضرني هنا مقال صلاح حافظ( رحمه الله) في روز اليوسف منذ سنوات بعيدة حول سادات هيكل وسادات موسي صبري وتعرضه بطريقة لاذعة للمقارنة بين نظرة منهما إلي شخصية تاريخية واحدة وهنا فإنني أؤمن تماما بما تقوله من أن التسليم المطلق بالرواية التاريخية أمر يحتاج إلي مراجعة وأنه ما أكثر أبطال الزيف علي المسرح الإنساني منذ بدايته.
وأخيرا فاسمح لي بالقول إنني قد استمتعت للغاية بقراءة هذا المقال الجميل الذي يثير الكثير من النقاط التي تدفع إلي التأمل ويحفل بالعديد من الإشارات العميقة حول موضوع جدير بالاهتمام والمناقشة.
.. وأما إذا أردنا الإشارة إلي ردود الفعل العديدة حول مقالنا في جدوي الكتابة فإن لدينا رسائل كثيرة نختار منها اثنتين أيضا, الرسالة الأولي من الأستاذ عبدالفتاح عبد الوهاب, وننشر بعض أجزائها:
حول مقالكم الشيق بجريدة الاهرام بتاريخ27 يونيو2000 في جدوي الكتابة أرجو السماح لي بطرح بعض الملاحظات:
1) حول دعوتكم إلي توسيع دائرة الحوار أتساءل إذا أراد أي مواطن المشاركة في هذا الحوار كيف؟ وما هي الوسيلة؟ فالحوار- إذا كان هناك فعلا حوار- فإنه يدور في دائرة مغلقة.2) فيما يتعلق بانتشار الندوات الفكرية والمناسبات الثقافية وعدم وجود عائد ملموس منها نري أن ذلك يرجع إلي القيود المفروضة علي حرية المناقشات بهذه الندوات واللقاءات الفكرية, وكذلك الهدف منها حيث أري أن الهدف من العديد منها لا يتعدي كونه إعطاء انطباع وإيحاء بأنه يوجد نوع من الحرية والمناقشات الثقافية والفكرية كأحد مظاهر الديمقراطية, ولكن الواقع يقول غير ذلك, وأقرب مثال علي ذلك ما يحدث في ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب, حيث في العديد من اللقاءات المفتوحة يقوم ضيف الندوة بتحديد موضوع معين للحديث والمناقشة حوله برغم أن العديد من الحاضرين كانوا يريدون حوارا مفتوحا وفي ندوات أخري يقوم متلقي الأسئلة بطرح بعضها وحجب الآخر, وفي إحد الندوات في يناير2000 كان الضيف هو أحدي المسئولين فاستغرق وقت الندوة كله في طرح واستعراض خطيط الجهة التنفيذية التي يرأسها, ولم يعط أي فرصة للحاضرين للمشاركة في الحوار, اختلفت الأساليب, ولكن في النهاية جميعها تمثل قيودا ومحددات لحرية الحوار والمشاركة.
3) وعن الهامش المتاح للحرية وعدم استخدام البعض له, أتساءل من الذي حدده؟ ومن الذي سمح به؟ وما هو الحد الأقصي له؟ وعندما يستخدم البعض الهامش المتاح للحرية بالكامل فإنه يقابل بالمنع من النشر والحذف, وذلك يرجع كما قلتم إلي أن الكثيرين يفضلون التحرك في أحضان السلطة واللعب علي المضمون.
4) عند الحديث عن الصحافة وتزايد مساحة الحرية والفرص المتاحة من خلال صفحات الرأي وأبواب إلي المحرر وبريد القراء نجد أن هذه المساحة محدودة جدا أمام أي مواطن مهتم بقضايا وطنه ويستطيع التعبير عن رأيه بالكلمة المكتوبة.
أما الرسالة الثانية فهي من الدكتور ـ حمزة إبراهيم عامر, ونختار منها أهم فقراتها:
يسعدني أن أشيد بالدور المتميز الذي بوأت نفسك له باختيارك الكلمة كوسيلة للتعبير عن آمالك وآلامك كواحد من المصريين المخلصين.. حتي وصلت بك الكلمة المكتوبة( أو المنطوقة) إلي التساؤل الخالد:.. ما الجدوي.. وهذه قمة اليقظة.
ولقد كتب الأستاذ رجاء النقاش مناقشا مقالك المهم ومعطيا نماذج من التاريخ عن أثر القول في التغيير بعد طول العمر الذي يبلغ الأمل.. هو أيضا فكر محترم لكنه يحتاج إلي ضمانات تستوجب ثبات جميع المتغيرات المؤثرة علي مسار التاريخ, ليخضع للظروف نفسها التي نجحت وذكر أمثلتها الأستاذ النقاش وهو أمر أصبح مستحيلا, بعد ذوبان الحدود الجغرافية والثقافية بين الدول, بل وذوبان حدود الفردية الإنسانية مهما يحاول التفرد والاستقلال والابتعاد عن المؤثرات العالمية التي تحاصر كيانه اقتصاديا وتغزو عقله ثقافيا.
ياسيدي.. يحزنك انخفاض نسبة القارئين بين صفوف أبناء شعبك القديم, وعدم مقدرتهم علي قراءة ما تكتب, وقد سبقك في تشخيص العلة نفسها أستاذنا الدكتور طه حسين, ولذلك قال ـ ونفذ قوله حين واتته الفرصة ـ إن التعليم حق لكل إنسان مصري كالماء والهواء, وللأسف تنشر بعض صحفنا ومجلاتنا أن ذلك القرار هو سبب جميع الرزايا التي تعيشها مصر, وفي ظني أنه لو لم تنفذ ثورة يوليو قرار طه حسين لكنت أنت اليوم جالسا عمدة علي المصطبة أمام دوار العائلة, ولكنت أنا جالسا وراء تازجة ميكانيكي أو بنك بقال في شبرا.
ياسيدي.. ما جدوي أن تتساءل عن جدوي الكتابة؟ وأنت نفسك تكتب في المقال نفسه أن سوق الكتابة يدخلها من هب ودب من كل حدب وصوب, حتي أختلط الحابل بالنابل.. وهنا أتساءل وحدي عن شروط من يكتب؟ وماذا يكتب؟ هل يكتب ما تريده أنت له أن يكتب فتؤكد بذلك النظرة الزوليسية( أوليس المارد الإغريقي ذو العين الواحدة في منتصف وجهه) لكل القضايا؟ أم أن يكتب معبرا عن رؤية العين الأخري فتتجسد الحقيقة.. ويتم اتخاذ القرار السليم لمصلحة الأغلبية.
... ويأتي تعليقي في النهاية علي هذه الملاحظات القيمة والمناقشات الهادفة بقولي إنه لا يسعد الكاتب أكثر من ردود فعل يتلقاها حول ما يكتب, لأنه يدرك علي الفور أنه لا ينادي في وادي الصمت, ولا يتحدث إلي نفسه, وأن هناك من يتابع ما يكتب, ويحدد رأيا بالاتفاق معه أو بالاختلاف عنه, ولكنه يطرح في الحالتين حوارا له أهميته وقيمته, التي تتجاوز حدود الطرح المنفرد, فرأي إثنين أفضل من رأي واحد, ورأي الجماعة يعلو عليهما معا.
..ومازلت أتصور أن الكلمة المكتوبة هي رسالة ومسئولية, رسالة يحملها أصحاب القلم, ومسئولية يتحملها كل من يتجة إلي تعاطي الفكر, أو يسعي إلي الشغب الثقافي, فتحريك المياه الراكدة هو السبيل لتنقيتها, والدفع بها في تدفق يسمح لها بالانتشار الكبير, وتوسيع دائرة التأثير, ويكفي الكاتب أنه يقوم بعملية تحريض فكري وجذب ثقافي قد يؤديان في النهاية إلي رفع الحواجز من الطريق إلي المستقبل, وفتح النوافذ لدخول كل التيارات من أجل غد يتميز بشيوع الإبداع, تألق النبوغ, وازدهار العبقرية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/10/3/WRIT2.HTM