استقرت في فقه القانون الدولي لمئات السنين نظرية سيادة الدولة وأصبحت قضية محورية تدور حولها مباديء وأفكار رسخت في كتابات الشراح الأوائل والأباء المؤسسين للقانون الدولي المعاصر حتي أصبحت وكأنها قدس الأقداس في اطار الدولة الحديثة, ولكن طرأت علي تلك النظرية في العقود الأخيرة مفاهيم جديدة ومضامين مختلفة جعلت تلك النظرية المستقرة حول سيادة الدول محل جدل دولي صاخب ونقاش فكري محموم وظهر طرح جديد يري ـ خصوصا مع بروز ارهاصات العولمةـ أن قدسية نظرية السيادة قد تهاوت مع انهيار الحواجز وسقوط الحدود وأن التدخل في سيادة الدول أصبح يأتي الأن تحت مظلة القانون الدولي وبقرارات من المنظمة الدولية العالمية ومتابعة من مجلس الأمن رغم بقاء الهيكل القانوني الذي يحكم العلاقات الدولية المعاصرة علي ما هو عليه دون تغيير, ولكن الطرح الجديد يحاول أن يعتمد علي مقولة أن العالم قد أصبح كيانا واحدا لا يقف فيه سياج يمنع, ولا مبدأ يحول دون أن تتمكن القوي المهيمنة علي عالم اليوم من التدخل بشكل حاسم وسافر في الشئون الداخلية للدول الأخري بدعوي استعادة الديموقراطية أو حماية حقوق الانسان أو رعاية الأقليات أو حتي الحفاظ علي البيئة..
أطروحات جديدة وفدت مع التطور الفلسفي لمفهوم الدولة في العصر الحديث وانتقلت الي الوضع المؤسسي لها في اطار العلاقات الدولية الحالية, بل قد زادت الأمر عن ذلك الي الحد الذي جعل الأمم المتحدة في كثير من المناسبات تتحول إلي حارسة لاقتحام حدود إحدي الدول من خارجها بدعوي ما يسمي أحيانا بالتدخل الانساني وأحيانا أخري بالدبلوماسية الوقائية, وظهر مفهوم جديد للعقوبات الدولية يقف الحصار في مقدمتها حيث تدفع شعوب كثيرة فواتير أنظمة للحكم لا تصل اليها العقوبة المطلوبة رغم انها المستهدفة نظريا بذلك, وواقع الأمر أن ما اعتري نظرية سيادة الدولة في العقد الأخير يحمل دلالة خطيرة مؤداها أنه قد جري تقنين المسألة في النهاية تعبيرا عن ميلاد مظهر جديد للسيطرة الأجنبية في ظل مسميات براقة يصعب الاعتراض عليها ولو من الناحية الشكلية بحكم احتوائها ظاهريا علي شعارات إنسانية رائعة, وقد يكون من المفيد أن نشير في هذه المناسبة إلي عدد من الملاحظات:
أولا: إن مسألة التدخل الخارجي لم تعد مجرد اختراق لسيادة دولة معنية بقدرما هي تعبير ـ نظريا علي الأقل ـ عن المسئولية الجماعية للنظام الدولي, وهذا قول يحمل من الادعاء أكثرمما يحمل من الحقيقة, إذ انه لا توجد معايير محددة أو ضوابط حاكمة لعمليات التدخل تحت أي مسمي بل إن الأمر يعبر في النهاية عن محاولات تستهدف إعادة ترتيب الأوضاع الدولية والإقليمية وفقا لمنظومة جديدة من المصالح هي محصلة لمركز القوي صاحبة الهيمنة علي القرار الدولي المعاصر.
ثانيا: إن التحولات التي حدثت والتغيرات التي طرأت علي الساحة الدولية في العقد الأخير تحديدا قد أسفرت بوضوح عن عالم مختلف ولا أقول عالما جديدا لأن الإطار القانوني للعلاقات الدولية مازال كما هو, ولكن الذي حدث هو اختلاف أسلوب العمل في المنظمات الدولية وتغيير طبيعة القرار الدولي خصوصا حين يتعلق الأمر بموقف جماعي تحت مظلة مصطنعة للشرعية التي تتم بعملية تطويع لنصوص ميثاق الأمم المتحدة وخلق آليات مؤقتة لتنفيذ السياسات الجديدة مثلما حدث في العراق عندما اكتسبت أجهزة التفتيش علي الأسلحة بأنواعها المختلفة صلاحيات واسعة لا تخلو من أهداف سياسية واضحة.
ثالثا: إن الكيل بمكيالين وغياب المعيار الواحد في مواجهة الأحداث المختلفة قد أدي إلي مشاعر سلبية نالت من الثقة في النظام العالمي وأضعفت مصداقية القرار الدولي المعاصر, فالتدخل يتم وفقا لإرادة سياسية وليس محكوما بقاعدة قانونية لذلك ظهر التفاوت في المواقف والتناقض في السياسات فما يتم تجريمه من تصرفات نظام معين يبدو مقبولا من غيره وما يتم التدخل بشأنه قد يمكن التغاضي عنه في حالة مماثلة, ولو أخذنا مسألة حقوق الانسان كمثال فسوف نجد أن المعايير ليست مزدوجة فقط ولكنها متعددة, فحقوق الانسان الفلسطيني تختلف في واقع الأمر عن حقوق الانسان الاسرائيلي, كما أن حقوق الانسان الأوروبي تختلف هي الأخري عن حقوق الانسان الإفريقي, فقد كان التدخل الانساني مبررا في كوسوفا ولكنه لم يكن مرغوبا في رواندا!!, فضلا عن قدرة النظام الدولي الحالي علي تغليف السياسات الجديدة بغطاء من المبادئ السامية والقيم النبيلة.
رابعا: لقد أصبحت الاعتبارات السياسية هي الحاكمة ولم يعد التنظيم الدولي معنيا بالحقوق قدر عنايته بارضاء الأقوياء, وليست هذه ظاهرة جديدة, ولكن مبعث الاختلاف هو تلك المجموعة المستحدثة من المبررات التي أصبحت جاهزة لدعم نظرية التدخل في ظل أجواء تتحدث في صخب واضح عن القرية العالمية الكبري وانتهاء عصر الجزر المنعزلة مع تبشير مستمر بالدفاع عن حقوق لانسان وحماية الأقليات واستعادة الديموقراطية وغيرها من الأطروحات البراقة, بينما يعبر التنظيم الدولي ذاته عن افتقاد روح الديموقراطية في العلاقات الدولية في الوقت الذي ينبري فيه للدفاع عنها في النظم الداخلية, فقد كان المتصور أن تؤدي التوجهات الجديدة الي تغيير تلقائي في شكل العلاقات الدولية المعاصرة يستند إلي ركائز أخلاقية تؤدي إلي نوع من الندية ودرجة من المساواة في العلاقات بين الدول.
خامسا: لعل أبرز نتائج التركيبة الجديدة لشبكة العلاقات بين الدول في العقد الأخير هي ما أصاب المنظمات الدولية ذاتها من ضعف وما لحق بها من تغيير, فقد أصبح التركيز علي دور مجلس الأمن كبيرا, بينما تحولت الجمعية العامة إلي منبر خطابي للتنفيس عن المواقف دون اتخاذ السياسات, ولم تعد قاعدة صوت واحد لكل دولة في الجمعية العامة ذات تأثير في فاعلية القرارات التي أصبحت ذات عائد أدبي دون مردود سياسي علي خريطة الواقع, ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه الي طغيان العلاقات الثنائية المباشرة علي دور المنظمات الدولية فأصبحت الدول تفضل الدبلوماسية الثنائية علي الدبلوماسية متعددة الأطراف لأنها أكثر فاعلية وأشد تأثيرا, ولم يقف ضعف المنظمات عند الدولية منها, بل انتقل كذلك إلي المنظمات الاقليمية أيضا.
بقي أن نذكر بإنصاف ــ بعد أن استعرضنا هذه الملاحظات الخمس ــ أن المفهوم الجديد لسيادة الدولة ليس شرا كله, بل إننا نزعم أن ما حدث قد ساعد أحيانا علي تقويم بعض نظم الحكم ووضع سقف لحدود الممارسات الدكتاتورية في مناطق مختلفة من العالم فلم يعد ممكنا قهر الشعوب في عزلة عن الدنيا حولها, لقد تهاوت الحواجز وسقطت معها الأقنعة في ظل تكنولوجيا المعلومات التي لاتسمح بحجب خبر أو إخفاء معلومة.
إن الدول التي تتعرض للتدخل الدولي واختراق السيادة تدرك أكثر من أي وقت مضي أننا نعيش مرحلة دقيقة ترتفع فيها شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان وحماية الأقليات, بينما تجري وقائع التدخل لأهداف سياسية لاتبدو مرتبطة بتلك الشعارات أو قريبة منها, ولو تأملنا الشعوب التي تقع تحت الحصار حاليا فإننا نقرر بثقة ويقين أنها تتحمل من المعاناة ما يتعارض تماما مع الشعارات المرفوعة والأهداف المعلنة, بل إن الأجيال الجديدة التي شبت في ظل تطبيق العقوبات الدولية سوف تظل تحمل معها مشاعر الرفض للعالم من حولها مع ذكريات تلازمهم في مرحلة المستقبل عن الإحساس العميق بالظلم الفادح الذي أدي بهم إلي أن يدفعوا ضريبة عالية يتم اقتطاعها من أعمارهم سدادا لقرارات لم يشاركوا فيها ولم يتحمسوا لها, أما عن ازدواجية المعايير فحدث ولا حرج, وهو أمر يدعونا إلي المطالبة بإعادة النظر في العلاقة بين السياسات المعلنة والأهداف الخفية مع وضع معايير ثابتة يرتضيها المجتمع الدولي ــ كباره وصغاره ــ بحيث يستقر مفهوم سليم للعدالة الدولية, ويولد مضمون فعلي للديموقراطية الحقيقية في العلاقات بين دول العالم وتجمعاته الحضارية والقومية.
تلك هي رؤية معاصرة لما يدور حولنا, رصدنا من خلالها ملامح التنظيم الدولي الحالي الذي تتداخل فيه الأسانيد القانونية مع الأهداف السياسية, وتختلط معه المبادئ البراقة بالمصالح المستترة, وليست هذه محاولة منا للبكاء علي الأطلال ورثاء نظرية سيادة الدولة بقدر ما هي محاولة للتحريض علي التفكير والدعوة إلي التأمل في موقعنا من خريطة الدنيا الجديدة التي تغيرت فيها المراكز القانونية وتبدلت القوي السياسية علي نحو اختلفت معه المعايير, واختلت به القيم, وتشابكت معه الأفكار والمصالح والغايات.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/7/11/WRIT2.HTM