شاءت الظروف أن أكون متحدثا في الأيام القليلة الماضية أمام عدد من المواقع الفكرية وقطاعات المجتمع المصري, فما أكثر ما يصل إلينا من دعوات نحتاج معها إلي التدقيق في الاختيارات إدراكا منا بأن حديث المرء محسوب عليه, وأن ما يقوله ينتسب إليه, فضلا عن حساسيات الموقع الوظيفي والحذر من الوقوع في شراك الخلط بين المواقف الرسمية والاجتهادات الشخصية, لذلك اخترت أخيرا من بين ما تلقيت من دعوات التحدث ـ خلال الأسبوعين الماضيين ـ أمام جامعات ثلاث المنيا ـ قناة السويس ـ حلوان, فضلا عن سعادتي بقبول دعوتين أعتز بهما من القوات المسلحة لمحاضرتين أعقبهما حوار واسع في لقاءين حاشدين أحدهما بالإسكندرية, والثاني بالسويس, كما لبيت دعوتين أخريين للتحدث أمام البرلمان المصري, إحداهما في مجلس الشوري لجنة التنمية البشرية, والثانية في مجلس الشعب لجنة الشئون العربية, بالاضافة إلي بعض اللقاءات في نوادي الروتاري واللوينز, كما قبلت دعوة من الصالون الثقافي في نادي الصيد..
والذي يعنينا في هذا المقال من ذلك كله, ما خرجت به من انطباعات وما تولد لدي من قناعات خلال هذه الجولة الفكرية متعددة المواقف ومختلفة التوجهات, خصوصا أن الخطاب النقدي للأجيال الجديدة يحمل شفافية خاصة تيسر لنا أن ندرك عن قرب مراكز اهتمامها في مختلف المجالات, كما أن الحوار يفتح آفاقا واسعة لحرية التفكير والتعبير, ويضع أطرافه أمام مسئولية محددة تجعل الموضوعية بعدا أساسيا فيه, وقد لفت نظري منذ البداية ظواهر ثلاث أري أن تسجيلها أمانة وضرورة لايجوز النكوص عنها:
أولا: ان الجيل الجديد ـ خصوصا في الجامعات ـ شديد التعطش للمعرفة كبير الاهتمام بالحوار, ويود أن يعرف عن الدنيا حوله, وأن يتابع مايجري داخليا وخارجيا, كما أن استعداده لاستقبال الآراء المختلفة أمر يبدو واضحا, والذين يعيبون علي هذا الجيل انصرافه عن الاهتمام بالحياة العامة, انما يقيسون تلك الظاهرة بمعايير وظروف أجيال سابقة, بينما واقع الأمر يؤكد أن للجيل الجديد أنماطا خاصة من الاهتمام العام قد لاتكون بالضرورة هي تلك التي عرفناها في عقود ماضية.
ثانيا: ان التباكي علي قيم وأخلاقيات أجيال سابقة هي مغالطة أخري, تعكس بالدرجة الأولي نوعا من الحنين إلي الماضي ورغبة في استرجاع ذكريات الشباب الغابر, بينما كل الشواهد تؤكد أن الجيل الجديد أفضل من سابقه, فتلك سنة الحياة ودورة الوجود, واذا قرأنا كتب أجدادنا منذ مئات السنين لوجدنا أن كل جيل كان ينتقد بقسوة الجيل الذي يليه, ويذرف الدموع علي أخلاقيات منهارة, وقيم ضائعة, وثقافة متدهورة, ولكن مواكب الحياة مضت رغم كل ذلك نحو آفاق التقدم وسماوات النهضة, وذلك يعني أن الانتقاد لم يكن في موضعه, انما كان فقط انعكاسا لذاتية كل جيل ورغبته الدفينة في فرض وصايته علي الأجيال التالية لها.
ثالثا: إن الجيل الجديد في مصر يقترب بشكل ملحوظ من المستويات الفكرية والثقافية لشباب الدول المتقدمة, ولم تعد المسافة بينهم واسعة مثلما كانت منذ عدة عقود, وسبب ذلك ما يمكن أن نطلق عليه تعبير المصادر المشتركة للمعرفة الحديثة, فقد حسم الكمبيوتر القضية واستطاعت الإنترنت أن تصل لكل منزل, فضلا عن الفضائيات المتاحة ووسائل الاتصال التي اعتمدت علي تكنولوجيا المعلومات بشكل ليس له سابقة في تاريخ البشرية, فنحن الآن أمام انقلاب إنساني ضخم لانكاد نجد ما يقترب منه في العصر الحديث إلا الثورة الصناعية التي بدأت في أوروبا علي أنقاض النظام الاقطاعي المرتبط بالعصور الوسطي, فانطلقت من مخاضها بذور الرأسمالية وارهاصات الديمقراطية بكل ما حملته من أفكار مختلفة وقيم جديدة, لذلك فإننا نتوقع أيضا أن تسود العالم ـ علي مستوياته الدولية والإقليمية والمحلية ـ منظومة جديدة من الأفكار والقيم التي لم تكن سائدة منذ سنوات مضت, وشبابنا في مصر يبد الآن قريبا من تحول إيجابي هو جزء لا يتجزأ من تحول إنساني عام تتعرض له البشرية في العقد الأخير, فالأجيال الجديدة في مصر لديها ألفة خاصة مع أجهزة التكنولوجيا الحديثة, ومهارة ملموسة في التعامل مع الكمبيوتر وتوابعه, ورغبة واضحة في الحصول علي المعلومات من مصادرها الحديثة, وهذه كلها علامات مبشرة لاتستحق اللوم ولا تستوجب العتاب.
هذه ملاحظات مبدئية رأيت أن أطرحها قبل الخوض في مضمون الحوارات التي كنت طرفا فيها خلال الأيام القليلة الماضية, فإذا انتقلنا الآن إلي النظر في بؤر الاهتمام لدي القطاعات التي تعاملت معها في تلك الجولات, فإنني أستطيع أن أجملها في عدد من القضايا التي تستأثر بجاذبية خاصة عند الرأي العام المصري وتستحوذ علي تفكيره ونستطيع أن نجملها فيما يلي:
1 ـ إن قضية العولمة باعتبارها ابنا شرعيا لتكنولوجيا المعلومات تمثل هاجسا ضخما لدي العقل المصري, وهناك إحساس عميق بالاحتمالات السلبية لتلك العولمة إذ يري البعض أنها محاولة لفرض النموذج الغربي علي أساليب الحياة الأخري وأنماطها المختلفة, ويتشكك الكثيرون في النيات الحقيقية لذلك التيار الضخم الذي يعيد ترتيب الأوضاع في المناطق المختلفة من العالم وفقا لرؤية أمريكية, وعلي الرغم من القبول العام للتكنولوجيا الحديثة والرغبة في أن تكون مصر شريكا فاعلا فيها والأحاديث المتكررة عن ضرورة أن تصبح مصر مركزا لتصدير برامج الكمبيوتر لدول المنطقة أسوة بدولة كانت لها ظروف مماثلة ثم قطعت شوطا لا بأس به علي هذا الطريق في مجالها الإقليمي وهي دولة الهند, ورغم كل ذلك الاستعداد الإيجابي علي الجانب التكنولوجي للعولمة, فإن المخاوف تبدو واضحة علي الجانب الثقافي منها, مع تسليمنا بصعوبة الفصل بين التطور التكنولوجي والعامل الثقافي في العولمة, فهما وجهان لعملة واحدة هي عملة العصر الجديد, كما تكمن مخاوف الأجيال المختلفة في مصر ـ شأن غيرها من دول العالم النامي ـ في احتمالات تأثير العولمة علي الشخصية القومية ومساسها بالأركان الرئيسية للهوية الوطنية للشعوب المختلفة, والاحساس بأن العولمة قد تعني تصدير منظومة أفكار وقيم لايمكن الفكاك منها أو منع تأثيرها, وتلك قضية تستحق في ظني كل عناية واهتمام, بل إنني ـ مثل غيري ـ قد كرست الجانب الأكبر مما أكتب, والأغلب الأعم مما أتحدث حول ضرورة الاستعداد لمواجهة مثل ذلك التناقض المحتمل, ولقد لفت نظري أيضا أن قدر الثقافة حول هذه القضية في القطاعات التي تعاملت معها علي المستويين المدني والعسكري ينم عن اهتمام كبير, واطلاع واسع, ودراية كاملة.
2 ـ يحتل الصراع العربي ـ الإسرائيلي جانبا كبيرا من اهتمامات الرأي العام المصري الذي يتابع مسارات التسوية السلمية ويتطلع إلي مرحلة ما بعد تحقيق السلام في المنطقة, وإن كانت تحكمه موجات من التفاؤل والتشاؤم وفق مجريات الأمور في المنطقة كلها, ولقد كان من اللافت أيضا أن الشباب يربط ربطا مباشرا بين مستقبل المنطقة واحتمالات تحقيق السلام فيها كما يفكر في كل التصورات المطروحة علي الساحة حاليا, وما يمكن أن يكون عليه العرب في شرق أوسط جديد ويثير لذلك قضايا متعددة مثل ما يتردد عن التعاون الاقتصادي والاندماج الإقليمي, والربط بين التوقيع والتطبيع علي مسارات السلام الباقية وكذلك مستقبل جامعة الدول العربية. كما يعبر الشباب ـ في قلق مشروع ـ عن أهمية الدور المصري الذي لم يرتبط تاريخيا بالصراع العربي ـ الإسرائيلي, ولكنه بدأ قبله بعشرات القرون, لذلك من الطبيعي أن يقوي ويزدهر في ظل ثقافة السلام إذ أن العمق الحضاري المصري يرتبط دائما بالظروف الطبيعية التي تزدهر فيها الثقافة القومية وتتمكن مصر بها من تصدير دورها التقليدي المرتبط بالثنائي التاريخي لشخصيتها القومية وهو القائم دائما علي التحرير والتنوير.
3 ـ تستأثر مسألة تحرير التجارة الدولية وقرب دخول اتفاقيات الجات مراحلها التطبيقية بقدر كبير من اهتمام الأجيال الجديدة ويتساءلون عن درجة استعداد اقتصادنا الوطني للمواجهة الجديدة ويتحدثون في أمل عن قضايا تتصل بالسوق العربية المشتركة, واحتمالات تصدير المنتج المصري بشريا وثقافيا وسلعيا, ويرون أن التكتل الاقتصادي العربي يصبح ضرورة في ظل شرق أوسط مختلف بعد الانتهاء من مرحلة اتفاقيات التسوية والدخول في مرحلة السلام الشامل.
4 ـ يسيطر هاجس التكنولوجيا الحديثة علي عقول من تحدثت إليهم ـ مدنيين وعسكريين ـ وتبدو إرادة اللحاق بركب تكنولوجيا المعلومات قوية لدي الجميع حيث يستأثر ميدان انتاج وتسويق برامج الكمبيوتر بجزء كبير من طموحات الشباب المصري الذي أثبت قدرة واضحة علي التعاون مع أدوات العصر وتقنياته الحديثة, ولقد اكتشفت من مداخلات الشباب عند الحديث في هذا الموضوع أن لديهم إلماما شاملا ووعيا كاملا بجميع المعطيات المتصلة بهذا النوع من التكنولوجيا والذي تبدو فيه الآفاق واعدة أمام دور مصري جديد.
5 ـ أدهشني وأسعدني الاهتمام الزائد الذي لمسته في كل القطاعات بأوضاع الجاليات المصرية في الخارج خصوصا في الدول العربية وتقدير الشباب للاهتمام الحالي بها مع إحساس عميق بكرامة المصري وكبريائه الوطني في الوقت الذي يسلم فيه الجميع بضرورة احترام قوانين الدول الشقيقة ومراعاة ظروفها الاجتماعية والثقافية, ولقد لمست لدي الأجيال الجديدة رغبة في التحرك نحو آفاق الهجرة الداخلية للإعمار والإصلاح داخل حدود الوطن المصري لأن دائرة الفرص تتسع, كما أن الاحتمالات تتزايد, ومصر أولي بأبنائها وأحق بجهدهم لبناء المستقبل وفتح مجالات جديدة تتمثل في مئات الآلاف من فرص العمل المطلوبة.
6 ـ تستأثر العلاقات المصرية ـ العربية باهتمام بالغ من قطاعات مختلفة للشعب المصري, خصوصا أننا مقبلون علي عصر جديد تبدو فيه الهوية القومية موضع صدام مصطنع مع العولمة وما تحمله من تيارات جديدة, ولقد أصبح مفهوم العروبة في ذهن غالبية من تلقيت أسئلتهم وسعدت بالحوار معهم قائما علي الحقائق المجردة والمصالح المشتركة ولم تعد القومية لديهم ميراثا عاطفيا يقوم علي شعارات مبهمة أو أطروحات غامضة, وهذه نقلة نوعية في الفكر السياسي تسمح لنا بالحديث الرشيد عن علاقات وثيقة بين مصر وعالمها العربي تتأسس علي مقومات موضوعية تبدو متواكبة مع عصر جديد وعالم مختلف, ولا تزال هموم الشأن العربي تلح علي الذهن المصري إذ يستأثر الوضع في السودان بجاذبية خاصة وتعبر الأجيال الجديدة عن إحساسها العميق بأن السودان هو العمق الاستراتيجي لمصر مثلما أن مصر هي رصيده وسنده أمام المحن والتحديات وبدا الحرص علي وحدة السودان قاسما مشتركا لدي كل من تحدثت إليهم في جميع المناسبات إذ يتطلع الجميع إلي سودان جديد, تختفي منه الصراعات العرقية والتنافسات الحزبية, لكي يصبح بلدا قويا يضم في ديمقراطية ومساواة جميع الأعراق والملل والأجناس.
أما الوضع في العراق واستمرار الحصار علي شعبه فهو يبدو كالجرح الدامي في الضمير المصري, الذي وقف سندا للشرعية أمام الغزو الغاشم لدولة الكويت, ولكن هناك شعورا عاما بأن العقاب قد نزل علي شعب لايستحقه, بينما تقع المسئولية علي حكامه الذين لا تصل إليهم معاناته, ولقد أدهشني ذلك التضامن الشديد والحماس القوي في لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب والإحساس العميق لدي نوابه بمأساة الشعب العراقي, وضرورة أن يري طاقة نور في نهاية النفق المظلم, كذلك استأثرت علاقات العرب بدول الجوار وفي مقدمتها تركيا وإيران ودول القرن الإفريقي بتساؤلات كثيرة ومناقشات واسعة عكست الوعي العميق بشكل المستقبل وطبيعة الشرق الأوسط بعد التسوية السلمية.
7 ـ كان لقضية ترتيب أوضاع البيت المصري مكانة أساسية في كل الحوارات التي شهدتها حيث يعترف الجميع بفضل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تحقق ـ رغم ما تعرض له من هزة في الفترة الأخيرة ـ وتتلخص هموم الشارع المصري في التطلع إلي فرص أكثر لتشغيل الشباب مع الإحساس بالاهتمام الضخم الذي توليه الدولة لهذه المشكلة, فضلا عن رغبة عامة في التركيز علي الشباب المصري واهتماماته وتأكيد دوره الفاعل في صياغة المستقبل, وقد جري في لجنة التنمية البشرية بمجلس الشوري حديث مستفيض حول دور الأحزاب السياسية المصرية, أكدت فيه أن زملاءنا بالجامعة من الطلاب العرب في مطلع الستينيات كانوا يقولون لنا إن الحياة الحزبية المصرية تتركز في حزبين كبيرين هما الأهلي والزمالك, وأصبح من المتعين الآن ـ بعد ازدياد حجم المشاركة السياسية ـ واتساع مساحة الديمقراطية أن تنشط الأحزاب لتصبح مدارس لتربية الكوادر الجديدة التي تقدم للوطن عطاء متجددا في جميع المجالات.
***
ذلك كان حصاد جولة الربيع وحصيلة لقاءاته المتعددة في قطاعات مختلفة داخل الوطن وبين فئاته التي تضع الشأن المصري في أولوية اهتماماتها والهم القومي في مقدمة شواغلها لأننا أبناء الشعب الذي حمل رايات النهضة الإقليمية عبر تاريخ المنطقة كلها من خلال دور متجدد ورؤية متوازنة ومصداقية تاريخية لاينكرها إلا من كان في قلبه مرض..
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/5/16/WRIT1.HTM