عندما نشر الأهرام مقالي حول مستقبل الدور المصري تحت عنوان شمس لاتغيب لم أكن أتصور أن هذا المقال سوف يفتح بابا للحوار الواسع حول واحد من أكثر الموضوعات حيوية وأهمية, وكنت أظن أن ما كتبته سوف يمضي امتدادا لكتابات سابقة لي ولغيري حول ذات الموضوع في السنوات الأخيرة, خصوصا وأنني كنت قد تطرقت إلي هذا الأمر في مقال بالأهرام عام1998 تحت عنوان أدوات دور مصر العربي, لذلك فإنه عندما نما إلي علمي رغبة البعض في التعقيب علي مقالي, شعرت بالرضا وقلت لمحدثي: مرحبا بالحوار, ذلك أنني أحسب أن الحديث من طرف واحد هو حديث مبتور, أما الحوار فهو النمط الطبيعي للحديث بين البشر, كما أنني أومن عن يقين بضرورة الخروج من دائرة المنولوج إلي ثقافة الديالوج, وليس هناك ما يسعد من يكتب أكثر من تلقيه ردود فعل لما كتب سواء اتفق أصحابها معه في الرأي أو اختلفوا معه في التوجه, وكنت قد لاحظت من معظم التعليقات أنها تطرح وجهات نظرها دون أن تكون بالضرورة مخالفة لما ذهبنا إليه في مقالنا حيث لم أكتشف خلافا جوهريا بين ما كتبت وآراء من كتبوا حول ما ذهبت إليه في ذلك المقال, إنما جاء التباين من اختلاف الزاوية التي ينظر منها كل منا تجاه المشهد الواحد, وقد كان موقفي واضحا منذ البداية في مقالي شمس لاتغيب إذ ركزت بوضوح علي حقيقة مؤداها: أن الأمم لاتعيش علي ذكرياتها وأن الأدوار ليست ميراثا يؤول للشعوب بغض النظر عن سعيها للنهوض وعملها من أجل التقدم,, كذلك ذكرت في مقالي ـ موضوع المناقشة ـ بالنص( إن استجداء المكانة بالاستدعاء المستمر لذكريات الأمم وماضي الشعوب, هو دوران في حلقة مفرغة بلا نهاية, وهو تأكيد لرغبة موروثة في أن نردد ما نريد سماعه, وأن نعيش في أجواء مجد نذكره وغابر يقبع في الذاكرة القومية دائما).
فاذا كنا نؤمن بأن الحديث عن الماضي أمر ضروري لفهم الحاضر والتهيؤ للمستقبل, إلا أن الاستغراق في التغني بالأمجاد دون أن يواكب ذلك جهد وطني جاد, هو خطيئة كبري, واذا كان استقراء التاريخ أمرا لا مناص منه, إلا أن ذلك مشروط بألا يتحول الأمر إلي مصادرة علي نوعية المستقبل أو قيد علي حركة التطور أو هجرة زمنية تعطي بالوهم شعورا زائفا لمن يريد أن يعيش دورا لا يستحقه, تلك كانت رؤيتي دائما ذكرتها في كثير مما كتبت حول هذه القضية في السنوات الأخيرة, فالدور المصري لايؤول لكل مرحلة من تاريخنا بالميراث أو التقادم ولكنه يأتي بالإبهار والهيبة النابعين من الجهد المصري والعمل الوطني, إذ أن مصر القوية في الداخل هي صاحبة الدور الفاعل في الخارج سواء كانت أدواتها في ذلك جيشا باسلا أو تعليما مؤثرا أو ثقافة ذائعة أو ديمقراطية متقدمة, ولكن يبقي البناء الاقتصادي المصري هو دائما عمود الخيمة في كل ما جري علي امتداد قرون عديدة, نعم.. قد تخبو المصابيح أحيانا ولكن سرعان ما تسترد مصر مكانتها لأن لديها مقومات ثابتة تحول دون سقوطها الكامل, والشواهد علي ذلك كثيرة فكبوات مصر لم تكن وضعا طبيعيا ولكنها كانت دائما عارضا استثنائيا يؤكد أن غياب شمسها افتراض نظري مؤقت لأنها دائما ساطعة الوجود متألقة الدور, ولكن الذي يعنيني اليوم هو ذلك الانطباع الذي خرجت به من حصيلة ذلك الجدل الذي دار حول مستقبل الدور المصري, فلقد تولد لدي شعور ربما يشاركني فيه الكثيرون ممن تابعوا ما كتبت تعليقا أو تعقيبا, مؤداه أن الحوار الموضوعي مازال مفقودا بينما يرتبط ما يحدث حاليا بمجموعة من الخصائص التي يمكن أن تؤثر سلبا علي الحياة الفكرية في مصر, وقد تحسن الاشارة إلي تلك المجموعة في النقاط التالية:
أولا: ان جزءا كبيرا من المناقشات التي تدور علي الساحة الوطنية وفي حياتنا العامة لا تصدر أحيانا عن منطلق موضوعي ولكنها تأتي من تقويم شخصي, فالكثير منا لا يناقش الآراء بقدر محاكمته للأسماء!!
ولقد ذكر لي الصديق الدكتور أسامة الغزالي حرب أنه بعد أن نشر تعقيبه علي مقالي جاءته اتصالات ممن ينتظر الفرصة للرد علي وكأنه يتربص انتظارا للحظة المناسبة, وأزعم أيضا أنني تلقيت كذلك عديدا من اتصالات أخري يتحدث أصحابها عن التعقيبات التي نشرت بحماس زائد لي يقترن برفض مبالغ فيه لما كتب الآخرون, وأعترف الآن أنني شعرت من كل ذلك أن هناك خلطا بين القضايا العامة والأمور الشخصية, وأن البعض ينتهز الفرصة لتصفية الحسابات أحيانا أو خلط الأوراق أحيانا أخري, وتلك ظاهرة تستحق التأمل لأننا برعنا دائما في هذه المنطقة من العالم في إلباس الدور الخاص رداء عاما كما برعنا أيضا في تحويل القضايا العامة إلي خلافات شخصية, بينما الأصل في الحوار أنه تبادل لوجهات النظر في اطار من الاحترام لفكر الآخر ورأي الغير, فالإمام العظيم الذي قال:( إن رأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) قد وضع لنا قاعدة رفيعة للحوار الموضوعي القائم علي التجرد والعقل والبعد عن الغرض والهوي, كما أن مقولة فولتير الشهيرة( إنني علي استعداد لأن أدفع حياتي ثمنا للدفاع عن صاحب رأي أختلف معه) تضيف هي الأخري مفهوما من الحضارة الغربية المسيحية يأتي امتدادا لمضمون مماثل سبقته إليه الحضارة العربية الإسلامية.
ثانيا: إن كثيرا من التعليقات والتعقيبات حول هذا الموضوع قد جاءت ـ اتفاقا أو اختلافا ـ ضمن إطار موضوعي في مجمله ولم يخرج عن هذا السياق إلا نفر قليل يريد أن يغتنم الفرصة لكي يلعب دورا لم يكن له في يوم من الأيام, ولعلي أعود الآن إلي الدافع المباشر لكتابة مقالي شمس لا تغيب, إذ أنني كنت قد قرأت مقال الأستاذ أنور الهواري في صحيفة الحياة وأعجبني ما كتبه من حيث البناء الفكري والإحكام النظري ودفعني ذلك إلي استعادة الاهتمام بالموضوع دون أن يكون فيما كتبته إساءة لصاحب المقال الذي أقدر طريقة تفكيره وأسلوب عرضه رغم أن مقاله قد أثار لدي قلقا مشروعا حول مستقبل الدور المصري, وهو قلق يشاركني فيه صاحب المقال ذاته ومعنا كل المهتمين بالشأن الوطني العام والمستقبل القريب القادم.
ثالثا: يبدو أن ثقافة الديمقراطية مازالت غائبة عن الساحة, كما أن الارتباط بينها وبين أسلوب الحوار لايزال ناقصا هو الآخر, فالأصل في الديمقراطية ليس هو فقط المؤسسات والوسائل, ولكنه أيضا المناخ السائد والروح المسيطرة, فلو أننا تعودنا في البيت في المدرسة وفي الجامعة وفي مكان العمل علي احترام الرأي الآخر وتبادل الأفكار في تجرد وحياد لما سقطنا في خطيئة الجدل الذي نشم منه أحيانا رائحة الشخصانية والاحساس المبالغ فيه بالذات والرغبة في تشويه الفكر الآخر والتشويش عليه.
رابعا: هل آن الأوان لكي ندرك أن الخلاف في الرأي لايفسد للود قضية؟.. إن هذا مطلب عزيز علينا جميعا اذا كنا نسعي لحوار جاد تحكمه النيات الحسنة والغايات المخلصة, وقد لاحظت ـ كما لاحظ غيري ـ أن معظم من كتبوا في الأسابيع الماضية تعقيبا علي مقالنا والتعليق حول مضمونه, قد عبروا في أغلبهم عن رؤي لايبدو بينها اختلاف حقيقي فمن ذا الذي يجادل في أن تاريخ الدور المصري ـ بانتصاراته وانكساراته ـ هو دور محوري مركزي مؤثر, وأن هذا الدور ليس ميراثا دائما ولكنه يحتاج إلي شحنات مستمرة تعطيه قوة دفع جديدة تحتفظ له ببريقه وتألقه معتمدا علي مقومات سياسية واستراتيجية, فكرية وثقافية, اقتصادية وبشرية.. لا أحد يجادل في ذلك وانما تنبع الاختلافات دائما من طبيعة نقطة البداية عند طرح الموضوع, فهناك من يتحدث بحماس الأمل مستندا إلي أسباب موضوعية, وهناك من يتحدث بحذر القلق مستندا هو الآخر علي أسباب موضوعية, وفي الحالتين فإن النتيجة واحدة, لأن القضية مشتركة, وهموم الوطن مسئولية جماعية لا يستأثر بها فرد ولا تحتكرها جماعة.
خامسا: إن أسلوب الخطاب الوطني المعاصر يحتاج منا جميعا إلي نظرة مختلفة, حتي نعطي له استحقاقه من التفصيل والوضوح بحيث تبدو الأفكار محددة والأطروحات كاملة والرؤي شاملة, وهنا فإنني أقرر أن رصانة اللغة ورقي الأسلوب وجلال العبارة كلها مقومات لا تنتقص من صاحب الفكرة, بل تضيف إليه ولا تحسب عليه بشرط ألا تضيع الحقائق في غمار روعة الأسلوب خصوصا في إطار لغتنا العربية التي تعتبر واحدة من أكثر لغات الأرض ثراء وسخاء وعذوبة, كذلك فإنني أظن أن الخطاب الوطني المعاصر يجب أن يتحول ليصبح متمشيا مع السياق الجديد للخطاب العالمي المعاصر, بحيث يتصور من يناقش قضية ما ـ حتي ولو كانت وطنية محلية ـ أنه جزء من كل, وأن من يريد دورا مصريا فاعلا, فإنه يجب أن ينظر بعين إلي الداخل, وأن ينظر بالأخري إلي الخارج, فتلك هي شخصية العصر ونتيجة طبيعية للتحول العظيم الذي سمح لنا بالحديث المكرر عن العولمة والانفتاح وسقوط الحواجز إلي درجة قد تصل إلي حد احتمال المساس بالنظرية التقليدية لسيادة الدولة.
تلك هي رؤيتي التي خرجت بها من حصاد حوار الأسابيع الماضية, وهو الذي يمثل ظاهرة صحية في عمومه رغم كل المآخذ عليه, فالأمر يحتاج منا جميعا إلي اهتمام ورعاية حتي تصبح حصيلة الآراء مادة قابلة للاستخدام, لأن رأي شخصين هو بالضرورة أفضل من رأي فرد واحد كما أن رأي مجموعة هو بدوره أفضل من رأي اثنين, فالحوار يثري, والجدل يغني, والمعرفة لا يدعيها شخص وحده, والحكمة لا ينتسب إليها فرد دون سواه, وكلما اتسعت دائرة الحوار, وتعمقت الآراء, وازداد عدد المشاركين فيه, فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلي ازدهار الديمقراطية, وتأكيد المشاركة السياسية, وإذا كانت الصحافة هي آية هذا الزمان, فإن احتواءها للغة الحوار هو المدخل الطبيعي لعصر جديد وعالم مختلف..
وسوف نتطلع جميعا إلي يوم تستعيد فيه الساحة الفكرية خصائص الحوار المفقود عندما لا يصبح الجدل محاكمة للشخوص والأسماء, ولكن مناقشة للأفكار والآراء..
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/4/18/WRIT2.HTM