كان صوت الموسيقي صاخبا يصم الاذان, وقد التف القوم من مختلف الفئات والمشارب والاتجاهات حول الموائد الفاخرة, وتحلق الشباب في مجموعات متراصة يصدر عنها ضجيج راقص يعبر عن مفهوم جديد لما يمكن أن نطلق عليه( تكنولوجيا اللهو), وبدا الحوار مستحيلا حتي مع من يجلس علي المقعد المجاور فقد بلغ التلوث السمعي درجة فاقت التصور, وفي زحام ذلك كله كان لابد أن اسرح بخاطري هروبا من معاناة ما يدور حولي فاستغرقت في الواقع المصري المعاصر من خلال ما أراه, وبدأت أراجع خريطة المجتمع كما تعبر عنها حفلات الزواج الباذخة بل واحيانا أيضا سرادقات العزاء عند رحيل شخصية مرموقة, ومضيت أرصد الظواهر التي تحيط بي وافكر في المستقبل القادم علي ضوء تلك الطقوس التي أصبحت تشكل سباقا محموما بين من يحكمون ومن يملكون ومن يعرفون!, وامتدت أمامي المسافة بين صالة الأفراح في أفخم فنادق العاصمة وقاعة العزاء في مسجد عمر مكرم لتصنع أمامي فارقا انسانيا لا أنكره بينما هي تلتقي في واقع الأمر حول مؤشرات واحدة لظواهر مشتركة تميزت بها مصر في السنوات الأخيرة.
فكلما لبيت دعوة لحفل زفاف كبير أو سعيت للمشاركة في عزاء واجب, اكتشف تلقائيا أن المجتمع المصري قد دخل مرحلة مختلفة ذات توصيف جديد ولها مظاهر وافدة, فأظل أرقب في مزيج من التأمل والدهشة ذلك الخليط العجيب من البشر الذين يجلسون حول موائد حفل الزفاف وفقا لأسبقيات ما يمكن اعتباره بروتوكول الدولة إذ أنه من فرط تعلق الناس بظاهرة السلطة فإنهم يستوحون في مناسباتهم الخاصة ترتيب مقاعدها وفقا لما يجري في الجلسات الرسمية والاجتماعات الوظيفية ثم يصفون المدعوين وفقا لذلك الترتيب الذي لا علاقة له من قريب أو من بعيد بمناسبة عائلية تعتمد علي بهجة شخصية بالدرجة الأولي ويجب ألا تكون أبدا انعكاسا لما يجري عليه العمل في مراسم الدولة, ولكن الناس يفكرون بمنطق آخر ـ واعترف أنني قد خضعت لذلك المنطق في حفلي زفاف ابنتي الكبري والصغري ـ وهو منطق يعتمد علي رغبة دفينة في تحويل المناسبة الخاصة إلي مناسبة عامة, والخروج بالفرحة من سياقها الطبيعي إلي مظاهر تعتمد علي المبالغة والتباهي وتضخيم الذات, ولكن الذي يشد الانتباه دائما ويلفت النظر أكثر هو ذلك الترتيب الذي يمزج بين من يحوزون السلطة ومن يملكون الثروة ومن يحترفون المعرفة لذلك رأيت أن لقطة الحضور في تلك الحفلات تعطي في مجملها صورة متكاملة للحوار الثلاثي الصامت ـ ولا أقول الصراع المكتوم ـ بين بريق السلطة وجاذبية الثروة وقيمة المعرفة, وقد عن لي أن استطرد في هذا المقال باحثا في تلك السبيكة الناتجة عن التداخل بين هذه العناصر الثلاثة.
بريق السلطة
إن تاريخ السلطة في مصر قد ارتبط منذ الحضارة الفرعونية بالدولة المركزية التي قامت بضبط وتنظيم مياه النهر مصدر الخصوبة والنماء, وتخطيط ورعاية الزراعة باعتبارها ثاني حرفة عرفها الانسان, ولعلي لا أغالي إذا قلت أن السلطة في مصر تختلف عنها في غيرها من دول المنطقة, فهي في مصر ذات بريق خاص وتألق متفرد لأنها تعبير عن القوة الأولي في المجتمع فضلا عن دورانها حول أفراد بذاتهم في مواقع مختلفة أو مناصب محددة تعكس في النهاية ضخامة حجم السلطة في تاريخ هذا البلد العريق, وإذا كنا نسلم أن لكل عصر مظاهره فإن لكل سلطة أيضا رموزها التي ترتبط بها وتعبر عنها, ولقد امتلكت مصر دائما نظرة ذات خصوصية تجاه ظاهرة السلطة حيث ارتبطت في كل الظروف بطبيعة مزدوجة تجمع بين الهيبة والشعبية في آن واحد, بل إن العودة إلي القرآن الكريم سوف تدلنا علي أن الخطاب الإلهي قد توجه إلي أقوام متعددة وشعوب مختلفة عاشت في غرب آسيا متمركزة في الصحاري وحول الأنهار علي امتداد خريطة ما نطلق عليه الآن بمنطقة الشرق الأوسط ولكن عندما جاء الأمر متصلا بالكنانة فإن الخطاب لم يتجه إلي الشعب المصري ولكن اتجه إلي رمز السلطة فيه دون غيره وقبل سواه, فصدر الأمر الألهي للنبي موسي واخيه هارون اذهبا إلي فرعون, فالسلطة في مصر تجسيد كامل لمعني القوة في الدولة وتعبير عن مركز النفوذ في المجتمع, ولعل مركزية السلطة في مصر عبر العصور هي التي حرمت المسيرة الديمقراطية من الإزدهار إلا في فترات متقطعة وعهود قصيرة, ونحن نعترف هنا بأن الرئيس الحالي لمصر هو أول من استطاع أن يمنع ظهور مراكز للقوي علي سطح الحياة العامة المصرية لأسباب تتصل بحساسيته المفرطة لهذا الخطر ورغبته الواعية في الحيلولة دون نشوء تلك المراكز واستفحال تأثيرها, ولكن هذا لا يمنع القول بأن المصري عاشق للسلطة متمسح فيها يسعي للارتباط بها, وربما كان في ذلك تفسير لضعف المعارضة السياسية في مصر الحديثة وتهافت حركة الأحزاب فيها حيث تدور هي الأخري حول تلك السلطة الحاكمة في مزيج غريب من التطلع والمهادنة, لذلك لا يدهشنا أبدا أن نري في دعوة رموز السلطة لحفلات الزفاف الكبري محاولة انسانية شائعة لكسب الود واظهار المكانة والتعبير غير المباشر عن افتقاد الأمان والرغبة في حيازة أكبر عدد ممكن من الاتصالات العرضية والرأسية مع اولئك الذين يتربعون علي مقاعد السلطة ويستطيعون المنح والمنع ويملكون سيف المعز وذهبه في وقت واحد, والأمر في ظني أن المسافة بين حيازة السلطة وفقدانها مسافة كبيرة لا يمكن تجاهلها أو الاقلال من تأثيرها, إننا ننتمي إلي البلد الذي قيل فيه أن الوزير يفقد نصف عقله عندما يتولي ويفقد النصف الثاني عندما يتخلي وكم يستهويني تأمل سلوك المسئولين السابقين واسلوب تعامل الناس معهم, وأحاول التمييز بين رموز كل عهد خصوصا في لقاءات العزاء, ربما أكثر منها في حفلات الزفاف, وكلما ازددت لهم تأملا, زاد اقتناعي بأن السلطة رداء يتغير لونه في كل عصر ويخلعه كل من تصدر قيمته من ذاته لا من موقعه, ولا شك أن اتساع مساحة المشاركة السياسية واكتساب الديمقراطية لأرضية جديدة سوف يؤديان بالضرورة إلي اقتراب الناس من السلطة بصورة مختلفة تنهي أزمة الثقة التاريخية بين المواطن والدولة, والتي لانجد لها تفسيرا مقبولا إلا في ظل فلسفة عصور توارت, ولا ينبغي لها أن تعود.
جاذبية الثروة
إن الثروة مظهر من مظاهر القوة تلحق بالسلطة وتسعي لها ولاتترك وسيلة للاقتراب منها إلا واتجهت اليها, فالذين يملكون الثروة يصلون أحيانا إلي درجة من التشبع تجعلهم يتطلعون تلقائيا إلي من يملكون السلطة, ولعلنا نتذكر أسماء لامعة لرجال أعمال كبار في سماء وطننا العربي نجح أصحابها في تكوين ثروات ضخمة, ثم كرسوا الجزء الباقي من حياتهم في خدمة السلطة والامتزاج بها والاقتراب منها بالتطوع للعب أدوار مطلوبة أحيانا أو غير مطلوبة أحيانا أخري, ثم توظيف ثروتهم لخدمة طموحات جديدة تعبر عن الرغبة المكتومة في الانتقال من شاطئ الثروة إلي شاطئ السلطة, عبورا بالمياه المتدفقة عبر قنوات النظامين السياسي والاقتصادي للدولة, ولعلي أضيف هنا إلي ذلك عاملا آخر يتصل بحاجة من يملكون إلي الحصول علي رضاء من يحكمون, ورغبتهم الشديدة في تلبية مطالبهم والاقتراب من مواقعهم, وهنا فإننا نجد أمامنا قضية ذات أهمية خاصة, وأعني بها تلك الظاهرة التي عرفتها بعض المجتمعات النامية فيما يسمي بالعالم الثالث, كما يعرفها العديد من المجتمعات المتقدمة تحت اسم( جماعات ضغط رجال الأعمال). وتتلخص تلك الظاهرة في ذلك النوع من التحالف غير المكتوب بين السلطة والثروة بما يؤدي إلي حدوث تزاوج مرحلي أو دائم بينهما تنجم عنه نتائج وآثار لاتخفي علي المعنيين بدراسة النظرية السياسية الحديثة أو خبراء نظم الحكم المختلفة, ولاشك أن مثل هذا التحالف يترك بصماته علي الاقتصاد القومي ومستوي الشفافية في الحياة السياسية عموما, ولن يكون هناك ضمان في مواجهة الانحرافات المحتملة في هذه الحالة إلا بمزيد من الديمقراطية والاعتماد المطلق علي مفهوم دولة القانون'StateofLaw' فهو العاصم الوحيد من الزلل, وأداة مواجهة الفساد الحاسمة, ولحسن حظ مصر فإن زحف أصحاب الثروة تجاه مواقع السلطة لم يحقق نجاحا ملحوظا برغم انعدام التعارض بينهما بل ووجود درجة من الانسجام اللازم لتحقيق الاستقرار الذي يحتاجه القرار الاقتصادي في بلد مثل مصر التي شهدت تغيرات متتابعة علي امتداد فترة زمنية غير طويلة, حيث عرفت في النصف الثاني من القرن العشرين قرارات التأميم مثلما عرفت أيضا قرارات حماية الملكية الفردية, وعرفت أيضا مركزية القطاع العام مثلما عرفت سياسة الانفتاح الاقتصادي بشقيها الاستهلاكي دائما والانتاجي أحيانا, وليس من شك هنا في أن سيادة مفهوم جديد للمسئولية الاجتماعية لرأس المال الخاص سوف يؤدي بالضرورة إلي تقريب الفوارق بين الطبقات والإجهاض المبكر لاحتمالات الصراع بينها.
قيمة المعرفة
لقد كان الحديث دائما عن القوة مستمدا من السلطة أحيانا ومن الثروة أحيانا أخري, ولكن العقود الأخيرة قد وضعتنا أمام عنصر ثالث لايقل قيمة وأهمية عن سابقيه, وقد يتجاوز ذلك وأعني به عنصر المعرفة, إذ أن من يعرف الآن أكثر هو بالضرورة الأقوي تأثيرا والأقدر علي تحقيق أهدافه والوصول إلي غاياته, وهنا يجب أن نتذكر أن الحديث المتكرر عن العولمة إنما يعني ضمنا إشارة واضحة إلي البعد المعرفي لها, إذ أنه بدون التفوق الكاسح الذي تحقق في عالم الاتصالات والتقدم الكبير الذي أحرزته ثورة المعلومات فإن الحديث عن العولمة يصبح غير ذي موضوع, وتؤكد كل الدراسات المستقبلية حاليا أننا نعيش عصر المعرفة التي قد تتفوق علي الثروة وتتجاوز السلطة أيضا, ونحن نعني بالمعرفة هنا الأسلوب العصري لتوظيف المعلومات في خدمة قضايا الانسان, فهي بهذا المنطق مزيج من العلم والصناعة تحت مسمي التكنولوجيا, ومزيج من الفكر والأدب والفن تحت مسمي الثقافة, فالمعرفة في إيجاز هي سبيكة من التكنولوجيا والثقافة في وقت واحد, ولعل الجميع يتفقون معنا في إعطاء كل عناية واهتمام لعملية الاحلال التي تشهدها التجارة الدولية المعاصرة, ويؤكدها معدل التبادل السلعي في عالم اليوم حيث دخلت تعبيرات جديدة مثل التجارة الالكترونية والملكية الفكرية كمصطلحات تعبر عن رموز حديثة لعصر العولمة بما تعنيه من سقوط فعلي للحواجز وزوال نظري للحدود حتي أصبحت ثروة الأمم التي حدث عنها آدم سميث في كتابه الشهير تعبيرا متحفيا تعرفه كتب التاريخ الاقتصادي, بينما تطور مفهومها ليواكب التغيرات الهائلة في عالم اليوم, حيث أصبحت القيمة الحقيقية للحضارات, وأضحي القياس السليم لمكانة الدولة صادرين بالدرجة الأولي من حجم المعرفة المتاحة أمام صانع القرار, لذلك لم يكن غريبا أن يتصدر أصحاب الشركات الكبري المتخصصة في علوم الاتصالات الالكترونية ومنتجو لوازم الكمبيوتر وبرامجه قائمة أغني أثرياء العالم وأكثرهم ذيوعا, ومرجع ذلك أنهم يحترفون تجارة المعرفة ويحتلون المواقع المؤثرة في هذا الميدان الضخم, ولقد لفت نظري في حفل الزفاف الذي استدعي لدي كل هذه الخراطر أن من يعملون في ميادين المعرفة في مصر قد شدتهم جاذبية الثروة بل وزاغت أبصارهم أحيانا أمام بريق السلطة, وهذه كلها مظاهر عرفتها المجتمعات الحديثة في مراحل التحول, وهي تستند في الغالب إلي تطلعات مشروعة ترتبط بعملية الانتقال الطبقي, ولكن الذي يحتاج إلي تفسير هو محاولة البعض حيازة العناصر الثلاثة في وقت واحد, وفتح قنوات مستطرقة بينها علي نحو قد يؤدي إلي خلط الأوراق وتداخل المواقع وغياب العدل الاجتماعي.
ولقد طافت هذه الأفكار وغيرها بخاطري وأنا أتابع فقرات الحفل الساهر في مناسبة الزفاف الميمون لابنة الصديق المرموق ووجدتني أخلص من ذلك الحوار الصامت مع الذات إلي عدد من النتائج التي قد تكون صحيحة, وهي: ــ
أولا: إن أشد ما نحتاج إليه في هذه المرحلة من حاضرنا هو التركيز علي قضايا التحول الاجتماعي, والاحلال المدروس للقيم الجديدة بديلا للقيم التي لاتستقيم مع روح العصر ومطالب المستقبل, إننا بحاجة إلي نظرة جديدة تجاه طقوس حياتنا اليومية ومراسم احتفالاتنا المختلفة في الميلاد والزواج والوفاة.
ثانيا: إن بريق السلطة في مصر ـ علي ما يبدو في ظاهرة ـ لا يعادله بريق آخر, كما أن قيمة المعرفة لاتزال دون ما يجب أن تكون عليه, أما جاذبية الثروة فهي القاسم المشترك الذي يلهث وراءه معظم الناس في كل زمان ومكان.
ثالثا: إننا جميعا مسئولون عن تحديد أسلوب الحياة المصرية,ولا يدعي أحد أنه لم يشارك في تشكيل الصورة الحالية التي تحددت بها ملامح المجتمع الحديث, ولا نستطيع أن نشير فقط الي ركام التقاليد الموروثة دون أن نشير الي الأسرة ونظام التعليم وثقافة الحياة اليومية في بلادنا..
وصدحت الموسيقي الصاخبة, وكان حظي العاثر قد ساقني الي مقعد قريب من أحد مصادر تضخيم الصوت الذي انطلقت منه قذائف الأغاني الحديثة ذات الايقاع السريع التي تخاصم الطرب الأصيل وتجافي الذوق الرفيع, وتفرغ النجم ـ الذي تقاضي مبالغ طائلة للمشاركة في الحفل ـ لعملية استخدام واسعة النطاق لمواهب العروسين الذين أصبحا يتحملان العبء الأكبر في إحياء ليلتهما غناء ورقصا وهو ما يدفع بعض المدعوين مثلي الي المضي وراء ذهن شارد يفكر في أمور بعيدة عن اجواء المناسبة تدور حول قضايا قد يكون من غير المستحب الخوض فيها, لذلك وددت لو أن أصحاب الدعوة قد اختاروا لها حفل استقبال منظم تنساب منه الموسيقي الهادئة ويتحدث فيه المدعوون في ثرثرة بريئة قد تدور حول السلطة او الثروة او المعرفة, ثم يشكر العروسان في نهايته ضيوفهما لأنها مناسبة قد لاتتكرر في حياتهما مرة أخري!...
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/4/4/WRIT1.HTM