ظهرت كتابات عربية وأجنبية عديدة في الآونة الأخيرة تتحدث في ثناياها عن مستقبل الدور المصري اقليميا ودوليا, حتي أنني قرأت أخيرا مقالا رصينا لكاتب مصري في صحيفة عربية يعتمد صاحبه علي منهاجية لا تخلو من إحكام, ولا تفتقد إلي إثارة, حيث اتخذ الكاتب عنوانا حادا لمقاله وهو( السياسة الخارجية المصرية بين النظام العالمي وأوهام الشقيقة الكبري) ولقد ذهب ـ الكاتب فيما كتب ـ مذاهب شتي, ولكن الذي لفت نظري في مقاله هو قوله فدورنا الاقليمي يواجه اقليما مختلفا, سكتت فيه المدافع, وانفضت فيه المفاوضات ولن تعود إسرائيل ـ كما كانت طوال نصف قرن ـ العقدة المركزية التي حكمت كل سياساتنا, ولن يكون مجديا أن تركن مصر إلي خدر المفاهيم الشائعة عن دورها الاقليمي وعن محوريتها كدولة مهمة.
وإذا كان التوصيف الذي يقدمه الكاتب مقبولا في ظل احتمال قادم إلا أن النتيجة التي يعتمدها تتجاوز المنطق المؤسس علي خبرة الماضي وربما ينال أيضا من حركة التطور الطبيعي للأمم والسياق التاريخي للشعوب, فالأدوار القومية لا تنتهي فجأة لانها لا تبدز من فراغ, ولكنها معطاة قائمة تعتمد علي مقومات لازمة, والدور المصري لم يكن منحة من أحد, أو تفضلا من الغير, ولكنه نتيجة طبيعية لتوظيف مكانة مصر عبر العصور, وتصديها لكل الغزاة والطغاة الذين استهدفوا ميراث هذه المنطقة ومقدساتها وثرواتها, وليس ذلك تعبيرا منا عن شيفونية مغلقة بقدر ما هو استقراء عادل للتاريخ, وقد يقول قائل إن استجداء المكانة بالاستدعاء المستمر لذكريات الأمم وماضي الشعوب هو دوران في حلقة مفرغة بلا نهاية, وهو تأكيد لرغبة موروثة في أن نردد دائما ما نريد سماعه, وأن نعيش في أجواء مجد نذكره وغابر يقبع في الذاكرة القومية دائما.. ولكن الأمر في ظني يختلف عن ذلك برغم تسليم بأن غرامنا بالماضي ظاهرة لا ننكر وراثتها شأننا في ذلك شأن أصحاب الحضارات القديمة, والآن دعونا نرصد الأمر من مرصد الحاضر ذاته في محاولة محسوبة لاستكشاف المستقبل والاجابة عن السؤال الحال وهو هل تحمل التطورات المقبلة إلي الشرق الأوسط تأثيرا سلبيا علي الدور المصري المحوري عند الوصول إلي التسوية النهائية للصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ إن الاجابة عن هذا السؤال تقتضي البحث أولا في معطيات ذلك الدور, ثم التفكير ثانيا في العوامل التي تستجد عليه, ثم الوصول ثالثا إلي تقييم موضوعي له علي ضوء توافر ارادة للحفاظ عليه والانطلاق به.
إن الدور المصري قام تاريخيا علي أعمدة متعددة منها الحضاري والثقافي, ومنها السياسي والاستراتيجي, ومنها الاقتصادي والتجاري, ومنها الاجتماعي والسكاني, فالدور المصري تكون بالتراكم المستمر الذي لم يعف الانقطاع عبر التاريخ المكتوب كله, فالكيان المصري قائم ومنذ ظهور الدولة الأولي التي لم تتأرجح بين الأنزواء والاختفاء في مراحل مختلفة من تاريخها مثل غيرها من الكيانات والدول, والدور المصري بذلك معطاة تاريخية الوجود, دائمة دون توقف, ومستمرة بغير انقطاع, وقد مارس هذا الدور فاعليته عبر مراحل تطوره المختلفة فكانت مصر في الصدارة الفكرية, وفي المواجهة العسكرية, تحمل الراية وتقدم التضحيات مهما كانت طبيعة العدو المقبل إلي المنطقة من هكسوس أو مغول أو فرنجة, حتي جاء ذكرها في الكتب المقدسة للأديان السماوية الثلاثة, وارتبط اسمها بتعريف الدولة القديمة, ثم ازدهرت علي أرضها حضارات البحر المتوسط, فهناك من يؤكدون دائما أن الحضارة الأغريقية وجدت مركز اشعاعها الأساسي في مدينة الاسكندرية المصرية وحدها عندما كان البحر المتوسط هو بحيرة الحضارات الكبري بدءا من الحضارة الفرعونية ـ المعلمة الأولي ـمرورا بحضارات الاغريق والرومان علي سواحل أوروبا الجنوبية, وثقافات فينيقيا وبيزنطه علي سواحل آسيا الغربية المطلة علي شرق المتوسط, ويكفي أن نتذكر هنا الجدل الذي ثار علي عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ عند التفكير في فتح مصر للإسلام الحنيف وكيف كانت لمصر ـ رغم الفتوحات الاسلامية علي أرض الروم والفرس ـ مهابة خاصة ومكانة فريدة, فقد كان الوادي الأخضر والدلتا الخصبة والنيل العظيم والأهرام الشامخة, كانت كلها رموزا ضخمة في ذلك الوقت من تاريخ البشرية, ولكن تمكن عمرو بن العاص بدهائه وذكائه من اقناع الخليفة بأن الوقت قد حان, وأن الظروف مناسبة لفتح مصر, خصوصا أنها البلد الوحيد الذي جاء ذكره خمس مرات صراحة في القرآن الكريم, ومرات عديدة أخري بالاشارة غير المباشرة, وقد انتقل الدور المصري تاريخيا بفعل التطور الطبيعي وظهور الدولة الحديثة من مرحلة الدور التحريري الذي يتصدي للغزوات والحملات إلي دور تنويري يواجه عصور الظلام والانحطاط والجهل, وظل هذا الدور المزدوج ـ التحريري والتنويري ـ مقترنا بشخصية مصر عبر تاريخها كله, فهي صاحبة حضارة البنائين, كما أن الكاتب المصري هو المعلم الأول, والمقاتل المصري هو خير أجناد الأرض والذي دكت سنابك خيله هضبة الأناضول, وشاركت قواته في حرب المكسيك, وغزت طلائعه سواحل افريقيا الشرقية وأعالي النيل وغرب الصحراء المصرية وشواطئ المتوسط وصحراء الجزيرة العربية ومدن الشام, ومن خلال هذه السبيكة الرائعة التشكيل لعبت مصر الحديثة الدور المحوري المركزي في عملية الانتقال بالمنطقة كلها من عصور التخلف الفكري إلي مرحلة الانطلاق النهضوي خلال القرنين الأخيرين, وبرزت أسماء الكوكبة اللامعة من أمثال رفاعة الطهطاي وعلي مبارك ومحمد عبده والعقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسي وغيرهم عشرات من الرموز الباقية التي حملت مشاعل التنوير في ظل حكم أسرة محمد علي إبان العلاقة الاسمية بالخلافة العثمانية, ثم مصر الملكية ومصر الجمهورية, وارتكز الدور المصري علي التعليم والثقافة باعتبارهما دعامتين للإنطلاق نحو آفاق العصر وروحه الوثابة, كما ظلت مصر قلعة للثقافة العربية الاسلامية, وبوتقة تنصهر علي أرضها الحضارات, وتلتقي فوقها التيارات الفكرية المختلفة, وبقيت دائما حافظة للتراث, حامية للقيم, حاضنة لأصحاب الرأي وطلاب الحرية, ويكفي أن نتذكر هنا استقبالها للقادمين من الشام الكبير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الذين وفدوا طلبا للحماية والحرية في ظل الدور المصري الرائد ولكي يسهموا علي أرضه في بناء الصحافة والمسرح والسينما وغيرها من الآداب والمعارف والفنون, إن ذلك يعني باختصار ان مصر كانت هي التي تعطي جواز المرور إلي المنطقة كلها, سواء كان حامله كاتبا موهوبا, أو مفكرا مرموقا, أو فنانا معروفا, أو مبدعا يسعي إلي التألق في السماء العربية, ولقد جاء علي الدور المصري حين من الدهر كانت ركيزته سياسة بالدرجة الأولي حيث مكانته القومية تسبق غيرها عندما إقترن ذلك الدور الاستراتيجي بالصراع العربي ـ الإسرائيلي علي امتداد النصف الثاني من القرن العشرين, فمارست مصر دورا فاعلا في دعم حركات التحرر, وبعث روح جديدة في الشارع العربي من مشرقه إلي مغربه, حتي جاءت حرب يونيو1967 لتمثل انتكاسة عابرة للدور المصري, وإن أصبحت في الوقت ذاته نقطة تحول كبري وعلامة أساسية علي طريق مصر للانطلاق نحو مرحلة جديدة علي الأصعدة الفكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية, فعندما تمكن الجيش المصري من عبور قناة السويس ودك حصون المحتل في شرقها في أكتوبر1973, فإن ذلك كان في حد ذاته إيذانا بأن الدور المصري هو القائد دائما مهما كانت الظروف ومهما بلغت التحديات, وعندما بدأت مسيرة التسوية السلمية بمبادرة مصرية من الرئيس الراحل أنور السادات تأكد الجميع أيضا أن مصر هي القائدة في الحرب وهي الرائدة في السلام, وحين تقدمت المسيرة خطوات أكثر شمولا بدخول دول عربية أخري فيها أو إقدام البعض الآخر علي اللحاق بها فإن الحديث بدأ يتردد همسا ثم يرتفع جهرا في إشارة مغرضة إلي أن الدور المصري سوف يتضاءل في ظل أجواء السلام المقبل, كما لو أن ذلك الدور كان مرتبطا فقط بقرعات طبول الحرب وأنواء الصدام المسلح وأعاصير المواجهة العسكرية, بينما الدور المصري سابق علي وجود إسرائيل بعشرات القرون وسوف يستمر قائدا ورائدا في المستقبل ما بقيت هناك إرادة وطنية تحميه وفكر مصري يستند إليه.
ويكفي هنا للرد علي كل الذين يحاولون النيل من الدور المصري في سنواته الأخيرة أن أسوق إليهم نماذج ثلاثة, متجاوزا أمورا أخري يؤكدها الرصيد اليومي لمسيرة الأحداث بدءا من دعم مصر اللامحدود للمفاوض الفلسطيني منذ خروج أبي عمار من بيروت حتي لقاء شرم الشيخ الأخير, واضعا في الاعتبار تضحيات سابقة علي ذلك وجهودا لاحقة بعده, فضلا عن دور تحرري إمتد من اليمن إلي الجزائر ومن جنوب افريقيا إلي سواحل المتوسط, وهذه النماذج الثلاثة التي إخترناها كمجرد أمثلة لطبيعة الدور المصري في السنوات الأخيرة تدور حول:
أولا: الدور المصري في نزع فتيل الصدام بين الجمهورية التركية والحدود الشمالية للأمة العربية:
سوف يسجل التاريخ أن رئيس مصر حسني مبارك هو الذي أنقذ المنطقة من صدام مخيف كانت نذره تلوح في الأفق عندما بدأت رياح عاتية تهب علي العلاقات السورية ـ التركية بفعل اتهام أنقرة لدمشق بدعم حزب العمال الكردستاني الذي كان يقوم بأعمال عنف مكثفة في ظل قيادة عبدالله أوجلان, يومها ترك الرئيس المصري أضواء الاحتفال في عاصمة بلاده بذكري إنتصار أكتوبر المجيد عام1998 ليتجه إلي العاصمة التركية في محاولة عاجلة لانقاذ العلاقات العربية التركية التي كانت مرشحة للتردي الكامل والصدام المسلح خصوصا في ظل الاتفاق الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل, واستطاعت الدبلوماسية المصرية يومها بجهد كبير ومسئولية كاملة إنهاء احتمالات الصدام الوشيك وفتحت بابا بين سوريا وتركيا مازال يؤتي ثماره من أجل علاقات طبيعية بين البلدين, أليس ذلك هو الدور المصري الذي يتحدثون عن تهميشه؟
ثانيا: العلاقات المصرية ـ الخليجية:
لقد كانت تلك العلاقات مرشحة هي الأخري لعمليات تخريب متتالية تبدأ بافتعال حملات صحفية متبادلة بين مصر وبعض شقيقاتها في الجزيرة العربية والخليج لأسباب قد تبدو سطحية للغاية, ولعلنا نتذكر في هذه المناسبة تلك المحاولة المفتعلة للإساءة للعلاقات الوثيقة بين مصر ودولة قطر الشقيقة, وكيف استطاع رئيس مصر بصبره وحكمته أن يتفادي الوقوع في شراك هذه العملية المصطنعة ولتصبح العلاقات بين البلدين بعد ذلك أكثر قوة وأشد متانة, بل إن الافتعال المتكرر للمواجهات الطارئة بين العمالة المصرية والدول العربية الشقيقة التي تستضيفها, هي الأخري نوع من استهداف علاقات مصر باجزاء غالية من أرض امتها العربية وافتعال مشكلات تسئ إلي العلاقات المتينة بين مصر وتلك الدول, ولكن مصر ترتفع بحكمتها المعهودة وصبرها الطويل فوق الاحداث العابرة وتضعها في حجمها الطبيعي, فكيف يكون ذلك هو الدور المصري الذي يردد المغرضون الحديث المتكرر عن احتمالات انكماشه؟
ثالثا: مصر والسودان.. حديث التاريخ والأشجان
إن الحديث عن السودان ذو شجون لأنه البلد التوأم, والعمق الاستراتيجي, وجار الجغرافيا, ورفيق التاريخ, وقد لعبت مصر دائما دورا اساسيا في الحفاظ علي خصوصية العلاقة بين البلدين الشقيقين حتي دهش العالم عندما وقفت مصر ضد فرض العقوبات علي السودان عندما اتخذ مجلس الأمن قرارا في ذلك الشأن, وكانت مصر وقتها تشعر بطعنة حادة ارتبطت بمحاولة آثمة استهدفت حياة رئيس مصر اثناء حضوره للقمة الافريقية في أديس أبابا عام1995, وكان السودان متهما بإيواء العناصر التي دبرت وشاركت في تلك الجريمة النكراء, ومع ذلك لم تخلط مصر الأوراق ولم تسمح للمواقف الطارئة أن تغير من مسار التاريخ الطويل أو تنال من خصوصية العلاقة الأزلية, وظلت مصر وفية للعهد, حريصة علي وحدة السودان وسلامة اراضيه, وسوف تظل كذلك ما بقي النيل يجري في دماء أبناء البلدين, فهل هذا هو الدور المصري الذي يتحدثون عن تآكله؟
هذه نماذج ثلاثة يضاف اليها امثلة أخري كثيرة فمصر هي التي حمت الشرعية العربية عندما غزا العراق الكويت عام1990, وهي أيضا مصر التي تقف في مقدمة دول العالم دفاعا عن شعب العراق الشقيق وطالبا لرفع المعاناة عنه.. إنها مصر التي لم تتعامل بمنطق الاساءة أو اسلوب العدوان أو فلسفة التسلط, فما خرج الجيش المصري من أرضه الا مدافعا عن حق, مقاتلا في سبيل مبدأ, عائدا إلي وطنه بعد أن يؤدي رسالته الوطنية والقومية لأنه ابن مصر التي ساندت أصحاب القضايا العادلة, وضحت من أجل تحرير الأرض العربية المحتلة.. إنه دور مصري تاريخي لبلد عريق لا يتخلي يوما عن مسئولياته, ولا يفرط ابدا في التزاماته, ولا يتقاعس لحظة عن واجباته, أنه بلد وقضية.. وشعب ورسالة.. ووطن ودور.. فالقضايا القومية لا تضيع, والأدوار الوطنية لا تختفي, والرسالات التنويرية لا تنتهي, ومهما تكاتفت السحب في سماء الشرق الأوسط, أو تلبدت الغيوم في شرقي وجنوب المتوسط, سوف تظل مصر متألقة ساطعة.. إنها شمس لا تغيب!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/3/21/WRIT1.HTM